قارونُ من قوم موسى أومِن قوم فرعون؟

شبهة مسيحي:

يقول القرآن في سورة العنكبوت: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾(1) فما نجده في هذه الآية أنَّ قارون مع فرعون وهامان أي من قومهم، وفي سورة المؤمنون (44- 48) نجد فريقين أمام بعضهم الفريق الأول موسى وهارون والفريق الثاني فرعون وملئه، ولكنَّ ما نجده في سورة القصص مناقضاً حيث ذكرت أنَّ قارون من قوم موسى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾(2) فمَن ينتمي لمَن يا ترى؟

الجواب:

مغالطة واهية!

هذه الشبهة لا تعدو المغالطة الواهية التي لم يُحسن صاحبُها الحَبْك في الصياغة لها، فهي قد بَنَتْ الحكم بالتناقض على فهمٍ للآية من سورة العنكبوت لا يُمكن حمله إلا على تعمُّد الإيهام، إذ من المُستبعَد جدَّاً أنْ ينشأ مثل هذا الفهم عن قناعةٍ أو حتى احتمال يَعتدُّ العقلاءُ بمثله.

فهو قد فرض أنَّ الآية من سورة العنكبوت وهي قوله تعالى: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾ تدلُّ على انَّ قارون كان من قوم فرعون أي من القبيلة التي ينتمي إليها فرعون نسباً، وبنى على ذلك أنَّ الآية حينئذٍ تكون مناقضة لِما ورد في سورة القصص من أنَّ قارون كان من قوم موسى أي أنَّه كان من بني إسرائيل كما كان موسى (ع) من بني إسرائيل.

فالآيةُ من سورة القصص، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ وإنْ كانت واضحة في أنَّ قارون كان من بني إسرائيل إذ أنَّ موسى (ع) من بني إسرائيل إلا أنَّ الآية من سورة العنكبوت ليس لها ظهور بل ولا حتى إشعار بأنَّ قارون كان من قوم فرعون حتى يُدَّعى منافاتها لِما ورد في سورة القصص.

فغاية ما تقتضيه الآية من سورة العنكبوت هو أنَّ قارون وفرعون وهامان كانوا في عهد موسى (ع) وأنَّه جاءهم بالهدى وبرهن لهم على صدق دعوته بالعديد من البيِّنات إلا أنَّهم استكبروا فلم يُذعِنوا لما جاءهم به من البيِّنات، لذلك استحقُّوا العذاب، فلم يكونوا كما لم يكن غيرهم سابقين أي لم يكن علوُّهم المزعوم موجباً لفواتهم وخلاصِهم من عذاب الله جلَّ وعلا.

منشأ ذكر قارون مع فرعون وهامان

هذا هو ما يقتضيه مفادُ الآية من سورة العنكبوت، فهي لم تكن بصدد التصنيف والبيان للنسب الذي ينتمي إليه هؤلاء الثلاثة المذكورون في الآية، ومن الواضح البيِّن أنَّ ذكرهم في عرضٍ واحد لا يعني انَّهم ينحدرون من نسبٍ واحد على أنَّ الآية ظاهرةٌ فيما هو منشأ ذكرهم في سياقٍ واحد، حيث أفادت انَّ هؤلاء الثلاثة يشتركون في أنَّهم كانوا في عهد موسى (ع) وأنَّه قد جاءهم بالبينات فاستكبروا، فذلك هو منشأ ذكرهم في سياقٍ واحد.

ماهو الوجه في ذكر قارون ضِمن مَن بُعث إليهم موسى (ع)؟

وما قد يقال إنَّ قارون إذا لم يكن من قوم فرعون فما وجه ذكره فيمن بُعث إليهم موسى (ع) بالبيِّنات، وموسى إنَّما بعث بالبيِّنات إلى فرعون وملئه كما أفاد ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنون: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ﴾(3).

فجوابه:

أولا: موسى (ع) بُعث لبني اسرائيل أيضاً:

إنَّ موسى(ع) لم يُبعث بالبيِّنات إلى فرعون وملئه فحسب بل بُعث بالبيِّنات إلى بني إسرائيل أيضاً كما أفاد ذلك القرآن الكريم في موارد عديدة:

منها: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾(4).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾(5).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾(6).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(7).

مثالٌ توضيحي:

فما أفادته الآيات من سورة المؤمنون وكذلك غيرها من أنَّ موسى (ع) بُعث إلى فرعون وملئه ليس فيه دلالة بل ولا إشعار بأنَّ موسى(ع) لم يُبعث لغيرهم كما هو أوضح من أنْ يخفى، فحينما يُقال: بعث السلطان رسوله إلى والي بغداد، فإنَّ ذلك لا يدلُّ على أنَّه لم يبعثه إلى والي دمشق أيضاً، لذلك لو جِيئ بخبرٍ آخر مفاده انَّ السلطان بعث رسوله نفسه إلى والي دمشق فإنَّ أحداً لا يجد تنافياً بين الخبرين بل يفهم من مجموع الخبرين أنَّ السلطان قد بعث رسوله إلى كلٍّ من والى بغداد ووالي دمشق.

فإخبار الآيات من سورة المؤمنون بأنَّ موسى (ع) قد بُعث إلى فرعون وملئه وإخبار الآية من سورة العنكبوت بأنَّ موسى (ع) بعث إلى قارون وفرعون وهامان لا يقتضي الظهور في أنَّ قارون من ملئ فرعون وبذلك يكون من قومه، فإنَّ موسى (ع) كما بُعث لفرعون وملئه فإنَّه بُعث أيضاً إلى بني إسرائيل.

فخلاصة القول هو إنَّ ذكر قارون ضمن من بُعث إليهم موسى (ع) لا يدلُّ على أنَّ قارون كان من قوم فرعون، بإعتبار أنَّ من بُعث إليهم موسى (ع) هم فرعون وملئه، وذلك لأنَّ موسى (ع) كما بُعث لفرعون وملئه فإنَّه قد بعث أيضاً إلى بني إسرائيل.

ثانيا: قارون مِن ملأ فرعون أيضاً:

إنَّ الآيات من سورة المؤمنون لم تقل إنَّ الله قد بعث موسى إلى فرعون وقومه أو إلى فرعون وآل فرعون وإنَّما أفادت انَّ موسى (ع) بُعث إلى فرعون وملئه، وملئُ فرعون هم أتباعه وأجناده، وليس من الضروري أنْ يكون كلُّ أتباع فرعون وأجناده من بني قومه المنتمين إليه نسباً بل لا يتَّفق ذلك غالباً، ولذا فقد يكون في أتباعه رجالٌ من بني إسرائيل، فلا موجب لإستظهار أنَّ كلَّ مَن كان من ملئ فرعون فهو من قومه.

قارون ليس من قوم فرعون

ثم إنَّ هنا مؤيِّداً آخر على أنَّ قارون لم يكن من قوم فرعون المنتمين له نسباً وهو أنَّ قوم فرعون قد غرقوا جميعاً في اليَم كما أفاد ذلك قوله تعالى: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾(8) إلى قوله تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(9) ومن الواضح أنَّ قارون لم يكن هلاكه بالغرق، ذلك لأنَّ القرآن قد صرَّح بأنَّ قارون خُسِفتْ به وبداره الأرض، فإبتلعته وما كان يملك من كنوزٍ وأموال قال تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾(10) إلى قوله تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾(11).

خلاصةٌ ومزيدُ بيان:

وكيف كان فيكفي لنفي دعوى التناقض أنَّ ما بُنِيت عليه هذه الدعوى كان واضح الفساد، فهي قد بُنِيت على أن الآية من سورة العنكبوت مقتضية لإفادة أن قارون كان من قوم فرعون، وهذا الإقتضاء ليس له وجهٌ سوى ماتوهَّمه صاحبُ الشبهة من أنَّ ذكر قارون في سياق ذكر فرعون وهامان معناه أنَّ قارون كان من قوم فرعون، وتبيَّن ممَّا تقدم أنَّ التعداد لأشخاصٍ في سياقٍ واحد لا ظهور له بل ولا إشعار بأنَّهم ينتمون إلى نسبٍ واحد، والآية لم تكن بصدد التصنيف لأنساب المذكورين، فهي لا تدلُّ حتى على أنَّ هامان من قوم فرعون المنتمين له نسباً فضلاً عن قارون.

والآية إنَّما ذكرت هولاء الثلاثة في سياقٍ واحد لأنَّهم الجبابرة اللذين كانوا في عهد موسى (ع) ففرعون كان يدَّعي أنَّه الربُّ الأعلى، وهامان كان وزيره الأول والأكثر نفوذاً في مملكة فرعون، وأمَّا قارون فكان ثريَّاً طاغياً، وقد بلغ من ثرائه أنَّ مفاتيح الخزائن لكنوزه يشقُّ حملها مجتمعة على العصبة من أولي القوة، فهؤلاء الجبابرة الثلاثة كانوا في عهد موسى (ع) وكلٌّ منهم قد أصابه عذابٌ من الله تعالى بعد أنْ دعاهم موسى (ع) فاستكبروا، فحيث إنَّ الآيات من سورة العنكبوت التي وقعت الآية مورد البحث في سياقها كانت بصدد التعداد لمَن بعث الله تعالى لهم رسلاً فاستكبروا وما إستجابوا مثل قوم لوط وقوم شعيب وعاد وثمود لذلك ذكر الله تعالى هؤلاء الثلاثة اللذين كانوا في عهد موسى ضِمن من بُعث إليهم رسلاً فاستكبروا فوقع عليهم العذاب، ثم تصدَّت الآية التي بعد الآية مورد البحث للإشارة إلى كيفيَّة ما أصاب كلَّ هؤلاء اللذين ورد ذكرهم في الآيات فأفادت انَّ منهم مَن حُصبوا بحجارةٍ من السماء، وهم قوم لوط، ومنهم من أخذته الصيحة، وهم قوم شعيب وقوم عاد وقوم ثمود، ومنهم من خُسفت به الأرض، وهو قارون، ومنهم مَن تمَّ إغراقه في البحر، وهما فرعون وهامان، قال تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾(12) إلى أنْ قال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾(13) إلى قوله تعالى: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾(14) ثم قال تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(15) فهذا هو منشأ ذكر قارون في سياق ذكر فرعون وهامان.

وجهٌ آخر لمنشأ الشبهة:

ولعلًّ صاحب الشبهة قد توهَّم أنَّ قوله تعالى من سورة القصص: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ معناه أنَّ قارون كان ممَّن آمن بموسى (ع) لذلك تكون الآية منافية لقوله تعالى: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾.

الجواب:

هل آمن قارون؟

فلو كان هذا هو مقصوده فجوابه إنَّ إخبار الآية بأنَّ قارون كان من قوم موسى (ع) لا يُساوق الإخبار بإيمانه كما هو واضح، ثم إنَّ بني إسرائيل لم يكن جميعُهم قد آمن بموسى (ع) كما أفاد ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾(16) فمعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ إلى تمام الآيات هو أنَّ قارون كان من بني إسرائيل فكان ينتمي نسباً لموسى (ع) لكنَّه بغى وتطاول واستكبر على قومه، وهم بنو إسرائيل، فكان يخرج عليهم في زينته متبختراً، لأنَّه أُوتي من الكنوز ما يشقُّ حمل مفاتيح خزائنها على العصبة من الرجال، وكان يرى أنَّ الكنوز التي بيده لم تكن من عطاء الله تعالى وإنَّما جمعها بجهده وإختصَّ بها لعلمه وفطنته: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾(17) وذلك من الكفر لأنَّه قال ذلك جواباً لمَن نصحه من قومه بقوله: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾(18) فهو ينفي بجوابه ذلك الربوبيَّة لله تعالى، ويرى لنفسه الإستقلاليَّة في التدبير، ولهذا عقَّبت الآية على جوابه بإلإستنكار الشديد فقال تعالى بعد قوله: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾(19) هذا هو مفاد الآيات من سورة القصص، فهي إن لم تكن ظاهرة في كفره، فإنَّه ليس فيها ما يقتضي إستظهار إيمانه.

حتى لو آمن فلا تناقض

ولو سلَّمنا جدلاً بأنَّ الآية من سورة القصص ظاهرةٌ في أنَّ قارون كان قد آمن بموسى (ع) فإنَّ الإلتزام بذلك غير ضائر، فيُمكن القبول بأنَّ قارون كان قد آمن بموسى (ع) ثم عاد فبغى واستطال واستكبر حينما مُنح الكنوز والثروة الطائلة كما صرَّحت بذلك الآيات من سورة القصص، فيكون شأنه في ذلك شأن السامري الذي كان قد آمن بموسى (ع) ثم صنع العجل ودعى الناس إلى عبادته من دون الله تعالى.

فليس بين الآية من سورة القصص والآية من سورة العنكبوت تنافٍ بل بينهما تمام الملائمة، فإنَّ الآية من سورة العنكبوت أفادت أنَّ منشأ الهلاك الذي وقع على قارون هو استكباره في الأرض: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾(20) وكذلك فإنَّ الآية من سورة القصص والآيات التي تليها أفادت انَّ منشأ هلاك قارون هو استكباره في الأرض وبغيه وطغيانه، وأما أنَّه كان قد آمن بموسى (ع) أو لم يكن قد آمن، فذلك ممَّا لا أثر له لأنَّ الآية من سورة القصص لو كانت ظاهرة في أنَّه كان قد آمن بموسى (ع) فإنَّها تُثبت في ذات الوقت أنَّه في منتهى أمره قد بغى واستكبر وطغى وتمرَّد على ما جاء به موسى (ع) فكان ذلك هو منشأ هلاكه، والآية من سورة العنكبوت لا تنفي تلبسُّه بالإيمان آناً ما وإنَّما تُثبت استكباره وأنَّ ذلك هو منشأ هلاكه، وهذا ما تُثبته الآيات من سورة القصص أيضاً. فما تُثبته الآية من سورة العنكبوت تُثبته الآيات من سورة القصص أيضاً، وما يُفترض أنَّ الآية من سورة القصص قد أثبتته فإنَّ الآية من سورة العنكبوت لا تنفيه.

وهكذا فإنَّ الآية من سورة غافر والتي هي صريحة في كفر قارون: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إلى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾(21) لا تمنع من إمكانيَّة تلبسُّه بالإيمان بموسى بعد مبادرته للكفر واتِّهامه لموسى (ع) بالكذب، فيكون قد بادر إلى الكفر فيمَن بادروا ثم لمَّا هلك فرعون وقومه بالغرق تلبَّس بالإيمان لأنَّه لم يجد مندوحة عن ذلك، وحين صارت له الكنوز والثروة الطائلة طغى وبغى وتمرَّد على موسى (ع) وقومه، فإنَّ كلَّ ذلك لا تنفيه الآية من سورة غافر ولا الآية من سورة العنكبوت.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحية


1- سورة العنكبوت / 39.

2- سورة القصص / 76.

3- سورة المؤمنون / 45-48.

4- سورة البقرة / 92.

5- سورة الإسراء / 101.

6- سورة الإسراء / 2.

7- سورة السجدة / 23.

8- سورة الزخرف / 51.

9- سورة الزخرف / 53-55.

10- سورة القصص / 76.

11- سورة القصص / 81.

12- سورة العنكبوت / 28.

13- سورة العنكبوت / 36.

14- سورة العنكبوت / 38-39.

15- سورة العنكبوت / 40.

16- سورة يونس / 83.

17- سورة القصص / 78.

18- سورة القصص / 77.

19- سورة القصص / 78.

20- سورة العنكبوت / 39.

21- سورة غافر / 23-24.