خمسُ أرباحِ المكاسب فريضةٌ إلهيَّة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

تحرير الشبهة:

ثمة شبهةٌ يُروَّجُ لها حولَ فريضةِ الخُمس في أرباح المكاسب وهي شبهةٌ قديمةٌ قد تصدَّى الفقهاءُ للجوابِ عليها، وحاصلُ هذه الشبهة هو أنَّ فرض الخمس في أرباح المكاسب ومُطلقَ الفائدة ليس له عينٌ ولا أثرٌ في النصوص الواردة عن الرسول (ص) والأئمة الأوائل من أئمة أهل البيت (ع) إلى الإمام الباقر (ع) وهو ما يُوجب استظهار نفي الوجوب الشرعي عن خمس أرباح المكاسب وحمل الأمر بتخميس أرباح المكاسب في النصوص الواردة عن المتأخِّرين من أئمة أهل البيت (ع) على إرادة الحكم الولائي والذي هو من صلاحيَّات الحاكم الشرعي، فالإيجاب لخمس أرباح المكاسب الصادر عن الأئمة المتأخرين(ع) لم يكن المرادُ منه الإيجاب الشرعي بل هو حكمٌ ولائي يختصُّ بزمانهم شأنُه شأنُ الأحكام الولائيَّة والسلطانيَّة التي هي من صلاحيَّات الحاكم الشرعيِّ بصفته امام الوقت، فلا تكون مُلزِمةً في أوسع من حدود زمنِه بل إنَّ للحاكم الشرعي الذي يقومُ مقامه بعد وفاته أنْ يرفعها أو يُمضيها بحسب مقتضيات المصلحة التي يراها.

والذي يؤكِّد عدم الوجوب الشرعي لخمس أرباح المكاسب هو أنَّ النبيَّ الكريم (ص) لم يتصدَّ لقبض الخمس من أرباح المكاسب فلم يكن يبعثُ الجُباة إلى قبضه كما كان يفعلُ ذلك في زكاة الأموال، ولو كان يفعلُ ذلك لفعله الخلفاءُ من بعده لأنَّهم يرون لأنفسهم صلاحيَّة فعل كلَّما كان يفعلُه الرسولُ (ص) بصفته إمامًا للأمة ولذلك كانوا يحرصون على بعث الجُباة للأمصار لقبض الزكاة، فلو كان النبيُّ (ص) يفعل ذلك لفعلوه خصوصًا وأنَّه كان يوافق أغراضَهم ومصالحهم، فعدم تصدِّيهم لقبض خُمس أرباح المكاسب يكشفُ عن عدم فعل النبيِّ (ص) ذلك في عهده، وكذلك فإنَّه لم يُؤثَر عن أميرِ المؤمنين عليٍّ (ع) أنَّه كان قد تصدَّى لقبضِ أرباح المكاسب أيامَ خلافته الظاهريَّة.

والجوابُ عن هذه الشبهة يقعُ في محورين:

المحور الأول: هي المناقشة لدعوى الملازمة بين ما قيل منأنَّه لم يُؤثَر عن الرسول (ص) والأئمة الأوائل (ع) الأمرَ بتخميس أرباح المكاسب وبين انتفاء الوجوب الشرعي لتخميس أرباح المكاسب.

ويردُ على هذه الدعوى:

أولًا: ما أفاده السيدُ الخوئي (رحمه الله) وحاصلُه أنَّه لو تمَّ التسليمُ جدلًا بأنَّه لم يُؤثَر عن الرسول (ص) والأئمة الأوائل (ع) الأمر بتخميس أرباح المكاسب وأنَّ آية الخمس لا تشملُ باطلاقها خمس أرباح المكاسب لو تمَّ التسليمُ جدلًا بذلك فإنَّه لا يقتضي نفيَ الوجوب بعد تواتر النصوص على وجوب الخمس في أرباح المكاسب الواردة عن الأئمة منذُ عهد الصادقَين إلى عهد الإمام الحجَّة (ع) فإنَّ أحدًا لا يسعُه إنكار التواتر الإجماليِّ للنصوص في ذلك، وأما عدمُ تصدِّي الرسول (ص) والأئمة الأوائل لتبليغ ذلك على الملأ، لو تمَّ قبولُه فإنَّه لا ينفي الوجوب بعد أنْ كان من المسلَّم لدى الإماميَّة جواز التدرُّج في تبليغِ الأحكام الشرعيَّة.

فجميعُ أحكام الشريعة كان قد صدَع بها الرسولُ الكريم (ص) إلا أنَّ الكثير من هذه الأحكام لم تُبيَّنْ على الملأ بل تصدَّى النبيُّ (ص) للتعريف بها إلى وصيِّه (ع) وعهِد إليه بتبليغِها عند اقتضاء المصلحة وانتفاءِ الموانع، وقد تصدَّى الوصيُّ (ع) إلى تبليغِ ما اقتضتْ المصلحةُ التبليغَ له وعهِدَ بالباقي إلى وصيِّه وعلى ذلك جرتْ سيرةُ الأوصياء (ع)، فلم يكنْ ما بلَّغه كلُّ إمامٍ من أحكامٍ هو مقدارَ ما كان يَعلمُه وما كان قد ورِثَه من علمِ النبوَّة، فهم خُزَّانُ علم النبوَّة يُبلِّغون للناس مقدارَ ما يحتاجونَه ومقدارَ ما تقتضي المصلحةُ تبليغَه، ولذلك نجدُ أنَّ الكثيرَ الكثيرَ من الأحكام لم يتصدَّ الأئمةُ الأوائلُ (ع) لتبليغِها وتصدَّى مَن جاء بعدَهم من الأئمة (ع) لبيانها وتبليغِها للناس وهم في ذلك ينسبون ما يُبلِّغونه من أحكامٍ إلى الرسول (ص) وإلى مَن سبقَهم من الأئمة (ع) إما تصريحًا أو ضمنًا رغم أنَّ ما يُبلِّغونه من أحكامٍ لم يكن في أيدي الناس منه عينٌ ولا أثر، ولذلك كانوا يُؤكِّدون على أنَّهم قد تلقَّوا ما ينقلونَه من أحكامٍ عمَّن سبقَهم شفاهًا أو أنَّه مُودَعٌ عندهم في كتبٍ كانت بإملاء رسولِ الله (ص) وخطِّ عليٍّ (ع) فهم لا يُفتونَ الناسَ بآرائهم واجتهاداتِهم، وهذا الأمرُ متسالمٌ عليه بين الإماميَّة ومنصوصٌ عليه في المتواتر من الروايات وأنَّ كلَّ ما يحتاجُه الناس إلى يوم القيامة من خطيرٍ وحقير فهو مٌودَعٌ عندهم مسطورٌ في كتبٍ يتوارثونها كابرًا عن كابر وكانت بإملاءِ رسولِ الله (ص) وخطِّ عليٍّ (ع)، فأيُّ محذورٍ حينئذٍ أنْ لا يكون خمسُ أرباح المكاسب قد تمَّ بيانُ حكمِه على الملأ لمصلحةٍ اقتضت ذلك أو مانعٍ منَعَ من ذلك ثم تصدَّى الأئمةُ (ع) في عهِد الصادقَين ومَن بعدهما لبيانِه؟! وهل تبلورتْ أحكامُ الشريعة وتفاصيلُها في مختلف أبواب الفقه لدى الإماميَّة إلا في عهد الصادقَين ومَن جاء بعدهما من الأئمة (ع)؟!، ولو ناسبنا بين مقدارِ ما وصل إلينا عن الأئمةِ الأوائل مع مقدار ما وصَل إلينا عن المتأخِّرين منهم لكانت النسبةُ هي الواحد إلى العشرة أو أقلَّ من ذلك أو أكثرَ بقليل، فهل علينا أنْ ننفيَ كلَّ الأحكام التي لم يصل إلينا منها عينٌ ولا أثرٌ عن الأئمة الأوائل؟!!

وثمَّة الكثيرُ من الأحكام التي ليس لدى العامَّة فيها خبرٌ مأثورٌ عن الرسول (ص) وكانوا يُفتون فيها بالرأي والقياس والاستحسان ونجدُ لدى الأئمة من عهد الصادقَيْن فيها قولًا ينسبونه إلى الرسول (ص) وعليٍّ (ع) رغم أنَّه ليس له في أيدي الناس منه عينٌ ولا أثرٌ، فهل علينا نفيُ هذه الأحكام وإنكارُ انتسابها للرسول (ص) لمجرَّد أنَّه ليس لها في أيدي الناس عينٌ ولا أثر؟!! فما هو مقدارُ ما في أيدي الناس من أحكامٍ في مقابل ما عند أهل البيت (ع) ممَّا قد توارثوه عن الرسول (ص)؟!.

وممَّا ذكرناه يتبيَّن أنَّ دعوى استكشاف عدم صدور شيءٍ عن الرسول (ص) وعليٍّ (ع) لمجرَّد عدم وصولِه إلينا لا تصحُّ إذا كان قد ثبت صدورُه عن الأئمة المتأخِّرين (ع) وذلك لأنَّ الأئمة المتأخِّرين إنَّما ينقلون الأحكام عمَّن تقدَّمهم من الأئمة (ع) إلى أنْ تصلَ إلى الرسول (ص)، نعم عدم وصول حكمٍ عن الرسول (ص) والأئمة المتقدِّمين (ع) إلينا قد يكشفُ عن عدم تصدِّيهم لتبليغِه على الملأ لكنَّه لا يكشفُ عن عدم تصدِّيهم لبيانِه إلى مَن يَليهم من الأئمة (ع) بل إنَّ تصدِّي الأئمةِ المتأخِّرين لتبليغِه على الملأ يكشفُ كشفًا قطعيًّا عن صدورِه عن الرسول (ص) وتبليغِ الأئمة المتقدِّمين منهم للمتأخِّرين (ع).

ثانيًا: إنَّ دعوى أنَّه لم يُؤثَر عن الرسول (ص) الأمر بتخميس أرباح المكاسب ليست ثابتة، فقد وردتْ من طُرق العامَّة رواياتٌ مستفيضةٌ صالحةٌ لاستظهار الأمر -من قِبل الرسول (ص)- بإخراج الخمس من أرباح المكاسب، فمن ذلك:

الأول: ما رواه البخاريُّ في صحيحه ومسلمٌ في صحيحه وأحمدُ بن حنبل في مسنده وغيرُهم عن ابن عباس أنَّ وفد عبد القيس وفدوا على رسول الله (ص) فقالوا: "إنَّ بيننا وبينك المشركين من مُضَر، وإنَّا لا نصلُ إليك إلا في أشهرٍ حُرُم، فمُرنا بجُمَلٍ من الأمر إنْ عمِلنا به دخلنا الجنَّة وندعو إليه مَن وراءنا".

قال (ص): "آمرُكم بأربعٍ وأنهاكم عن أربع، آمرُكم بالإيمان بالله. وهل تدرون ما الإيمانُ بالله، شهادةُ أنْ لا إله إلا الله، وإقامُ الصلاة، وايتاءُ الزكاة، وتُعطوا الخمسَ من المغنَم .."(1).

وورد في صحيح البخاري في موضعٍ آخر بلفظٍ آخر عن ابن عباس قال: "قدم وفدُ عبد القيس فقالوا: يا رسولَ الله إنَّ هذا الحيَّ من ربيعة بيننا وبينك كفُّار مضر، فلسنا نصلُ إليك الا في الشهر الحرام فمُرنا بأمرٍ نأخذُ منه وندعو إليه مَن وراءنا، قال: آمرُكم بأربعٍ وأنهاكم عن أربعٍ الإيمان بالله شهادة أنْ لا إله إلا الله وعقد بيده وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وصيام رمضان وأنْ تُؤدُّوا لله خُمسَ ما غنِمتم .."(2).

فهذه الرواية اشتملتْ على الأمر بأداء خُمس المَغنم، ولا يصحُّ حملُ المَغنمِ فيها على غنائم الحرب، فإنَّ هؤلاءِ يشكون لرسول الله (ص) الضعفَ وأنَّهم عاجزونَ حتى عن الوفود إليه إلا في الأشهر الحرُم، فهم لضعفِهم يخشونَ كفَّارَ مُضَر الذين يتوسَّطون بين حيِّهم وبين مدينة الرسول (ص)، فإذا كانوا بهذا المستوى من الضعف فكيف يُؤمَرون بأداء خمس غنائم الحرب؟! ولذلك فالمُستَظهَر من المَغنم في هذه الرواية هو المدلول اللغويُّ وهو المَكسب، إذ هو المناسبُ لمساق الرواية، فالمَغنم بحسب مدلولِه اللغويِّ والعرفيِّ هو مُطلقُ الربحِ والفائدة، ومَساقُ الروايةِ يؤكِّدُ أنَّ هذا المدلول هو المرادُ من موضوع الأمرِ بالخُمس، هذا مضافًا الى أنَّ العادة جاريةٌ في عهدِ رسول الله (ص) أنَّ محاربة الكفَّار لا تكونُ إلا بأمرٍ خاصٍّ من الرسول (ص) أو أحدِ أُمرائه وبعد أنْ تنقضيَ الحربُ تُحمَلُ الغنائمُ بأجمعِها إلى الرسول (ص) أو إلى الأمير عنه ثم يتصدَّى الرسولُ (ص) أو الأميرُ بإخراج الخمس بنفسه ثم يُوزِّع الباقي على المقاتلين، فلا معنى لأمرِهم بأداء خمس غنائم الحرب، فلتكن هذه قرينة ثالثة تُؤكِّد على استظهار إرادة المَكسب من كلمة المَغنم وكلمة غنِمتم في الرواية.

الثاني: ما رواه ابنُ عساكر في تاريخ دمشق أنَّ النبيَّ (ص) كتب لقبيلة جُهينة بن زيد بعد أنْ وفد عليه عمرو بن مرَّة مع مَن أسلَمَ منهم، وقد جاء في الكتاب: "هذا كتابُ أمانٍ من اللهِ العزيز على لسانِ رسولِه بحقٍّ صادق وكتابٍ ناطق مع عمرو بن مُرَّة لجُهينة بن زيد أنَّ لكم بطونَ الأرض وسهولَها وتلاعَ الأودية وظهورَها على أنْ ترعوا نباتَها وتشربوا ماءَها على أنْ تُؤدُّوا الخُمس وتُصلُّوا الخَمس .."(3).

وهذه الروايةُ أظهرُ من الروايةِ السابقة في إرادةِ خُمس أرباح المكاسب من الأمر بأداء الخُمس، فإنَّ سياقَ الحديث كان حول الزروع والمواشي، فالأمرُ بأداء الخمس في هذا السياق إنَّما يُناسب خُمس أرباح المكاسب، على أنَّ صدر الكتاب كان عهدًا لهم من رسول الله (ص) بالأمان فأين ذلك من الحرب وغنيمة الحرب، والحال أنَّ حربَ المشركين إنَّما تكون بأمرِ الرسول (ص) وتخطيطه وبواسطة سراياه وهؤلاء بعدُ لم يتمَّ التثبُّت من إيمانهم، فهو كتاب دعوةٍ للإيمان وعهدٍ بالأمان إنْ أقاموا فرائض الإسلام.

الثالث: ما رواه ابنُ سعدٍ في الطبقات الكبرى قال: وكتبَ رسولُ الله (ص) لبني معاوية بن جرول الطائيين: "لمَن أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسولَه وأعطى من المَغانم خمسَ الله وسهم النبيِّ وفارقَ المشركين وأشهدَ على إسلامه أنَّه آمنٌ بأمانِ الله ورسولِه وأنَّ لهم ما أسلموا عليه"(4).

ورواه ابنُ عساكر في تاريخ دمشق بسنده إلى عمرو بن حزم(5).

الرابع: ما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى قال: وكتبَ رسولُ الله (ص) لجُنادة الأزدي وقومه ومَن تبعه: "ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا اللهَ ورسولَه وأعطَوا من المغانم خُمسَ الله وسهمَ النبيِّ وفارقوا المشركين، فإنَّ لهم ذمةَ الله وذمةَ محمَّدِ بن عبد الله"(6).

وقد ورد في العديد من الكتب التي أرسلها النبيُّ (ص) للقبائل ما يقربُ من هذين النصَّين، وتقريبُ الاستدلالِ بها هو أنَّ المُستَظهَر من المَغانم هو إرادةُ مُطلق الأرباح والمكاسب كما هو مقتضى المدلولِ اللغويِّ لمادَّة غنِم مضافًا إلى استبعاد إرادةِ مغانم الحرب، فهم بعدُ لم يتمَّ التثبُّت من إسلامِهم، والكتبُ المُرسَلة لهذه القبائل والأحياء إنَّما هي بصدد إدخالهم في عهد الله ورسوله(ص) إنْ أقاموا فرائضَ الإسلام وليست بصدد الأمر لهم بمحاربة مَن يليهم من المشركين، وقصارى ما تأمرُ به هذه الكتب هو مفارقةُ المشركين، ثم إنَّ أمرَ الحرب وتقسيمِ الغنائم إنَّما هي بعُهدة الرسول (ص) وأُمرائه، فلا معنى للأمر بخمس المغانم إلا ما يقتضيه المدلولُ اللغويُّ لكلمة الغنيمة وهي مطلقُ الربحِ والفائدة.

ولو لم يتمَّ القبول بما تمَّ استظهارُه من هذه النصوص المُستفيضة فلا أقلَّ من أنَّ إرادة هذا المعنى محتملٌ قويًّاً وعليه كيف يمكنُ الجزمُ بأنَّ الأمر بتخميس أرباح المكاسب لم يكنْ قد صدر عنالرسول (ص)؟! وإذا لم يكن الجزمُ بدعوى عدم صدور الأمر بتخميس أرباح المكاسب عن الرسول (ص) ممكنًا بعد ورود مثل هذه الأخبار المُستفيضة فإنَّه لا مجال حينئذٍ للتمسُّك بقرينيَّة عدم الصدور لإثبات نفي الوجوب الشرعي فإنَّ عدم الصدور غير مُحرَزٍ كما تبيَّن من مثل هذه الأخبار.

على أنَّ من المُجازفة -بقطع النظر عمَّا تقدَّم- الجزمَ بعدم صدور الأمر بتخميس أرباحِ المكاسب -وهي مسألة فرعيَّة- مع الإلتفات إلى الفاصلة الزمنيَّةِ الطويلة التي تفصلُنا عن عهد النبوَّة وما تعقَّبها من قيام دولٍ كانت شديدةَ الحرص على إخفاء كلِّ ما من شأنِه التعبير عن أيِّ تميُّزٍ لأهل البيت (ع) وقد كُتبَ الحديثُ والتأريخُتحت نظرهِم وبإشرافهم، فدواعي الإخفاءِ لمثل هذه المسألة متوافرةٌ وقويَّةٌ، ويُوشِّر إليها العمل الدؤوب على التعمية حتى على اختصاص أهل البيت (ع) بخمس غنيمة الحرب رغم وضوحِه.

عدم بعث الجباة لقبض الخمس:

وأمَّا عدم تصدِّي الرسول (ص) لبعث الجُباة لقبضِ أرباحِ المكاسب كما كان يبعثُ الجُباة لقبضِ الزكاة فهو لو ثبتَ فإنَّه لا ينفي الوجوبَ الشرعيِّ لتخميس أرباح المكاسب فقد يكون منشأُ عدم بعث الجُباة لقبض خمس الأرباح هو أنَّ ذلك لا يُمكن ضبط زمنِه وكميَّته كما هو الشأنُ في زكاة الغلَّات وزكاة الأنعام، فإنَّ لزكاة الغلَّات زمنًاً وموسمًا مُنضبِطًا نسبيًاً وكذلك زكاة الأنعام فإنَّ العامل على قبض الصدقة يمكنُه التثبُّت من بلوغ النصاب ومقدار ما يجبُ إخراجُه من الزكاة، فإنَّ وجود الأنعام وعدمَه ومقدارَها أمرٌ يسهلُ التثبُّت منه ومن مواطنِ تواجدِه في الحظائر والمراعي، ولعلَّه لذلك لم يكن الرسولُ (ص) يبعثُ الجُباةَ لقبض زكاة النقدين، كما أنَّه يجبُ إخراج زكاة الأنعام في كلِّ عامٍ إذا كانت قد بلغت النصاب، وعلى خلاف كلِّ ذلك يكون خمسُ أرباح المكاسب فإنَّه لا يجبُ تخميس الأرباح إلا مرَّةً واحدة، فما تمَّ تخميسُه لا يجبُ تخميسُه مرَّةً أخرى كما أنَّ الأرباح قد تكونُ نقداً وقد تكون أعياناً وذلك لا يُعرفُ إلا من قِبَل المكلَّف نفسه، وقد يكونُ الربحُ بيِّناً إلا أنَّه لا يجبُ اخراجُ الخُمس منه لاستيعابِ المؤنةِ له أو لعدم معرفة مقدار ما سيُصرف في المؤنة، فمقدارُ ما يجبُ تخميسُه ونوعُ ما ثبتَ فيه الخُمس لا يُمكن معرفتُه إلا مِن قِبَل المكلَّف نفسِه.

على أنَّ من المُحتمل أنَّ النبيَّ (ص) لم يتصدَّ لبعث الجُباة لقبضِ خمس أرباح المكاسب واكتفى بتبليغ الوجوب للمسلمين لأنَّ الناس كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام فلعلَّ الإلحاح ببعث الجُباة لقبض الخُمس يبعثُ على الارتياب في نيَّته (ص) وأنَّه -معاذ الله- يقصدُ من ذلك الحرص على مصلحته الشخصيَّة وعلى خلاف ذلك بعثُ الجباة لقبض الزكاة فإنَّ أحدًا لا يرتابُ في أنَّ ذلك يعودُ بالنفع على فقراءِ المسلمين.

ولعلَّه لم يشأ التصدِّي لبعث الجُباة خشيةَ أن يتَّخذ الحكامُ مِن بعدِه ذلك ذريعةً للاستحواذ على الخُمس وصرفِه في غير مصارفِه كما فعلوا ذلك في الزكاة إلا أنَّ الأمر في الزكاة يختلفُ عن الخمس فإنَّ حاجة المسلمين إليه مُلحَّة وعامَّة ولا يسعُ النبيّ (ص) تأمينها بغير ذلك فكان لابدَّ له من التصدِّي لقبضه لتأمين حاجاتِهم وإنْ أدَّى ذلك إلى استغلال هذا المنصب من قِبَل الحكَّامِ من بعدِه، على أنَّ الحكام لا يسعُهم حجبَ الزكاة وأموال الخراج بكاملِها عن المسلمين لكثرتِهم ووضوح حقِّهم في ذلك والخشية من سخطِهم وتمرُّدهم، وعلى خلاف ذلك الأمر في الخمس فإنَّ من الميسور على الحكَّام استضعافَ بني هاشم وحجبَهم عن حقِّهم في الخمس كما فعلوا ذلك في خمس غنيمة الحرب.

فمع قيام هذه الاحتمالات لا يصحُّ التمسُّك بعدم تصدِّي الرسول (ص) لبعث الجُباة لنفي الوجوب الشرعي لخمس أرباح المكاسب خصوصًا بعد تواتر النصوص على وجوبِه من قِبَل الأئمة منذُ عهد الصادقَين (ع) إلى عهد الإمام الحجَّة (ع).

وأمَّا عدم تصدِّي الإمام أمير المؤمنين (ع) أيام خلافتِه الظاهريَّة لقبض الخُمس فلعلَّ ذلك نشأ عن ذاتِ الأسباب التي منعت الرسولَ (ص) من التصدِّي لبعث الجُباة لقبض الخمس بل لعلَّ الموانع في عهدِه أبلغ، فإنَّ بعث الجُباة لقبض الخمس لم يفعلْه الرسول (ص) بحسب الفرض ولم يفعله الخلفاءُ الذين جاءوا مِن بعده، وإمكانيَّة الارتيابِ في نيَّتِه وقصدِه أكبر لكثرة المنافقين المناوئين له وتمكُّنِهم من التشويش على ما يفعل، ولذلك لم يسترجع فدكًا والعوالي ونصيبَ فاطمةَ (ع) من خيبر.

وأما عدم تصدِّي الخلفاء لبعث الجُباة لقبضِ الخمس رغم تناسبِه لمصالحِهم وأغراضِهم فمنشأه أنَّ ذلك لم يتصدَّ النبيُّ (ص) لفعلِه ولعلَّهم ارتأوا أنَّهم وإنْ كانوا سينتفعون به إلا أنَّ المحذورَ من التصدِّي لقبضِه قد يكونُ أبلغ بنظرهم، فإنَّ ذلك قد يُفضي إلى شيوع تميُّز أهل البيت (ع) وبني هاشم على سائر الناس، فإنَّهم لو تمكَّنوا من التنكُّر لاستحقاق أهل البيت لسهم الله تعالى وسهم رسولِه (ص) فليس في وسعهم التنكُّر نظريًّا لاستحقاقِهم لسهم ذوي القربى والذي نصَّ عليه القرآنُ في آية الخمس، فلو تمكَّنوا من حجبِه عنهم فإنَّهم غير قادرين على التنكُّر أمام الناس لاستحقاقهم في شرع الله لسهم ذوي القربى، وحيثُ إنَّ خمس أرباح المكاسب يتَّصل مباشرةً بالمسلمين وتجاراتِهم وصنائعهم وضياعهم فسوف يكونُ حقُّ أهل البيت (ع) وتميُّزهم في هذا الشأن دائمَ الحضور في أذهان المسلمين وعلى خلاف ذلك خمس غنائم الحرب فإنَّها بعهدة الولاة والحكام، فليس له ذاتُ الحضور الذي يكونُ لخمسِ أرباح المكاسب.

وأما دعوى عدم تصدِّي الأئمة الأوائل (ع) لتبليغ الحكم بوجوب الخمس في أرباح المكاسب فإنَّ عدم تصدِّيهم لتبليغ ذلك إلى خواصِّهم ليس مُحرَزًا، ولم يكن الشيعةُ بالمعنى الخاصِّ في زمنِهم من الكثرة بحيثُ يكون التبليغُ لمثل هذا الحكم مقتضيًا لوصوله إلينا، ولعلَّ الأئمةَ الأوائل (ع) لم يكونوا يرون ضرورةً للتأكيد على بيان هذا الحكم وانتشاره في ذلك الظرف إما لأنَّه لن يترتَّب عليه أثرٌ عمليٌّ أو لأنَّ ثمة ما هو أجدر بالاهتمام، فإنَّ زمانَهم كان متخمًا بالقضايا والأحداث، نعم يظهرُ من الروايات تأكيدُهم على حقِّهم في الخمس دون التصدِّي للتفاصيل، على أنَّه قد ذكرنا أنَّ أكثر أحكام الشريعة لم تصلْنا من الأئمة الأوائل (ع) فالكثيرُ الكثير من أُمَّهات المسائل فضلًاً عن تفاصيلها إنَّما وصلتنا من طريق الصادقَين (ع) ومَن جاءَ بعدهما من الأئمةِ الطاهرين (ع).

المحور الثاني: هي المناقشة لنتيجة الدعوى وهي نفيُ الوجوب الشرعيِّ لخمس أرباح المكاسب وحملُ الأمر بتخميس أرباح المكاسب الوارد في النصوص المأثورة عن الأئمةِ منذُ عهد الصادقَين (ع) على إرادةِ الحكم الولائي.

وهذه النتيجة مُبتنيةٌ على تماميَّة الدعوى التي تمَّ تحريرُها في صدر المقال، وحيثُ قد تبيَّن سقوطُها لذلك فالنتيجةُ المُبتنيةُ عليها تكونُ تابعةً لها في السقوط، ويتعزَّز سقوطُ هذه النتيجة مِن ملاحظة الكثير من الروايات الواردة عن الأئمةِ منذ عهد الصادقين (ع) والآمرةِ بخمس أرباح المكاسب فإنَّ لحنَها ولسانَها واضحُ الدلالة في الإيجاب الشرعي، ونذكرُ مِن هذه الروايات عددًا من النماذج:

الأول: ما رواه محمد بن إدريس في آخر السرائر بسندٍ معتبر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كتبتُ إليه في الرجل يُهدي إليه مولاه والمنقطعُ إليه هديَّةً تبلغُ ألفي درهم أو أقلَّ أو أكثر هل عليه فيها الخمس؟ فكتبَ (عليه السلام): الخمسُ في ذلك، وعن الرجل يكونُ في داره البستان فيه الفاكهةُ يأكلُه العيال إنَّما يبيعُ منه الشيءَ بمائةِ درهم أو خمسين درهمًا هل عليه الخمس ؟ فكتبَ أمَّا ما أكَلَ فلا، وأمَّا البيعُ فنعم هو كسائر الضياع"(7).

فهذه الرواية صريحةٌ في أنَّ موردها هو خمس أرباح المكاسب ومُطلق الفائدة كما أنَّ من الواضح أنَّ سؤالَ السائل كان عن أنَّ الخمس المفروض شرعًا هل يثبتُ في مثل الهديَّة وما يُباع من الثمار، فاللام في قول السائل: "هل عليه فيها الخمس" وفي قول الإمام (ع): "الخمسُ في ذلك" عهديَّة تُشيرُ إلى ما فرضه اللهُ تعالى بآية الخمس. فالسؤالُ إنَّما هو عمَّا يدخلُ في موضوع هذه الفريضة وأنَّ الهدية وما يُباع من الثمار هل هما ممَّا فرض اللهُ فيه الخمس فجاء الجواب مبيِّنًا لذلك.

الثاني: ما رواه الكلينيُّ بسندٍ موثَّق عن سماعة قال: سألتُ أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس ؟ فقال: في كلِّ ما أفادَ الناسُ من قليلٍ أو كثيرٍ"(8).

فالرواية صريحة أنَّ موردها خمسُ أرباح المكاسب ومُطلقِ الفائدة، كما أنَّها واضحةٌ في أنَّ سؤال السائل كان عن حدود موضوع الخمس الذي فرضَه الله على عبادِه، فأصلُ الوجوب معلومٌ ولكنَّ السؤال عن حدود موضوعِه فجاء الجوابُ أنَّ حدودَ موضوعِه هو كلُّ ما أفاد الناس من قليلٍ وكثير.

الثالث: ما رواه الشيخ الطوسي بسندٍ صحيح عن علي بن مهزيار عن محمد بن الحسن الأشعري قال: "كتب بعضُ أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) أخبرني عن الخمس أعلى جميع ما يستفيدُ الرجلُ من قليلٍ وكثيرٍ من جميع الضروب وعلى الضياع؟ وكيف ذلك؟ فكتب بخطِّه (عليه السلام): الخمسُ بعد المؤنة"(9).

فهذه الرواية كالرواية السابقة صريحةٌ في أنَّ موردها خمس أرباح المكاسب، والسائل كتب للإمام (ع) يسألُه عن حدود موضوع الخمس الذي فرضه اللهُ تعالى، فوجوبُ الخمس معلومٌ لدى السائل فإنَّ اللام في قوله: "أخبرني عن الخمس" عهديَّة تشيرُ إلى الخمس المعهود والمفروض بمثل آية الخمس فأصلُ الوجوب معلوم، وسؤالُ السائل إنَّما هو عن حدود موضوع هذا الوجوب.

الرابع: ما رواه الشيخ الطوسي بسندٍ صحيح عن عليِّ بن مهزيار عن أبي جعفرٍ الجواد (ع) : ".. فأما الغنائمُ والفوائد فهي واجبة عليهم في كلِّ عام قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾(10) والغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمُها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يحتسب .."(11).

وهذه الفقرة من الرواية صريحةٌ في أنَّ خمس أرباح المكاسب ومُطلق الفائدة فريضةٌ إلهيَّة، فالإمامُ (ع) كان بصدد التفسير لآيةِ الخمس والبيان لبعض مواردها، وهذه الآية من أدلَّة القول باطلاق الآية وعدم اختصاصِها بغنائم الحرب، وقولُه (ع) والفوائد بعد الغنائم من عطف التفسير وزاد (ع) ذلك وضوحًا بقوله: "والفائدة يفيدها" ثم إنَّ قوله: "فأما الغنائمُ والفوائدُ فهي واجبة عليهم في كلِّ عام" لا يناسب غنائم الحرب ولا غيرها من موارد الخمس عدا أرباح المكاسب فهي التي تتَّفق في كلِّ عام ويُستثنى منها مؤنة النفس والعيال دون غيرها من موارد وجوب الخمس.

الخامس: ما رواه الكليني عنعِدَّة مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَتَبْتُ جُعِلْتُ لَكَ الْفِدَاءَ تُعَلِّمُنِي مَا الْفَائِدَةُ ومَا حَدُّهَا رَأْيَكَ -أَبْقَاكَ الله تَعَالَى- أَنْ تَمُنَّ عَلَيَّ بِبَيَانِ ذَلِكَ لِكَيْلَا أَكُونَ مُقِيمًا عَلَى حَرَامٍ لَا صَلَاةَ لِي ولَا صَوْمَ فَكَتَبَ الْفَائِدَةُ مِمَّا يُفِيدُ إِلَيْكَ فِي تِجَارَةٍ مِنْ رِبْحِهَا وحَرْثٍ بَعْدَ الْغَرَامِ أَوْ جَائِزَةٍ"(12).

وهذه الرواية صريحةٌ في أنَّ موردَها خمس أرباح المكاسب، والواضح انَّ السائل إنَّما كان يسألُ عن حكم الله تعالى كما هو مقتضى قولِه: "لكي لا أكونَ مقيمًا على حرامٍ لا صلاة لي ولا صوم".

السادس: ما رواه الشيخُ الطوسيُّ بسنده عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : "على كلِّ امرئ غنِم أو اكتسب الخمس ممَّا أصابَ لفاطمة (عليها السلام) ولمَن يلي أمرها من بعدها من ذريَّتِها الحجج على الناس فذاك لهم خاصَّة يضعونه حيثُ شاؤوا، وحرَّم عليهم الصدقة حتى الخيَّاط يخيط قميصًا بخمسةِ دوانيق فلنا منه دانقٌ إلا مَن أحللناه من شيعتِنا لتطيب لهم به الولادة، إنَّه ليس من شيءٍ عند الله يوم القيامة أعظمُ من الزنى إنَّه ليقوم صاحبُ الخمس فيقول: يا ربِّ سلْ هؤلاء بما أُبيحوا"(13).

فهذه الرواية صريحةٌ في أنَّ خمس في أرباح المكاسب -كأجرة الخيَّاط- حقٌ شرعيٌّ مجعولٌ من قبل الله تعالى لفاطمة (ع) ولمَن يلي أمرها من الحُجج على الناس، إذ إنَّ في نسبة الحقِّ لفاطمة وذريَّتِها إشارةً بيِّنة إلى آيةِ الخمس والتي فرَض اللهُ فيها الخُمس لذوي القربى وكذلك فإنَّ في قولَه (ع): وحرَّم عليهم الصدقة إشارةً إلى أنَّ الشأن في خُمس أرباح المكاسب هو الشأنُ في خمس غنيمة الحرب فالذي حرَّم عليهم الصدقة هو الذي أوجبَ لهم الخُمس، فإيجاب الخمس في الأرباح ليس من جعل الحاكم الشرعي وإنَّما هو من جعل مَن حرَّم عليهم الصدقة، وثمة قرينةٌ ثالثة في الرواية تدلُّ على إرادة الجعل الشرعي لخمس أرباح المكاسب وهي قولُه (ع): "إنَّه ليس من شيءٍ عند اللهِ يوم القيامة أعظمُ من الزنى إنَّه ليقوم صاحبُ الخمس فيقول: يا ربِّ سلْ هؤلاءِ بما أبيحوا" فإنَّ إسناد الخمس إلى صاحبه ظاهرٌ جدًا في أنَّ الله تعالى هو مَن جعل الخمس نصيبًا له بحيثُ صحَّت إضافته إليه وصحَّ له أنْ يشكوَ عند ربِّه كلَّ من ضيَّع هذا الحقَّ وفرَّط في الوفاءِ به، وهذا اللحنُ واللسان إنَّما يُناسبُ الجعل الشرعيَّ وليس الحكمَ الولائي. خصوصًا مع الالتفات إلى ما يترتَّب على التفريط في هذا الحقِّ من أثرٍ على المناكح.

السابع: ما رواه عليُّ بن موسى بن طاوس في كتاب (الطرف) بإسناده عن عيسى بن المستفاد، عن أبي الحسن موسى جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأبي ذر وسلمان والمقداد: أشهدوني على أنفسكم بشهادة أن لا إله إلا الله -إلى أن قال:- وأنَّ عليَّ بن أبي طالب وصيُّ محمَّدٍ وأميرُ المؤمنين، وأنَّ طاعتَه طاعةُ اللهِ ورسولِه، والأئمة من ولده، وأن مودَّة أهل بيته مفروضةٌ واجبة على كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة مع إقام الصلاة لوقتِها، وإخراج الزكاة من حلِّها ووضعها في أهلِها، وإخراج الخمس من كلِّ ما يملكُه أحدٌ من الناس حتى يرفعَه إلى وليِّ المؤمنين وأميرِهم، ومن بعده من الأئمة من ولدِه، فمَن عجز ولم يقدر إلا على اليسير من المال فليدفعْ ذلك إلى الضعفاء من أهلِ بيتي من ولدِ الأئمةِ، فمَن لم يقدر (على ذلك فلشيعتهم) ممَّن لا يأكلُ بهم الناس ولا يريدُ بهم إلا الله -إلى أنْ قال:- فهذه شروطُ الإسلام وما بقيَ أكثر"(14).

فهذه الرواية مُسندة إلى صاحب التشريع والصادعِ به (ص)، وقد أفاد بأنَّ اخراج الخمس من كلِّ ما يملكُه أحدٌ من الناس فريضةٌ على كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ شأنُه في ذلك شأنُ اقامةُ الصلاة وأداءُ الزكاة، وختمَ (ص) بأنَّ ذلك من شروطِ الإسلام.

الثامن: ما رواه الكليني بسنده عن محمد بن زيد قال: قدم قومٌ من خُراسان على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فسألوه أنْ يجعلَهم في حلٍّ من الخمس فقال: ما أمْحلَ هذا؟! تمحضونا المودَّة بألسنتِكم وتزوونَ عنَّا حقًا جعله اللهُ لنا وجعلنا له، لا نجعلُ، لا نجعلُ، لا نجعلُ لاحدٍ منكم في حلٍّ"(15).

وهذه الرواية صريحةٌ في أنَّ الخمس حقٌّ شرعيٌّ مجعولٌ من قِبل الله تعالى كما هو مفاد قوله (ع): "حقًا جعله اللهُ لنا" والواضحُ أنَّهم إنَّما يسألون الإمام (ع) عن خمس أرباح المكاسب، فذلك هو الذي يكونُ موردًا لابتلائهم وأما خمسُ غنيمة الحرب فليستْ من شأنِهم.

التاسع: ما رواه محمد بن الحسن الصفار في (بصائر الدرجات): عن أبي محمد، عن عمران بن موسى بن جعفر، عن علي بن أسباط، عن محمد بن الفضل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: قرأتُ عليه آية الخمس فقال: ما كان لله فهو لرسولِه (ص) وما كان لرسولِه (ص) فهو لنا، ثم قال (ع): واللهِ لقد يسَّر اللهُ على المؤمنين أرزاقهم بخمسة دراهم، جعلوا لربِّهم واحدًا وأكلوا أربعةً أحِلَّاء ثم قال (ع): هذا من حديثنا صعب مستصعب لا يعملُ به ولا يصبرُ عليه إلا مُمتحَن قلبُه للإيمان(16).

ورواه محمد بن الحسن الصفار بسندٍ آخر في كتاب بصائر الدرجات عن عمران بن موسى عن موسى بن جعفر (عليه السلام).

الرواية صريحةٌ في انَّها بصدد بيان ما فرضَه الله تعالى على عباده بآية الخمس وانَّه جعل عليهم في مُطلقِ أرزاقهم الخُمس، ففي كلِّ خمسة دراهم درهمٌ لربِّهم وأربعة حلال لهم، وهذا من التكليف الصعبِ المُستَصعب الذي لا يمتثلُه ولا يصبرُ عليه إلا مَن امتحنَ اللهُ قلبَه لللإيمان.

العاشر: ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ الطَّبَرِيُّ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ مِنْ تُجَّارِ فَارِسَ مِنْ بَعْضِ مَوَالِي أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (ع) يَسْأَلُه الإِذْنَ فِي الْخُمُسِ فَكَتَبَ إِلَيْه: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّ اللَّه وَاسِعٌ كَرِيمٌ ضَمِنَ عَلَى الْعَمَلِ الثَّوَابَ وعَلَى الضِّيقِ الْهَمَّ، لَا يَحِلُّ مَالٌ إِلَّا مِنْ وَجْه أَحَلَّه اللَّه وإِنَّ الْخُمُسَ عَوْنُنَا عَلَى دِينِنَا وعَلَى عِيَالاتِنَا وعَلَى مَوَالِينَا ومَا نَبْذُلُه ونَشْتَرِي مِنْ أَعْرَاضِنَا مِمَّنْ نَخَافُ سَطْوَتَه فَلَا تَزْوُوه عَنَّا ولَا تَحْرِمُوا أَنْفُسَكُمْ دُعَاءَنَا مَا قَدَرْتُمْ عَلَيْه فَإِنَّ إِخْرَاجَه مِفْتَاحُ رِزْقِكُمْ وتَمْحِيصُ ذُنُوبِكُمْ ومَا تَمْهَدُونَ لأَنْفُسِكُمْ لِيَوْمِ فَاقَتِكُمْ والْمُسْلِمُ مَنْ يَفِي لِلَّه بِمَا عَهِدَ إِلَيْه ولَيْسَ الْمُسْلِمُ مَنْ أَجَابَ بِاللِّسَانِ وخَالَفَ بِالْقَلْبِ والسَّلَامُ"(17).

ومورد الرواية هو خمس أرباح المكاسب بقرينة انَّ الطالب للإذن في الخمس من الإمام الرضا (ع) رجلٌ من تجَّار فارس مضافًا إلى أنَّ خمس أرباح التجارة هي مورد الابتلاء لمثله دون خمس غنيمة الحرب، والخمسُ الذي يكون عونًا لأهل البيت (ع) في دينهم وعيالهم هو خمسُ أرباح المكاسب، وأما خمسُ غنيمة الحرب فهو محجوبٌ عنهم، والموارد الأخرى للخمس كالكنز والغوص في غاية النُدرة لا يصحُّ وصفها بالمُعينةِ لهم في دينِهم وعيالهم وسائرِ شئونهم، والواضحُ من جواب الإمام (ع) أنَّ إخراج خمس التجارة تكليفٌ جعلَه الله تعالى في عُهدة كلِّ مسلم وأنَّ عليه أنْ يفيَ لله تعالى بما عهِد إليه "ولَيْسَ الْمُسْلِمُ مَنْ أَجَابَ بِاللِّسَانِ وخَالَفَ بِالْقَلْبِ".

هذه مجموعة من الروايات التي تفوق حدَّ الاستفاضة -وثمة غيرُها- تدلُّ على أنَّ الخمس في أرباح المكاسب من الخمس الذي فرضَه اللهُ تعالى على عباده وليس كما توهَّمه البعضُ أنَّ الأمر به ولائيٌّ، وأما رواياتُ التحليل على الاختلاف في حدودها فهي أيضًا من أدلَّة كون الخمس فريضةٌ إلهيِّة وأنَّه حقٌّ قد جعله اللهُ تعالى لرسوله (ص) وأهل بيته (ع) إذ لا معنى لتحليل المال إلا مع افتراض كونه محرَّمًا فصار مباحًا بالتحليل فمع الالتفات إلى كون هذا المال جزءًا من أرباح مكاسب المكلَّف فلا معنى لتحليله إلا أنَّ الله قد جعل هذا الجزءَ من المكسب حقًا لغير المالك فيمتنُّ صاحبُ الحق بجعلِه مباحًا للمالك.

ولو كان الأمرُ بخمس أرباح المكاسب حكمًا ولائيًا لما صحَّ وصفُ رفعه بالتحليل، فالحكم الولائيُّ حين يُجعل يكونُ لازمًا وحين يُرفع ينتفي أثرُه وبانتفاء أثره يكون المال حقًا للمالك فلا يستقيمُ وصفُه بالمحلَّل، لأنَّ التحليل معناهُ ثبات الحقِّ لذي الحقِّ مع إباحته لغير ذي الحقِّ في حين انَّ رفع الحكم الولائي معناه انَّ المال جزءٌ من ملك المكلَّف لأنَّه جزءٌ ممَّا كان قد اكتسبه فلا معنى لتحليلِه.

وبتعبيرٍ آخر: لا يستقيم وصف المال بالمحلَّل إلا مع افتراض أنَّ الحقَّ فيه ثابتٌ لذي الحقِّ وقد أباحه في حين أنَّ رفع الحكم الولائي يعني أنَّ مَن افتُرِضَ كونُه صاحبَ حقٍّ في المال لم يَعُد بعد رفع الحكم الولائي صاحبَ حقٍّ فلا معنى للتحليل، فرواياتُ التحليل تدلُّ على أنَّ خمس أرباح المكاسب حقٌّ شرعيٌّ مجعولٌ لأهل البيت (ع) وقد أباحوه في بعض الفروضأو أباحوا جزءًا منه لشيعتهم خاصَّة في بعض الفروض، والذي يؤكِّد ذلك أنَّ التحليل لا يختصُّ بخمس أرباح المكاسب بل جاء تحليلُ خُمسِ أرباح المكاسب في سياق التحليل لخُمس غنيمة الحرب وخُمس مثل الكنز والغوص وجاء في سياق التحليل للأنفال والتي لا إشكال في أنَّها جميعًا حقٌّ مجعولٌ من قِبَل الله تعالى للرسول (ص) وأهل بيته (ع).

وبمجموع ما ذكرناه يتبيَّنُ وهنُ الشبهة وأنَّها لا تقومُ على أساسٍ علميٍّ رصين.

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- صحيح البخاري -محمد بن إسماعيل البخاري- ج8/ص217، مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج3/ص23، صحيح مسلم -مسلم النّيسابوري- ج1/ص35، 36.

2- صحيح البخاري -محمد بن إسماعيل البخاري- ج4/ص44.

3- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج46/ص346.

4- الطّبقات الكبرى -ابن سعد- ج1/ص269.

5- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج4/ص331.

6- الطّبقات الكبرى -ابن سعد- ج1/ص270.

7- وسائل الشّيعة -الحر العاملي- ج9/ص 504.

8- الكافي -الشيخ الكليني- ج1/ص545.

9- الاستبصار -الشيخ الطّوسيّ- ج2/ص55، تهذيب الأحكام -الشيخ الطّوسيّ- ج4/ص123.

10- سورة الأنفال/41.

11- الاستبصار -الشيخ الطّوسيّ- ج2/ص60-61، تهذيب الأحكام -الشيخ الطّوسيّ- ج4/ص141-142.

12- الكافي -الشيخ الكليني- ج1/ص545.

13- تهذيب الأحكام -الشيخ الطّوسيّ- ج4/ص122.

14- وسائل الشّيعة -الحر العاملي- ج9/ص553.

15- الكافي -الشيخ الكليني- ج1/ص548.

16- بصائر الدّرجات -محمد بن الحسن بن فروخ (الصفّار)- ص49.

17- الكافي -الشيخ الكليني- ج1/ص547-548.