﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾

شبهة مسيحي:

ذكر القرآن في سورة مريم أنَّ الجميع سيدخلون النّار دون استثناء: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا / ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾(1) ألا يناقضُ ذلك ما يدَّعيه المسلمون من أنَّ الله أعدَّ للشهداء والملتزمين منهم بدين محمد (ص) جناتٍ عرضها السماوات والأرض؟!!

الجواب:

المُراد من الورود:

الورود في قوله تعالى: ﴿وإِن مِنْكُم إٍلا وارِدَها﴾ ليس بمعنى الدخول في جهنم والإبتلاء بشيءٍ من حرِّها، فإنَّ كلمة الورود ليست مرادفة لغةً ولا عرفاً لمعنى الدخول وإنَّما هي بمعنى البلوغ والوصول للمقصد، والأصل فيها بلوغ الماء أي بلوغ المناهل والمشارع للشرب والتزوُّد، ومعنى بلوغها هو الإنتهاء إليها والإقتراب منها بحيث تكون في متناول مَن بلغها، وليس بلوغها بمعنى الخوض فيها، فإنَّ ذلك ليس دخيلاً في صدق الورود، فإنَّ مَن بلغ الماء وصار في متناوله يصدق عليه لغةً وعرفاً أنَّه ورد الماء وإنْ لم يكن قد خاض فيه بل غالباً لا يخوض الوارد في الماء حتى لا يُفسده، ولهذا قال: إبن منظور في كتابه لسان العرب نقلاً عن أبي إسحاق: "وفي اللغة: ورد بلد كذا وماء كذا إِذا أَشرف عليه، دخله أَو لم يدخله، قال: فالوُرودُ، بالإِجماع، ليس بدخول"(2).

فالورود يعني البلوغ والإشراف على المورود وإن لم يتحقَّق معه الدخول كما أفاد ذلك علماء اللغة، قال ابن منظور في كتابه لسان العرب: "ووَرَدَ عليه: أَشرَفَ عليه، دخله أَو لم يدخله؛ قال زهير:

فَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه ** وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيّمِ

معناه لمَّا بلغن الماء أَقَمْنَ عليه"(3). وذكر أيضاً انَّ: "العرب تقول ورَدْنا ماء كذا ولم يَدْخُلوه"(4).

الورود في الإستعمال القرآني

ويُؤيِّد ذلك مضافاً لما تقدَّم أنَّ القرآن الكريم استعمل كلمة الورود في موضعين، وفي كلٍّ منهما كان الواضح من معنى الورود هو الدنو والإشراف على المورود، وليس الدخول فيه:

الموضع الأول: في سورة القصص: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ(5).

فإنَّ الواضح من الآية المباركة انَّ معنى ورود موسى (ع) لماء مَدْيَن هو بلوغه موضع الماء من أرض مدْيَن، وليس معناه دخول ماء مدين والخوض فيه، فهو قد ورده والناس مجتمعون حول الماء ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ ووجد إمرأتين تحبسان الشياه التي يرعَيانها عن الشرب من الماء، ومعنى ذلك أنَّهما كانتا بعيدتين شيئاً ما عن مجرى الماء أو منبعه ﴿وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ﴾ فهما دون الأمَّة المجتمعين حول الماء، فحين وجدهما موسى (ع) على هذه الحال أخذ الشياه وسار بها إلى مجرى الماء أو منبعه أو أنَّه ذهب فحمل إلى شياه المرأتين الماء.

فالآية أخبرت عن ورود موسى(ع) الماء في ظرفٍ لم يكن بعدُ قد أصبح مجرى الماء أو منبعه في متناول يده فضلاً عن خوضه فيه، على أنَّ سقيه بعد ذلك للمرأتين لا يعني خوضه في الماء، فإنَّ ذلك خلاف المتعارف، فهو إمَّا أنْ يكون قد وضع دلواً في الماء وملئه ثم سقى به الشياه، وإمَّا أنْ يكون قد قرَّب الشياه من مجرى الماء بحيثُ صار بوسعهم أن يشربوا منه، وفي كلا الفرضين كان وروده الماء بمعنى الدنو والإشراف على مجرى الماء أو منبعه، ويتأكَّد ذلك من قوله تعالى: ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾(6) فكانوا من الماء في موضع المُشرف عليه أي كانوا على ضفته أو أسواره، ولو كانوا في وسطه لقال: ووجد فيه أمةً من الناس يسقون ولم يقل: ﴿عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ﴾(7) فالآية واضحة جداً في أنَّ المراد من الورود هو البلوغ والوصول وليس الدخول.

الموضع الثاني: في سورة يوسف (ع): ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُون﴾(8).

فالآية وصفت الساقي الذي أدلى دلوه في البئر وصفته بالوارد، ومن الواضح أنَّ الإستسقاء من البئر لا يكون بنحو الخوض فيه وإنَّما يكون بنحو الإقتراب منه والإشراف عليه من أعلى، فالآية إذنْ أفادت أنَّ الساقي قد ورد البئر والحال أنَّه لم يكن قد دخله، ولهذا فالورود لا يعني الدخول ولا يستلزمه.

الورود بمعنى الدخول لا يُستعمل إلا بقرينة

وبذلك يتأكَّد أنَّ الورود ليس بمعنى الدخول، نعم قد يُستعمل لفظ الورود ويُراد منه الدخول ولكنَّ ذلك لا يتمُّ إلا إذا نصب المتكلِّم قرينةً على إرادته أو كان الكلام مكتنفاً بقرينةٍ يصحُّ الإتِّكال عليها لإفادة معنى الدخول، وهذا معناه أنَّ إستفادة معنى الدخول لم يكن من حاقِّ لفظ الورود بل كان ذلك بواسطة القرينة، فيكون الورود متمحِّضاً لإفادة معنى البلوغ والوصول وتكون القرينة مقتضية لإفادة معنى الدخول على سبيل تعدُّد الدالِّ والمدلول، فلو قيل مثلاً: "وردْنا منزل زيد وقضينا الليل كلَّه فيه"، فإنَّ المستفاد من هذه الجملة الخبرية أنَّهم دخلوا منزل زيد إلا أنَّ إستفادة ذلك لم يتم من لفظ "وردنا" وإنَّما إستُفيد ذلك بواسطة ما إشتملت عليه الجملة من الإخبار عن أنَّهم قضوا ليلتهم فيه، وذلك لا يكون إلا مع الدخول، فهذه هي القرينة التي نشأت عنها إستفادة الدخول وإلا لو قال المتكلِّم: "وردنا منزل زيد" وسكت فإنَّ الدخول لا يُستفاد منها، ولذلك لا نعدُّ المتكلِّم متناقضاً في كلامه لو قال: "وردنا منزل زيد" ثم قال: "ولكننا لم ندخل"، فلو كان الورود بمعنى الدخول لكان المحصَّل من كلاميه أنَّهم دخلوا منزل زيد ولم يدخلوه، والحال أنَّ الأمر ليس كذلك في الوجدان العربي.

معنى الورود في الآية

وبمجموع ما ذكرناه يتَّضح انَّ الآية، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾(9) ليست ظاهرة في أكثر من أنَّ عموم الناس يتمُّ إستحضارهم إلى جهنم فيكونون منها في موضع المطَّلع عليها وأما دخولهم إلى وسطها فذلك ما لا يمكن إستفادته من الآية المباركة لعدم دلالة الورود على الدخول وانَّأقصى ما يدلُّ عليه لفظ الورود هو الوصول الذي قد يتعقَّبه دخول وقد لا يتعقَّبه دخول.

هل الإنجاء يستلزم الدخول؟

وأمَّا قوله تعالى بعد الآية: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾(10) فلا يدلُّ على انَّ عموم المؤمنين والكافرين يدخلون ثم يُنجِّي الله اللذين اتقوا فيُخرجهم من جهنم بعد أن كان قد أدخلهم فيها، فإنَّ النجاة من جهنم يصدق بصرفهم أساساً عن دخولها بعد أنْ بلغوها فكانوا منها في موضع المشرف عليها والمطِّلع على أهوالها، فهم حينما يكونون على شفير جهنم أو حول أسوارها أو على الصراط الممتد من فوقها فإنَّهم جميعاً يكونون في معرَض الدخول أو السقوط فيها، فعندما لا يتحقَّق ذلك للمؤمنين ويكون نصيب غيرهم القسر على دخولها فإنَّ ذلك يُعدُّ بنظر العرف من النجاة، عيناً كما لو كان جمعٌ من الناس يعبرون جسرا يُطلُّ على نهرٍ عميق فتصدَّع الجسر فسقط في النهر بعضُ من كان يعبره فغرقوا وتمكَّن آخرون من عبوره، فإنَّ هؤلاء اللذين تمكَّنوا من عبور الجسر رغم تصدُّعه بهم يصحُّ أنْ يُقال عنهم انَّهم نجوا من الغرق مع انَّهم لم يسقطوا أساساً في النهر.

فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ لا يدلُّ على أنَّهم قد أُدخلوا في جهنم ثم تمَّ إخراجهم منها، وذلك لأنَّ الإنجاء يصدق عرفاً بكفايتهم ووقايتهم من دخولها بعد أنْ كانوا لقربهم على وشك أنْ يتهاووا فيها.

النجاة قد لا تصدق بدخولهم جهنم

بل قد يُقال إنَّ النجاة لا تصدق عرفاً بعد إخراجهم لو كانوا قد دخلوا فيها وأصابهم لهبُها وإكتوت أجسادهم من سعيرها، لأنَّهم حينئذٍ يكونون قد عُذِّبوا في جهنم ولو آناً ما، فلا يصدق عليهم انَّهم قد نجوا من عذاب جهنم عيناً كما لو جيئ بجماعة فزُجَّ بهم في السجن ثم بعد مدةٍ من الزمن أُخرج بعضهم، فإنَّه لا يُقال لهؤلاء اللذين أُخرجوا من السجن لعفوٍ أو غيره أنَّهم قد نجوا من السجن لأنَّهم قد سُجنوا فيه، غايته انَّ مدة مكثهم كانت دون المدة التي مكث فيها مَن كان معهم، فإذا كانوا قد نجوا فهو من طول المدة وليس من السجن نفسه، فالنجاة من الشيء المكروه لا تصدق إلا في فرض عدم الوقوع فيه أساساً وإلا كانت نجاة من الإستمرار في ذلك الشيء المكروه أو نجاة من مرتبةٍ من مراتب ذلك المكروه، واما النجاة من أصل ذلك المكروه فلم تتحقَّق.

نتيجة:

وكيف كان فسواءً قبلنا بعدم صدق النجاة على مَن دخل جهنم ثم أُخرج منها أو لم نقبل وقلنا بأنَّه يصدق على من أُخرج من جهنم أنَّه قد نجى منها فإنَّ الذي لا يقبل التردُّد هو صدق النجاة على مَن كان عند شفير جهنم أو على الصراط الممتد فوقها ثم لم يُقدَّر له أنْ يتهاوى فيها، فإنَّ مثله يكون ممَّن نجا دون ريب، فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾(11) لا يصلح قرينةً على أنَّ المراد من الورود في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾(12) هو الدخول.

دخول الظالمين لا يستلزم دخول المؤمنين

وأمَّا قوله تعالى: ﴿وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾(13) فمعناه اننَّا نُدخلهم ثم نتركهم يمكثون فيها، فمفاد الآية أنَّ عامة الناس من المتَّقين والظالمين يردون إلى جهنم ويُستحضرون حولها، فأمَّا المتَّقون فيكون نصيبهم النجاة من الدخول في جهنم، وأما الظالمون فنصيبهم دخولها والمكث فيها، فهو لم يقل نُدخلهم ثم نذرهم ونتركهم فيها لأنَّ قوله نذرهم يُعبِّر عن المعنيين، ذلك لأنَّه عندما يقول نذرهم فيها فهذا يستلزم انَّه أدخلهم فيها، فيكون محصَّل الآية المباركة هو ما ذكرناه من انَّ الله تعالى بعد إحضار عامة الناس إلى جهنم يُنجِّي المتَّقين ويُدخل الظالمين في جهنَّم ويتركهم فيها، فقوله تعالى: ﴿وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ﴾ لا يستلزم دخول الجميع ثم ترك الظالمين وإخراج المتَّقين، ولذلك لا موجب لصرف لفظ الورود في الآية عن مدلوله اللغوي والعرفي وهو البلوغ والحضور والإشراف على المورود.

إشكال: هناك آيات استعملت الورود بمعنى الدخول

وقد يُستدلُّ لدعوى انَّ الورود يعني الدخول بقوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ / يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾(14) وكذلك بقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ / لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(15) فإنَّ الورود في الآيتين استُعمل في الدخول.

جواب عام:

الجواب عن ذلك قد اتَّضح ممَّا تقدم حيث ذكرنا أنَّ الورود قد يُستعمل ويُراد منه الدخول لكنَّ ذلك لا يتمُّ إلا عند نصب المتكلِّم قرينةً على إرادته معنى الدخول من لفظ الورود أو كان الكلام مُكتنِفاً بقرينةٍ يصحُّ الإتِّكال عليها في مقام الإفادة لمعنى الدخول من إستعمال لفظ الورود، فإذا لم يكن الكلام مشتملاً على قرينةٍ مقتضية لإستظهار معنى الدخول من إستعمال لفظ الورود فإنَّ لفظ الورود حينئذٍ يكون ظاهراً في مدلوله اللغوي والعرفي وهو البلوغ والدنو والحضور وماهو قريبٌ من هذه المعاني.

الجواب بالنسبة للآية الأولى:

فلأنَّ المعلوم من شأن فرعون وقومه أنَّ مآلهم لا ينتهي إلى مجرَّد الحضور و الدنو من جهنَّم بل إنَّهم سوف يُعذَّبون فيها لذلك تمَّ إستظهار معنى الدخول من قوله تعالى: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ وكذلك فلأنَّ الإخبار في الآية الثانية عن أنَّ المشركين وما يعبدون حصبُ جهنم ووقودها وأنَّهم في جهنَّم خالدون لذلك ومن هاتين القرينتين تمَّ إستظهار إرادة الدخول من كلمة: ﴿وَارِدُونَ﴾ وكلمة: ﴿وَرَدُوهَا﴾ في الآية.

فاستفادة الدخول في الآيتين لم يكن من حاقِّ لفظ الورود وإنَّما بواسطة القرينة، على أنَّ من غير الواضح إرادة الدخول من كلمة الورود في كلا الآيتين:

أما قوله تعالى: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ فالظاهر من كلمة "أوردهم" هو أنَّ فرعون هداهم إلى النار وذلك بتضليله لهم كما قال تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾(16) فهو بتضليله لهم كأنَّه قادهم حتى بلغ بهم النار، فمعنى أوردهم النار هو انَّه أضلَّهم حتى أوصلهم إلى النار، فكلمة الورود في الآية استُعملت في مدلولها اللغوي وهو البلوغ والوصول وليس الدخول، إذ انَّ الإدخال لجهنم ليس من شأن فرعون، فليس هو مَن يأمر بإدخال قومه النار ولا هو مَن يُباشر ذلك، فالمناسب لشأن فرعون نظراً لكونه من أئمة الضلال هو أنَّه يقود بضلالاته قومَه حتى يُوصلهم إلى النار.

الجواب بالنسبة للآية الثانية:

وأما قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ / لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(17) فلا يبعد أنْ يكون المراد من كلمة الورود هو الحضور، فقوله: ﴿أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ أي مُحضَرون إلى جنَّهم، وقوله: ﴿مَّا وَرَدُوهَا﴾ أي ما أُحضروا إليها، فلو كانوا آلهة حقاً لما أمكن إحضارهم قسراً و إيقافهم عند جهنم، فمفاد هذه الآية هو مفاد قوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾(18) فالآية تتوعَّد المشركين بإحضارهم وآلهتهم وعرضهم على جهنم إمعاناً في إستصغارهم والنكاية بهم وحتى يشهدوا بأمِّ أعينهم ويشهد المحشر أنَّ هذه الآلهة المزعومة لم تُغنِ عنهم شيئاً، وبعدئذ يُقذفون في جهنم ويُخلَّدون فيها، وإستفادة دخولهم إلى جهنم لم يكن من إستعمال الآية لكلمة الورود وإنَّما كان ذلك من قوله: ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ وقوله: ﴿وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

نتيجة:

فالورود في كلِّ من الآيتين لم يكن ظاهراً في إرادة الدخول، فهو إنْ لم يكن ظاهراً في الحضور والوصول فهو ليس ظاهراً في الدخول أيضاً، لذلك فلا تصلح الآيتان للإستدلال بهما على أنَّ الورود في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ كان بمعنى الدخول.

جواب تنزُّلي على الشبهة:

على أنَّه لو سلَّمنا جدلاً إفادة الآية، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾(19) لدخول عامة الناس إلى جهنم ثم نجاة المتقين منهم فإنَّ ذلك مما لا محذور فيه بعد أنْ لم تكن الغاية من دخولهم هي إيقاعهم في العذاب، إذ أنَّ ذلك لن يتَّفق جزماً ولو لوقتٍ يسير، ولن ينال المتقين من العذاب شيءٌ ولو كان بمستوى اليسير من الخوف أوالحزن كما صرَّحت بذلك الكثير من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(20) وقوله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ / يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾(21) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ / نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ / نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾(22) وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(23).

فالأتقياء والصالحون ليسوا من أصحاب النار كما أفادت هذه الآية وغيرها كثير، وأصحاب النار إنَّما هم المستكبرون والظالمون، فدخول المتَّقين والصالحين للنار لو سلَّمنا بوقوعه فهو ليس لغرض إصابتهم ولو باليسير من السوء، فإنَّ الآية التي أفادت أنَّهم واردوها ليس فيها ما يدلُّ على وقوعهم في شيءٍ من عذابها، وذلك لأنَّ الدخول لا يستلزم الوقوع في العذاب، فإنَّ جهنم مؤتمرةٌ تكويناً بأمر الله تعالى، فدخولها لا يُساوق الإبتلاء بسعيرها، فإنَّ ملائكة العذاب وزبانية جهنَّم يدخلون جهنَّم ولا ينتابهم من عذابها شيء.

الغايات المتصورة لدخول المتقين إلى النار

فإذا دلَّت الآيات الكثيرة على أنَّ الله تعالى قطع على نفسه عهداً أنْ لا يُعذِّب المتَّقين ولو بأيسر العذاب وكان قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾(24) مفيدًا بحسب الفرض لدخول المتَّقين إلى النار فإنَّ ذك موجبٌ لإستظهار أنَّ دخولهم يكون لغايةٍ هي غير الإيقاع في العذاب , وذلك بأنْ تكون الغاية من إدخالهم هو إطلاعهم على أهوال جهنم وما تشتمل عليه من صنوف العذاب فيزدادون لذلك شعوراً بالإبتهاج والغبطة حيث إنَّ الله تعالى قد وقاهم من عذابها، فإنَّ الإنسان بمقتضى طبعه عندما يستحضر الإبتلاءات ويجد نفسه في عافيةٍ منها فإنَّه يبتهج لذلك، ويزداد إبتهاجاً عندما يُعاين أسبابها وهو يعلم أنَّه في منئىً منها وأنَّه لن يُصيبه منها شيء خصوصاً وانَّه ينتظر نعيماً مقيماً لا زوال له ولا نفاذ , فدخول المتَّقين للنار يكون جزء ممَّا سيحظون به من نعيم الله تعالى.

وقد تكون الغاية من إدخال المتَّقين للنار هو مُعاينتهم للظالمين وهم يُعذَّبون فيكون في ذلك تسكينٌ لغيظهم الذي طالما تجرَّعوه من هؤلاء الظلمة، ويكون ذلك في ذات الوقت وقوفاً منهم على إنجاز الله تعالى لوعده لهم بالإنتقام لهم من الظالمين.

الأدلة على أن المتّقين لا يُعذّبون:

1- الآيات التي لا حصر لها:

فدخول المتَّقين للنار لا يعني أنَّهم سيُعذَّبون فيها ولو آناًما بعد أنْ دلَّت الآيات التي تفوق الإحصاء على أنَّ الله تعالى قد قطع على نفسه عهدًا أنْ لا يَمسّهم بعذابٍ ولو كان يسيراً.

2- مدلول النجاة:

على انَّ قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ قد تعقَّبه مباشرةً قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾(25) وقد قلنا إنَّ النجاة لا تتحقَّق إلا بالكفاية من أصل العذاب في جهنم، ذلك لأنَّ النجاة بحسب مدلولها العرفي تعني الخلاص من المكروه في ظرفٍ يكون معه الإنسان معرَضاً للوقوع فيه.

فلو فُرض أنَّ المتقين يُعذَّبون في جهنم ثم يتمُّ إخراجهم منها فإنَّ معنى ذلك أنَّهم لم ينجوا من عذاب جهنم، غايته أنَّه قد تمَّ إستنقادهم وإنتشالهم من عذابها بعد أنْ وقعوا فيه، فهم قد نجوا من مرتبةٍ من مراتب العذاب في جهنم لا أنَّهم نجوا من عذاب جهنم، وهذا خلاف ظاهر الآية التي أفادت أنَّ الله تعالى يُنجِّي المتقين.

3- إمتداح المتّقين في نفس الآية:

هذا مضافاً إلى انَّ الآية ظاهرةٌ في إمتداح المتَّقين، وذلك بتوصيفهم فيها بالتقوى، وهي من أعلى الأوسمة التي يمتدح الله تعالى بها المؤمنين من عباده، والإخبار بتعذيبهم لا يناسبه إمتداهم بأنهم خير عباده، فلا يصدر من السيد الحكيم القول بأنه سيُعذب من أطاعوه وإمتثلوا أوامره وإلتزموا بتقواه وخشيته، فهو إذا أراد تعذيبهم فالمناسب لذلك ان يُنوّه ولو بنحو الإشارة إلى منشأ تعذيبه لهم لا انَّه يؤكِّد على طاعتهم في سياق الإخبار عن تعذيبهم، فإن ذلك لا يصدر عن متكلم حكيم، ولذلك حين اخبر في الآية عن تعذيب الفريق الآخر نوَّه على ذلك بتوصيفهم بأسوأ ماهم عليه من صفة وهي الظلم فقال تعالى: ﴿وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾(26).

4- القرينة القطعية:

ثم إنَّ الآية أفادت انَّ عامة الناس سيردون إلى جهنم دون إستثناء، ومعنى ذلك انَّ الأنبياء والأوصياء والأولياء وكذلك غيرهم ممَّن لم يجترحوا ما يوجب العقوبة سيكونون ضمن مَن سيرد إلى جهنم، فلو كانت الغاية من إدخالهم هي تعذيبهم لكان مؤدى ذلك هو إنتفاء العدل الألهي والذي هو أصلٌ من أصول الدين، وقد قام البرهان العقلي القطعي على ثبوته لله جلَّ وعلا مضافاً إلى النصوص الدينية من الآيات والروايات المتواترة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) والتي أفادت انَّ الله تعالى عدلٌ مطلق وانَّه منزَهٌ عن كلِّ ظلم، ولذلك يتحتَّم بمقتضى هذه القرينة القطعيَّة البناء على انَّ دخول المتَّقين للنار لو تمَّ التسليم به يكون لغايةٍ هي غير إيقاع العذاب عليهم.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحيَّة


1- سورة مريم / 71-72.

2- لسان العرب -ابن منظور- ج3 / ص457.

3- لسان العرب -ابن منظور- ج3 / ص457.

4- لسان العرب -ابن منظور- ج3 / ص457.

5- سورة القصص / 23.

6- سورة القصص / 23.

7- سورة القصص / 23.

8- سورة يوسف / 19.

9- سورة مريم / 71.

10- سورة مريم / 72.

11- سورة مريم / 72.

12- سورة مريم / 71.

13- سورة مريم / 72.

14- سورة هود / 97-98.

15- سورة الأنبياء / 98-99.

16- سورة الزخرف / 54.

17- سورة الأنبياء / 98-99.

18- سورة مريم / 68.

19- سورة مريم / 71.

20- سورة الزمّر / 61.

21- سورة الزخرف / 67-68.

22- سورة فصلت / 30-32.

23- سورة الأعراف / 35.

24- سورة مريم / 71.

25- سورة مريم / 72.

26- سورة مريم / 72.