هل أجاز القرآنُ الاستحواذَ على البيوت غير المسكونة؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾(1) ادَّعى البعض أنَّ الإسلام يُجيز لكلِّ أحدٍ دخول البيوت المهجورة غير المسكونة والانتفاع بها دون إذن أصحابها ودون رضاهم، واستدلُّوا على ذلك بهذه الآية، وزعموا أنَّ ذلك لا يُقرُّه قانون فهو من التعدِّي على أملاك الغير، فمجرَّد أنَّها غير مسكونة وقد هجرها أهلُها لسببٍ من الأسباب لا يُصحِّح لدى العقلاء الاستحواذ عليها أو حتى الانتفاع منها دون رضا أصحابِها. فما هو جوابكم؟

 

الجواب:

البيوت غير المسكونة هي مثل الحانات والحمَّامات:

ليس في الآية المباركة دلالةٌ على الدعوى المذكورة، فصاحبُ الإشكال قد بنى إشكاله على فهمٍ خاطئ للآية، فالآيةُ المباركة تتحدُّث عن البيوت غير المعدَّة للسكنى وإنَّما هي معدَّة لأغراضٍ أُخرى كحوانيت التجَّار والحمامات والخانات، فدخولُ هذه البيوت لا يحتاج إلى إذن، إذ أنَّ عدَّها من قبل مُلَّاكها لمثل هذه الأغراض يُعدُّ في نفسه إذنًا عامًّا بالدخول إليها، فلا يكون الدخول إليها بحاجةٍ إلى إذنٍ خاص.

 

ويُؤكِّد هذا الفهم للآية أنَّ الآيات التي سبقت هذه الآية تحدَّثت عن لزوم الاستئذان على كلِّ أحدٍ يُريد الدخول إلى غير بيتِه، وأفادت هذه الآيات أنَّه يتعيَّن عليه الرجوع إذا لم يُؤذَن له وأنَّه إذا لم يكن في البيت أحدٌ فلا يجوز له دخولُه قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ / فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾(2) بعد ذلك قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾.

 

فالآياتُ الثلاث قد صنَّفت البيوت إلى صنفين الصنف الأول البيوت المعدَّة للسكنى -من السكون والاستقرار- وهذا الصنف هو الذي تحدَّثت عنه الآيتان الأوليان بقرينة أنَّهما افترضتا أنَّ لهذه البيوت أهلًا، وأنَّهم قد يكونون موجودين في بيوتهم حين يقصدها القاصد، وقد لا يكونون موجودين فيها، ففي فرض وجودهم فرضَت الآية على القاصد الاستئناس والاستذان والسلام عليهم قبل الدخول، فإذا لم يُؤذَن له تعيَّن عليه الرجوع، وإذا لم يكونوا متواجدين في بيوتهم لم يجز له الدخول إلى تلك البيوت، كلُّ ذلك يُعبِّر عن أنَّ مفروض الآيتين هي البيوت المعدَّة للسكنى، ثم تصدَّت الآية التي بعد الآيتين لنفي البأس عن دخول البيوت غير المسكونة فيكون المتعيَّن منها إرادة البيوت غير المعدَّة للسكنى وليس المُراد منها البيوت التي لا يتواجد فيها أهلُها لأنَّ هذا الصنف من البيوت قد تصدَّت الأيتان الأوليان لبيان حكم الدخول إليها وأفادت أنَّه لا يجوز الدخول إليها: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا﴾ وهذا المنع من الدخول يستمرُّ حتى يأذن أهلُها بدخولها: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾.

 

وعليه فمعنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ هو أنَّه لا يجب أخذ الإذن الخاصِّ عند إرادة دخول البيوت غير المعدَّة للسكنى وفيها منافع للقاصدين أي أنَّها معدَّة للنفع العام كما هو المستفاد من قوله: ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾، فقوله: ﴿غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ وقوله: ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ وصفان أو قل قيدان للبيوت التي نفَت الآية الحرجَ عن دخولها دون إذنٍ خاص.

 

وبتقريبٍ آخر: هو أنَّ قوله: ﴿غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ مضافًا إلى أنَّه وصف وبيان لحدود الموضوع أو قل بيان لطبيعة البيوت التي لا يجبُ الاستئذان الخاص عند دخولها فإنَّه يستبطن الإشارة إلى علَّة الحكم بعدم وجوب الاستئذان، فإنَّها إذا لم تكن مسكونة فلا يُخشى عند دخولها من اطلاع الداخل على ما لا يليق الاطلاع عليه فإنَّ أهلها سوف يكونون محتشمين حينذاك، وإذا كانت معدَّة لمتاع القاصدين فإنَّ ملَّاكها لن يضعوا فيها ما لا يريدون الاطلاع عليه من قِبَل القاصدين إليها كما أنَّ عدَّها لمتاع القاصدين يستلزمُ الإذن العام من قِبَل مُلَّاكها للدخول إليها، فقوله تعالى: ﴿غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ نظرًا لكونه وصفًا لحدود موضوع عدم وجوب الاِستئذان، والوصف مُشعرٌ بالعلِّيَّة، لذلك فهو بيانٌ لعلَّة الحكم بعدم وجوب الاستئذان الخاص.

 

وخلاصة القول: إنَّ الآية المباركة إنَّما تنفي وجوب الاستئذان الخاص عند الدخول للبيوت غير المسكونة المعدَّة لمتاع القاصدين، وذلك لأنَّ طبيعة وضع هذه البيوت يقتضي وجود إذنٍ عام -من قِبَل مُلَّاكها- بدخولها، فذلك هو منشأ نفي البأس والجناح من دخولها دون استئذان، وهذا لا يختصُّ الإسلام بإباحته بل إنَّ سيرة العقلاء القطعيَّة جاريةٌ على عدم الحاجة إلى الاستئذان عند دخول هذه البيوت والتي هي مثل المتاجر والحمامات العامة والمنازل المُسبَّلة في طرق المسافرين وما أشبه ذلك.

 

هذا وقد نصًّت بعضُ الروايات الواردة من طرق أهل البيت (ع) أنَّ مثل ذلك هو المراد من البيوت التي أفادت الآية جواز دخولها دون استئذانٍ خاص.

 

فمن ذلك ما ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم القمِّي قال: ثمّ رخّص اللَّه تعالى فقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ﴾. قال الصّادق (عليه السّلام): هي الحمّامات والخانات والأرحية، تدخلها بغير إذن"(3).

 

وأورد ذلك الشيخ الطبرسي في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق (ع)(4).

 

الآية لم تجِز الاستحواذ على البيوت المهجورة:

ولو سلَّمنا أنَّ المراد من البيوت غير المسكونة هي البيوت المهجورة أو الخَرِبة فإنَّ الآية لم تُجز الاستحواذ عليها كما يدَّعي صاحبُ الشبهة بل ولا أجازت التصرُّف فيها وإنَّما أجازت الدخول، وفرق شاسعٌ بين الإجازة في الدخول والإجازة في السكنى والتي تقتضي الاستقرار وأبعد من ذلك أن يُدَّعى الإجازة في الاستحواذ من مجرَّد الإجازة في الدخول.

 

فأقصى ما تدلُّ عليه الآية هو إجازة الدخول العابر للبيوت المهجورة والخربة لقضاء وطرٍ فيها كما لو كانت في الطريق فدخلها مسافر ليحتمي بها ليلته أو نهاره من بردٍ أو حرٍّ أو ليحتمي بها من السباع، وأين ذلك من الاستحواذ عليها والانتفاع بها بما يضرُّ بمصلحة ملَّاكها، وهذا المقدار من الانتفاع لا يأباه ملَّاك مثل هذه البيوت، فإذا كان المانع من دخول البيوت دون إذن هو الخشية من اطلاع الداخل على ما لا يليق النظر إليه فهذا المحذور منتفٍ في مثل هذه البيوت والتي فرضناها مهجورة أو خربة، وإذا كان المانع هو الخشية من الاطلاع على مواضع أموال ونفائس أصحاب البيوت فافتراضُها مهجورة أو خَرِبة يقتضي أنْ لا يكون أصحابُها قد أحرزوا فيها ما يخشون اطلاع الآخرين عليه، فالناس لا تُحرز أموالها ونفائسها في بيوتٍ مهجورة أو خربة، فلا محذور إذن لدى ملَّاك هذه البيوت من دخول الآخرين إليها إذا كان دخولًا عابرًا والذي لم تُجز الآية أكثر منه بل إنَّ تركها مفتوحة قرينةٌ على الإذن بدخولها لهذا الغرض، ولوكانوا يأبونَ دخولها لأغلقوها، ولو أغلقوها لما جاز دخولُها، إذ أنَّ الآية لا تدلُّ على جواز دخول البيوت المقفلة، فهي لم تُجز كسر قفلٍ ولا تسوُّر جدارٍ وإنَّما أجازت الدخول، والدخول إذا لم تكن الأبواب مفتوحة لا يكون إلا بكسر الأقفال أو معالجتها وهذا ما لم تُجزه الآية المباركة.

 

إذن فالجائز هو دخول البيوت المفتوحة والذي يدلُّ فتحُها غالبًا على عدم ممانعة ملَّاكها من الدخول العابر إليها، وقد جرت سيرة العقلاء على عدم التحرُّج من دخول مثل هذه البيوت ولا يرون أنَّ الدخول إليها من التعدَّي علي أملاك الغير ما لم يُحدث الداخل لمثل هذه البيوت حدثًا يضرُّ بمحتويات البيت أو جدرانه أو ما أشبه ذلك، وهذا النحو من التصرُّف لم تُجزه الآية المباركة بل تصدَّت النصوص الكثيرة على حرمته ولزوم ضمان ما أتلفه الإنسان من مال غيره.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمَّد صنقور


1- سورة النور / 29.

2- سورة النور / 27-28.

3- تفسير القمِّي -عليّ بن إبراهيم القمِّي- ج2 / ص101.

4- تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج7 / ص238.