دور صلاة الجماعة في البناء الاجتماعي

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد

ثمَّة أمورٌ تُساهم في تقويمِ البناء الاجتماعي اعتمد بعضَها أكثرُ الشعوب والمجتمعات بدافعٍ من طبيعة الإنسان المقتضية للسعي نحو كلِّ ما يبعث على الألفة والمؤانسة، وذلك بدوره يُساهم في تقويم البناء الاجتماعي.

والإسلام جاء ليُؤكِّد على الكثير من هذه الوسائل بعد تهذيبها أو تطويرها وذلك لاهتمامه البالغ بمسألة البناء الاجتماعي نظرًا لوقوعه في صراط الغرض الإلهي من خلق الإنسان، أعني الكمال الذي اقتضت الإرادة الإلهيَّة أن تمنحه للإنسان عبر مدارجَ دأبَ الأنبياءُ والأوصياءُ على توصيفها والأخذ بأيدي الناس إلى حيثُ موارد عبورها.

ولأنَّ الوسائل التي اعتمدتها الشعوبُ والمجتمعات لم تكن كافيةً لإنتاج أمّةٍ يصحُّ توصيفها بالبنيان المرصوص كان ذلك موجبًا لاستحداثِ وسائلَ تكون أكثر قدرةً على تحصيل هذا الغرض فكانت العبادات الجماعية -إذا صحَّ التعبير- واحدة من تلك الوسائل التي استحدثها الإسلام وأحكم صياغتها وجعل منها أداةً قادرةً على خلْقِ مجتمعٍ متماسكٍ تحوطُه الهيبةُ والوقارُ وتتخلل ثناياهُ السكينةُ والاستقامةُ وتستفزُّ في النفوسِ الرغبةَ الملحة في التكامل.

ونودُّ في المقام أن نقفَ على واحدٍ من نماذج العبادات الجماعية التي سنَّها رسولُ الله (ص) وهي صلاة الجماعة لنبحثَ فيها عن العناصر المنتجة للبناءِ الاجتماعي. ونبدأ أولاً بأكثر هذه العناصر فاعليَّةً لتحصيل الغرض المذكور أعني إمامِ الجماعة، فلأنَّ المفترضَ كون الغرض الإلهي من تشريع هذه السنَّة المباركة متبلوراً عنده أكثر من غيره، ولأنَّ المفترض كونه أحرص الناس على تمثُّـل هذا الغرض وأكثرهم جدِّية في ذلك، ولأنَّه يمتلك مقدارًا من وسائل الوصول لهذا الغرض حيث يفتقر لها غيرُه، لأنَّ الأمر كان كذلك صحّ اعتبارُه العنصرَ الأكثر فاعليَّة لتحصيل الغاية من تشريعِ هذه السنَّة المباركة.

فحينما يكون الإمامُ للجماعة واجدًا لملكاتِ الخير والفضيلة متعفِّفًا صالحًا تقيًّا ورعًا دمِثَ الأخلاق سهلَ الطباع انعكس ذلك على مجتمعه، إذْ ما من شيءٍ أبلغُ أثرًا في المجتمع من القدوةِ الصالحة، وليس من أحدٍ أجدرُ بها من طالب العلم المتصدِّي لإمامةِ الجماعة حيثُ هو المنظور من بين أفراد مجتمعه.

فالاهتداءُ بهدْيهِ ومكارمِ أخلاقِه هي الوسيلة الأكثرُ تأثيرًا في مجتمع تشغلُه عن تحصيلِ المعارفِ والأخلاق اهتماماتُه اليوميَّة. وإذا انضمَّ لذلك ما يُمارسُه إمامُ الجماعة من دورِ الوعظ والإرشاد على المستويين الشخصيِّ والعامِّ أسهم ذلك في تسارع الخطى نحو البناءِ الاجتماعي.

قد يتساءل البعض فيقول: أيُّ صلةٍ بين التقوى ومكارم الأخلاق وبين البناءِ الاجتماعي والجوابُ لايخفى على أمثالكم وأنَّه ما مِن شيءٍ أدعى لتماسك المجتمع وتشييد مبانيه من الخُلق الحسن، فهو مدارُ البناءِ والنقض، فبسوء الخُلق ينتقض بناؤه وبحسن الخلق تتشيد أركانه.

قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا﴾(1).

وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(2).

وقال تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(3).

ثم إنَّ إمام الجماعة إذا كان ذا بصيرةٍ ووعي بزمانِه وبأهلِ زمانه يقِظاَ حذِرٌاً من الانسياق في مضلات الفتن، لا تلتبس عنده مشبهات الحقِّ من مصرَّحاتها يتحرَّى الهدى ويعرف سبيلَه، وهو في ذات الوقت ثابتَ القلب قويَّ الجَنان مُدركاً لما يُصلحُ شأنَ الناس وما يضرُّ بحالِهم وبكيانِهم ثم تصدَّى لإيقافِهم على كلِّ ذلك كلَّما دعت الحاجةُ للقول أو الموقف أسهم ذلك في بناء كيانٍ لهم لو لم يكن لهم كيان كما يُسهم في حمايةِ كيانِهم من الانتقاض لو كان لهم كيان. وبذلك يكونُ إمامُ الجماعة هو العنصر الأكثر فاعليَّةً في البناء الاجتماعي.

العنصر الثاني: هو نفس الاجتماع للصلاة في مكانٍ واحدٍ، إذ أنَّ ذلك لا يكادُ يتهيأ لمجتمعٍ من المجتمعات ولا تكادُ تُجدي لتحصيلِه مختلفُ الغاياتِ والدعوات، ولو اتَّفق حصولُه فإنَّه يفتقر لعنصر الدوامِ والاطِّراد، ولو اتَّفق له الدوام فإنَّه لن يتاحَ لهم الاجتماع في هذه الأزمنة المتقاربة، هذا بالإضافة إلى نوع الغاية وما تكتنزه من معان ساميةٍ ومقاصد عالية، أعني التقربَ إلى الله تعالى والحرصَ على تحصيلِ ثوابِه ورضوانه، وذلك وحدَه كافٍ لأنْ يتأهَّلوا للتسديد والعناية الإلهيَّة وأنْ يكونوا محلا لتلقِّي الهداية والألطاف الإلهية المنتجة بذاتها للشعور بالتوادِّ والألفة، وهو ما يدعو للتكافل والتراحم وحينئذٍ تشتدُّ اللُحمة وتتوثَّق العلائقِ ويُصبحوا نسيجًا واحدًا متماسكاً يشقُّ على مبتغي الفتنة نقضُه وفتلُه.

اجتماعُ الأخوان -كما أفاد أمير المؤمنين (ع)- مغنم كبير، ذلك لأنَّ الاجتماع خصوصًا إذا كان مطردًا يُساهم في إيجاد الألفة والشعور بالأنس وارتفاع الحواجز، وحينئذٍ تصبحُ الألفة والمؤانسة واحدًا من بواعث الاستمرار كما هو مقتضى طبع الإنسان. والألفة عنصر شديدُ الأثر في البناء الاجتماعي، فبها تذوبُ الأضغانُ والأحقادُ والتحاسد والتنافر، وليس من آفةٍ أكثر تدميرًا للبناء الاجتماعي من الأضغان والتحاسد.

ثم إنَّ هنا أثرًا يترتَّب على الألفة والأنس هو الشعورُ بالحياء والخجل من ممارسة ما يشين، فالنفورُ والاستيحاش ينتجان الشعور بعدم المبالاة ونقيض ذلك ما تُنتجه الألفةُ والمؤانسة.

فإذا ما أنِسَ الإنسانُ بأخيه راقبَه وتحاشى مساءته، وذلك ما يُنتجُ اختفاءَ الكثيرِ من المعاصي والكثيرِ من صنوفِ الظلم والتعسُّف والغشِّ والاحتيال والبخس والترابي والتي هي من أقسى معاولِ النقضِ للبناء الاجتماعي، وكذلك هي المعصية أو التجاهر بها.

وثمة اثرٌ آخر يترتَّب عن اجتماع المؤمنين للصلاة هو التعرُّف على أحوال بعضهم بعضًا فذلك هو طبع الإنسان إذا ما ألِف أحدًا أو كثرت مصادفتُه لرؤيته، فإذا ما أُضيف لذلك الوازع الديني والباعث الأخلاقي الذي أكَّدته مواعظ الإمام وإرشاداته فإنَّ التعارف حينئذٍ سيكون بدافع من الشعور بالمسؤوليَّة، وذلك ما يقتضي اعتبار التعارف وسيلةً للتراحم والتكافل والمواساة من جهة والتناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهةٍ أخرى، وكلٌ من الأمرين يقعان في سياق تشييد البناء الاجتماعي بل هما من أركانه الركنية.

فكلُّ مجتمعٍ لا يقوم على أساس التراحم والتناصح فهو مجتمع متآكل مهترئ لا يكاد يقاوم أيَّ أزمةٍ مهما حقرت.

والأثر الآخر المترتِّب على الاجتماع والتلاقي الدائم هو تقارب وجهات النظر في مختلف القضايا والشؤون فإنَّ الاختلاف وكذلك الشقاق غالبًا ما ينشأ عن دوافع نفسيَّة والمفترض أنَّ دوام التلاقي القائم على أساس التراحم والتناصح والمقتضي للمؤالفة والمؤانسة يُلغي الكثير من بواعث الأزمات النفسيَّة، وحينئذٍ سيكون الاختلاف لو وقع مبتنيًا على قناعات ومبرِّرات عقلائيَّة وتلك ظاهرة صحيَّة لأنَّها ستدفع في اتِّجاه البحث عن المشتركات نظرًا لكون الغرض من الاختلاف هو تحرِّي الأصلح، وسيدفع ذلك أيضًا في اتِّجاه المحاورات الجادَّة المبتغية للوصول إلى ما هو أكثر صوابا،ً ولو اتَّفق عدم الانتهاء إلى الوِفاق فإنَّ ذلك لن يتَّفق في جميع القضايا والشؤون وتبقى أخلاقيَّةُ الخلاف هي الحالة التي ينتظم فيها جميع شرائحُ المجتمع ومكوناته فلا يكون من خوفٍ على مجتمع يحترم كلُّ واحدٍ منهم قناعات الآخر، وينصفُ كلُّ واحدٍ منهم الآخر من نفسه، فلا يزايد ولا يتبلَّى عليه ولا يستفزُّه ولا يتجنَّى عليه.

هذا ولإمام الجماعة أثرٌ فاعل في ذلك كلِّه ومواعظه تُساهم في الحدِّ من البواعث النفسيَّة للاختلاف، وبصيرتُه وإرشاداته تُضيِّق من مساحات الاختلاف، وبهديه وحسن تدبيره تسودُ المجتمعَ أخلاقيَّةُ الخلاف، وبعلمه وفقهه يتمكنُ من إيقاف الناس على ما هو أصوب وأنفع.

وأمَّا العنصر الثالث: في صلاة الجماعة والذي نرى أنَّ له أثرًا في البناء الاجتماعي فهو المظهر لهذه العبادة أعني مظهر الهيبة والوقار اللذَيْن يكسوانها ممَّا يبعث في قلوب الآخرين رهبةًً أو تقديرًا ينشا عنها الشعور بالاعتزاز عند المؤمنين فتشتدُّ بذلك لُحمتُهم وتتوثَّق علائقهم، إذ سيدرك كلُّ واحدٍ منهم أنَّ مصدر عزَّته وهيبته يكمن في تمسُّكه بدينه ومجتمعه، وبذلك تكون صلاة الجماعة واحدًا من دلائل الهويَّة والوجود ومَعبرًا لحماية الكيانِ والكثير من الحقوق.

ثم إنَّ هنا أثرًا متصلاً بهذا العنصر وهو الاستطالة بصلاة الجماعة على مواجهة الانحرافات الاجتماعية التي قد تطرأ نتيجة عبث المفسدين أو كيد المضلِّين، فمقاطعةُ أهل البدع والضلالات والتشهيرُ بهم ينطلق من صلوات الجماعة كما أنَّ البغاء مثلاً وبيوت الدعارة التي يتعمَّد الآخرون زرعها في الأوساط الاجتماعية يمكن لصلواتِ الجماعة أن تُساهم في استئصالها أو الحدِّ من أثرها.

وبذلك ننتهي إلى هذه النتيجةِ وهي أنَّ من أهم الآثار المترتِّبة على إقامة صلوات الجماعة هي تقويم البناء الاجتماعي وحمايته عن الانتقاض.

والحمد لله رب العالمين

 

كلمة ألقيت في ملتقى أئمَّة الجماعة

 

الشيخ محمد صنقور

6 شعبان 1426هـ


1- سورة الإسراء / 16.

2- سورة البقرة / 27.

3- سورة الفتح / 29.