الشيعة والتقية

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

بداية أرى من المناسب بيان معنى التقية؛ حتى يتجلَّى الأمر بشكلٍ تام:

معنى التقيَّة:

التقيَّة -بحسب مفهومها اللغوي- تعني صيانة النفس، والتحفُّظ عليها من الوقوع في الضرر، بل من الوقوع في كلِّ محذور، سواءً كان هذا المحذور محذوراً تكوينياً، أو كان محذوراً آخر كأن يكون المحذور من قبيل إكراه إنسانٍ مُتسلِّط قويٍّ متنفِّذ. فعندما يحتاط الإنسان لنفسه عن الوقوع في الآفات والأضرار التكوينية، فإنه يكون قد مارس التقية بمعناها اللغويّ، وكذلك عندما يمارس الإنسان الحيطة والحذر، ويتحفَّظ على نفسه من الوقوع في نتائج التهديدات التي هدده بها رجلٌ متسلِّط قويّ متنفِّذ، فإنه يكون قد مارس التقيَّة. فالتقية إذاً تعني صيانة النفس، وحفظها من كل محذورٍ. ثم إنّ التقية لا تختصّ -بحسب مدلولها اللغويّ، وكذلك بحسب مدلولها الاصطلاحي- لا تختص بحماية وصيانة وحفظ النفس وحسب، بل تشمل كلّ ما يتعلَّق بالنفس، فحفظ النفس من التلف والهلاك هو تقيَّة، وكذلك حفظ المال، وحفظ جميع المتعلَّقات، من أولادٍ وعيال، كلُّ ذلك يُعتبر من التقيَّة أيضاً.

إذن، هذا هو المراد من التقية بحسب مدلولها اللغويّ، وهي لا تبتعد كثيراً عن هذا المدلول بحسب الإصطلاح الفقهي والمذهبي، فالتقية -بحسب الإصطلاح الفقهي والمذهبي- أيضاً تعني ممارسة العمل الذي يحمي النفس، أو العرض، أو المال، أو المتعلقات، عن الوقوع في المكروه، كما أنَّ ممارسة الأعمال التي تُنتج حفظ المؤمنين، وحفظ حوزة الإسلام، وبيضة الإسلام، من الوقوع في الأخطار والمحاذير كلُّ ذلك يُعتبر من التقية.

وحتى يتضح الأمر أكثر نقول: إنَّ التقية تنقسم إلى مجموعة أقسام:

أقسام التقية:

أولاً: أقسام التقية بلحاظ المنشأ:

القسم الأول: التقية الخوفية:

التقية قد تكون ناشئة عن الخوف، وهذا الخوف قد يكون خوفاً على النفس، وقد يكون خوفاً على العرض، وقد يكون خوفاً على المال، وقد يكون خوفاً على الأولاد والعيال وجميع من تحوطه عناية ذلك الشخص، وقد تكون التقية ناشئة من الخوف على المؤمنين، فيمارس الإنسان بعض الأعمال التي تُنتج حفظ المؤمنين وحراستهم وصيانتهم عن الوقوع في المحاذير والأخطار والأضرار والأسواء، وقد تكون التقية لغرض حماية حوزة الإسلام وحماية كيان الإسلام والمسلمين.

القسم الثاني: التقية المداراتية:

التقية المداراتية لا يكون منشؤها الخوف من الوقوع في الضرر، أو الوقوع في الأذى، وإنما منشؤها تحبيب المخالفين، ومُؤالفتهم، ومُوادَّتهم؛ من أجل لمِّ الشَّمل، وجمع الكلمة، ومن أجل أن يكون للمسلمين كيان قوي متين ومتماسك، من أجل ذلك قد نضطر لمعاشرة المخالفين، ومخالقتهم، ومُوادَّتهم، والتحبُّب إليهم، لا لشيءٍ إلَّا ليكون الكيان الإسلامي كياناً متيناً قوياً، وهذا ما نُعبِّر عنه بتوحيد الكلمة، أو الوحدة الإسلامية.

إذن فالتقية قد يكون منشؤها الخوف، وقد تكون ناشئة عن أغراض اهتم بها الشارع المقدَّس. فعندما سكت عليٌّ (عليه أفضل الصلاة والسلام) عن حقِّه بعد أن طالب به، ولم يمارس أسلوب المواجهة العسكرية مع مخالفيه، ومع مدرسة الخلفاء الراشدين ومدرسة السقيفة، إنما سكت عن حقه تقية .. والمراد من التقية هنا التقية المداراتية، ولذلك صرَّح (سلام الله عليه) في عدَّة مواضع بأن الظلم إذا كان عليَّ خاصةً(1) فسأسكت، وإنما سأتحدَّث، وسأُواجه، وسأُعارض، إذا رجع الضَّيم، ورجع الظلم على المسلمين. إذاً فسكوت عليٍّ (ع) كان من قبيل التقيَّة المداراتية، التي كان الغرض منها لمَّ الشَّمل؛ باعتبار أنَّ الكفار، وأعداء الإسلام، لو وجدوا المسلمين متمزِّقين مختلفين لانقضُّوا عليهم، فتلك تصبح ثغرة يمكن للأعداء أن يدخلوا منها ويحطموا الكيان الإسلامي. إذاً فالتقية إنما كانت لغرضٍ شرعي يحبُّه الشارع، ويحرص على وجوده في الخارج. هذا تقسيم للتقية باعتبار منشئها.

ثانياً: أقسام التقية بلحاظ شخصية المتَّقي:

هناك تقسيم بلحاظ المُتَّقي نفسه الذي يمارس عملية التقية، فإنه قد يمارس عملية التقية بشكل شخصي، بمعنى أنه يخاف على نفسه من الوقوع في الأذى -مثلاً- فيظهر أنه يوافق الطرف المتنفِّذ والقوي، فمثلاً لو كان ثمَّة كافرٌ ظلوم غشوم، بحيث لو عرف أنَّك مؤمنٌ لقتلك، أو لسلب أموالك، أو لانتهك عرضك، فعندئذ أنت لا تُظهر له الإسلام والإيمان، بل تُخفي إيمانك وإسلامك؛ كي تنجو من أذى ذلك الكافر الظلوم وهنا التقية يمكن التعبير عنها بأنها تقية شخصية؛ لصيانة النفس، أو لمتعلَّقات النفس عن الوقوع في الأذى.

القسم الثاني: تقية الشخص غير العادي:

وقد يكون المتقي من ذوي الشأن في المذهب، ومن أعمدة المذهب، ومن علماء الطائفة -مثلاً-، فتقية هذا الرجل تختلف بنحوٍ ما عن تقيَّة الشخص الاعتيادي، فقد يكون للشخص الاعتيادي في بعض الأحيان أن يتَّقي، أو أن يُخفي بعض معتقداته، ولكن قد لا يسوغ لرئيس المذهب وزعيم الطائفة أن يمارس هذا الأسلوب، نعم قد يكون له أن يُمارس التقيَّة في أحوالٍ أخرى. هذا تقسيمٌ ثانٍ.

ثالثاً: أقسام التقية بلحاظ المُتَّقى منه:

القسم الأول: الإتقاء من الكفار:

هناك تقسيم ثالث للتقية، وهو تقسيم بحسب المتَّقَى منه، فقد نتَقي من الكُفَّار، ولا إشكال في صحَّة التقية، وجوازها، ومشروعيتها، عندما يكون المُتَّقى منه كافراً لا يؤمن بالإسلام، كاليهود مثلاً والوثنيين مثلاً.

القسم الثاني: الإتقاء من السلطان الجائز:

وقد يكون المُتَّقى منه سلطاناً -جائراً سواء كان شيعياً أو سنياً-، فإنك إذا أظهرت له التدين والإيمان قد يقتلك، وقد يمارس معك بعض الممارسات المؤذية السيِّئة التي قد تُسيء لك ولعائلتك، أو تُسيء لأولادك مثلاً.

القسم الثالث: الإتقاء من المخالفين:

وقد يكون المُتَّقى منه هم المخالفون: الذين نختلف معهم في المذهب، وإن كنا نشترك معهم في الإسلام والشهادتين، ولكن نختلف معهم في بعض الأصول الإعتقادية. فقد يضطرنا الوضع، وقد تكون الأجواء محمومة، فيضطر المؤمن الذي يعتقد بمذهب أهل البيت (ع) أن يُخفي اعتقاده بأهل البيت (ع)، وأن يُخفي اعتقاده بأحقِّية علي ابن أبي طالب (ع) بالخلافة؛ وذلك تحفُّظاً على عرضه، أو نفسه، أو ماله، أو تحفُّظاً على الكيان المذهبيّ.

رابعاً: تقسيم التقية بلحاظ ما يُتَّقى فيه:

القسم الأول: التقية في ترك الواجب:

وهناك تقسيم رابع يُقسِّم التقية من حيث ما يُتَّقى فيه، أي شيء يُتَّقى فيه؟ هل هو ترك الواجب؟ هل أنَّ التقية -في مشروعيتها- تصل إلى حد أن نترك الواجب، أو أن نفعل الحرام؟

نعم، تكون التقية في ترك فعلٍ واجب، مثلاً: قد نترك الصوم تقيةً، مثلاً يأتي وقت غروب الشمس -سقوط القرص-، وأنا في وسطٍ سُنِّي لا يتفَّهم الاختلاف في الفقه، فإذا لم أُفطر فإنَّ ذلك قد يؤدي إلى أن اُقتل، أو إلى أن أُصاب ببعض الأذى في نفسي، أو في أهلي، أو في مالي، أو في عرضي، ففي هذه الحالة آكل معهم، وأتظاهر بأنِّي منهم، فأُفطر وقت إفطارهم، ثم أقضي الصوم وقد أُفطر يوم عيدهم -رغم أنَّ الهلال لم يثبت شرعاً عندي-، هذا يكون من قبيل ترك الواجب -ترك الصوم الواجب-.

القسم الثاني: التقية في ترك شرط، أو فعلِ مانع:

وقد تكون التقية بترك شرطٍ، أو بفعل مانع. أما ترك الشرط فكأنْ أترك بعض شرائط صحَّة الصلاة، فمن شرائط صحة الصلاة -مثلاً- الوضوء بالطريقة المخصوصة، وهنا قد أترك الوضوء بالطريقة المخصوصة الصحيحة عندنا لغرض التحفّظ على نفسي، أو مالي.

وقد تكون التقية بارتكاب مانعٍ، مثلاً من موانع صحة الصلاة كالتكفير -التكتف- أو من موانع صحَّة الوضوء كالمسح على الخُفَّ مثلاً، فعندما أصنع مثل هذه الأمور تقيَّة فهل ذلك يصحُّ، أو لا يصح؟ هذا نوعٌ من التقيَّة.

القسم الثالث: التقية في الموضوعات الخارجية:

وقد تكون التقية في الموضوعات الخارجية، كما مثلنا سابقاً بمن أفطر في نهار شهر رمضان على أنه يوم عيد، هذا اختلاف موضوعيّ، وإلاَّ فنحن والسُنَّة نتفق على أنه لا يجوز أن يفطر الإنسان يوماً من أيام شهر رمضان، ولكن اختلفنا في تشخيص الموضوع، يعني أنَّ هذا اليوم هل هو من أيام شهر رمضان، أو هو من أيام شوال، فهذا الاختلاف يُنتج أنه لا يجوز لي أن آكل، ولكن لو اضطرني الوضع إلى أن آكل معهم نظراً لتشخيصهم بأن ذلك اليوم هو يوم العيد، فهل يجوز أن آكل أو لا؟ هذه هي التقية في الموضوعات. هذا تمام الكلام في أقسام التقية.

وقد ثبت عندنا -نحن الإمامية- أنَّ التقية مشروعة في كلِّ شيء اضطر إليه المؤمن من هذه الأقسام التي بيناها، وقد قال أبو جعفر الباقر (عليه أفضل الصلاة والسلام): "التقية في كلِّ شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحلَّه الله له"(2).

التقية من الأصول العقلائية:

بعد بيان ما هو المراد من التقية وما هي أقسام التقية نصل للحديث عن نقطة أساسية وهي أن التقية من الأصول العقلائية، فما من عاقل يحترم عقله ويحترم العقلاء إلَّا ويرى أنَّ التقية أمر سائغ، هل من أحد لا يقول بأن أُخفي إيماني، كي أحفظ عرضي، ودمي، وأحفظ مؤمناً من الهلاك، وهل يقول عاقل بأن أُظهر إيماني فيموت ذلك المؤمن، أو يُهتك ذلك العرض، أو يُسفك ذلك الدم، هل من عاقل يرى ترجيح إظهار الإيمان على سفك الدم؟! هذه مسألة أوضح من أن تخفى على عاقل، وإنما تخفى على المُكابِر الذي يُصرّ على العناد، ويصرُّ على الشقاق. العقلاء دائماً يتعاملون في شئوناتهم على أساس التوازنات، وعلى أساس المعادلات، عندما يدور الأمر بين خيارين: خيار أول، وخيار ثان، فإنما يتم اعتماد الخيار الأول، أوالخيار الثاني لمبرِّر. فإذا كان الخياران هما من قبيل أن يُسفك دم مؤمن، أو أن أُكفِّر(3) في الصلاة، بين أن يُهتك عرض مؤمن، وبين أن أتظاهر بأني لست مؤمناً باللسان وأكتم الإيمان في قلبي، أيُّ الخيارين يختاره العقلاء؟ لو اخترتَ الخيار الأول للامك كلُّ العقلاء، وقالوا إنَّك سفيه لا عقل لك .. ماذا عليك لو قلتَ إنِّي لا أُؤمن ثم نجَّيت مؤمناً من الموت؟! هل من عاقلٍ يرى أنَّ الصدق يكون أرجح في موردٍ يُنتج قتل مؤمنٍ أو خراب قرية؟! أترى أنَّ الصدق أرجح لو جاءك رجلٌ غشوم ظلوم يبحث عن رجلٍ بريء مؤمن يعبد الله، فيقول لك أين ذهب؟ وأنت تعرف أين ذهب، فإما أن تقول لا أدري فينجو ذلك المؤمن، وإما أن تقول هو قد ذهب إلى ذلك المكان فيُقتل ذلك المؤمن، أترى أنَّ الصدق في مثل هذا المورد يحمده العقلاء؟! أم يقولون لك أنك شاركت في دم ذلك المؤمن، إنك قد أثمت وعصيت وارتكبت محرماً عندما أرشدت ذلك الغشوم إلى محلِّ ذلك المؤمن.

التقية من صغريات بحث التزاحم:

هذه هي التقية، التقية أن تقول لا أدري فينجو ذلك المؤمن. إذن نريد أن نخلص إلى هذه النتيجة: هناك بحثٌ يُسمَّى بحث التزاحم، التزاحم يعني عندما يكون الأمر بين شأنين لا ثالث لهما: إما أن تقوم بهذا الفعل، وإما أن تقوم بهذا الفعل، ويكون أحد الشأنين أهمَّ مِلاكاً، ويكون هذا الشأن أنفع، وأجدى، وأكثر حيطة .. ويكون الشأن الآخر أقلَّ منه رجحاناً، أو يكون عديم الرُّجحان، أو يكون مرجوحاً، فأيُّ الخيارين يختاره العاقل؟ أليس الخيار الذي هو أقوى ملاكاً، وأهم ملاكاً؟! هذا هو التزاحم. التقية من صغريات كبرى التزاحم؛ فالتقية إنما شُرِّعت لحماية الأغراض الأكثر أهمية، فعندما يؤول الأمر بين أن يُحفظ كيان المسلمين، وبين أن نصدق في قولٍ أو في فعلٍ أو أن نُظهر عقيدتنا كما هي، فأيُّ الأمرين نرجِّح؟ مثلاً: عندما يكون هناك كيان صغير للمسلمين يُقَّدَر بألف نفر، هذا الألف، هذا المجتمع الصغير يُؤمن بالله وبرسالاته ويقيم شعائر الله، فهو بين حالتين: بين أن يُظهر هذا الدِّين في الملأ، فيؤدِّي ذلك إلى أن يأتي السلطان الكافر فيبيدهم عن آخرهم ويمحو كيانهم، وبين أن يُخفوا ويتلطَّفوا، حتى إذا ما قويت شوكتهم أظهروا ما عندهم .. هنا ماذا يقول العقلاء؟ حماية هذا الكيان المسلم عن الضياع وعن الاندثار، أو أن نُظهر إيماننا فنُهلك هذا الجمع؟ فالمسألة أوضح من أن تخفى على عاقل، فالتقية من الأصول العقلائية. هذا ما يتصل بالتقية التي يمكن أن نعبِّر عنها بالتقية الإكراهية أو بالتقية الضررية.

وهناك تقية أخرى سميناها بالتقية المداراتية، التقية الإكراهية أو الضررية أو الاضطرارية هي من قبيل ما شرَّعه الإسلام للمضطر الذي يُشرف على الهلاك وليس عنده من طعام محلَّل -مثلاً-، ماذا يقول له الإسلام؟ الإسلام يُقرُّ أصلاً عقلائياً في هذه المسألة، يقول: إذا دار الأمر بين أكل الميتة التي هي حرام ومُضرَّة وبين أن تموت، ماذا قال الإسلام؟ ﴿فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾(4). ما الفرق بين أن تُشرف على الهلاك نتيجة الجوع، وبين أن تُشرف على الهلاك نتيجة السَّيف المُسلَّط على رقبتك، ما الفرق بين الأمرين؟ لا فرق بينهما، كلاهما ناشئان عن التزاحم العقلائي الذي ينبغي أن تكون نتيجته هو ملاحظة الملاك الأهمّ، فهذه هي سيرة العقلاء على امتداد التأريخ، وبين ظهرانيكم العقلاء اسألوا مَن شئتم منهم.

تنبيهات:

أولاً: لا تقيَّة على حساب الجهاد وحفظ الدِّين.

ثم إنه أريد أن أأكِّد على أمرٍ أساسيّ: وهو أنَّه وإن كنا نؤمن بمشروعية التقيَّة لكنَّ ذلك ليس على حساب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتأريخ ببابكم .. من الذي حمل راية الجهاد والمقاومة؟ أليسوا هم من يؤمنون بالتقية؟! مَن الذي حمل راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أليس هو الحسين الشهيد (ع)؟ أليس هم الصلحاء والأولياء والأتقياء والمؤمنون من هذه الطائفة؟! تأريخنا مشرقٌ ومليء بالنضال، رغم إننا نؤمن بالتقية، فالتقية لا تتنافى مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تتنافى مع الجهاد؛ وذلك لأنَّ التقية المشروعة عندنا إنما هي التقية التي تكون لغرض حماية النفس أو لحماية الدين، فإذا كانت التقية منتجة لتقويض الدين فلا تقية، هكذا يقول علماء الشيعة(5): إذا أنتجت التقية حماية الدين فالتقية مشروعة، أمَّا إذا أنتجت تقويض الدين فالتقية محرمة وقد نص على ذلك أهل البيت (ع) ففي معتبرة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (ع) قال: "وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله، فكل شئ يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز"(6).

التقية إنما هي لغرض حماية النفس، وحماية العرض -إذا كان الأمر شخصياً-، أو لحماية الكيان الإسلامي، والكيان المذهبي، ليس أكثر .. هذه المسألة لابد من الالتفات إليها، وقد التزم علماؤنا -وعلى امتداد تأريخنا الطويل والمشرق- بكلا الأمرين، فطوراً يتَّقون إذا كانت التقية هي الأحجى، "فرأيتُ الصبرَ على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تُراثي نهباً، حتى مضى الأول لسبيله"(7)، ومضى الثاني، ومضى الثالث. ثم في طورٍ آخر ماذا قال؟ قال: "لولا حضور الحاضر يوم أن تأهَّلت الظروف، وقيام الحُجَّة بوجود الناصر، وما أخذه الله على العلماء ألَّا يُقارُّوا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم"(8)، هنا يبرِّر الإمام عليّ (ع) ثورته على الوضع السائد أيام خلافته، فيبرره بهذه المقولة الخالدة: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يُقارُّوا على كِظة ظالم، ولا سغَبِ مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها . ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"(9).

إذن، لا منافاة بين التقيَّة، وبين الجهاد وبين الأمر بالمعروف؛ وذلك لأنَّ التقية تكون في ظرفٍ، والجهاد يكون في ظرف آخر، التقية يكون لها حدود، فإذا انتهت هذه الحدود فلا تقية.

ثانياً: لا تقيَّة في الدَّم.

وثمة أمر آخر نود التأكيد عليه وإن كان قد اتضح مما تقدم وهو أنَّ التقية إنَّما شُرِّعت لحفظ المِلَاك الأهّم، فإذا كان المِلَاك الأهم فيما يقابل التقية؛ فحينئذٍ لا مشروعية للتقية، وأما إذا كان المِلاك الأكثر أهمية مع التقية فالتقية هي الأحجى، وهي التي يكون عليها العمل، ومن ذلك يتضح منشأ البناء على عدم مشروعية التقية في الدماء، بمعنى عدم مشروعيتها في كلٍ موردٍ يترتب على الألتزام بها سفك دم الغير، وهذا هو معنى ما ورد عن الأئمة (ع): "إنما جُعلت التقية لِيُحْقَنَ بها الدم، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية"(10)، يعني إنما شُرِّعت لك التقية حتى تصونَ دمك عن أن يُسفك، أما إذا كان الإلتزام بالتقية مما يترتب عليه سفك دم الغير فلا تقية، فلو خيرك السلطان الجائر بين أن تُقتل، أو أنْ تقتُل شخصاً ما، فعندئذ عليك أن تختار الموت -موتك أنت-، ولا تتقي فتقتل غيرك.

أدلة مشروعية التقية:

بعد ذلك نود أن نشير إلى الأدلة على مشروعية التقية، وسوف نشير إليها بنحو الإشارة؛ لضيق الوقت:

والأدلة هي القرآن، ثم السنَّة الشريفة، بالإضافة إلى السيرة العقلائية التي أشرنا إليها فيما سبق.

الدليل الأول: القرآن:

أولاً: الآيات العامة والمطلقة:

أما في القرآن فوردت آيات كثيرة يمكن استفادة مشروعية التقية منها، وهذه الآيات منها ما يُستفاد من عمومه وإطلاقه مشروعية التقية بإعتبار أنَّ التقية من مصاديق ذلك العموم والإطلاق، مثلاً: قوله تعالى: ﴿فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهٍ﴾(11) فالتقية في بعض أقسامها، بل في كثير من أقسامها -سواء كانت التقية من مسلم، أو كافر-، تُعدّ من مصاديق الاضطرار.

وكذلك قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فٍيْ الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ﴾(12)، عندما يُشَرِّعُ لك الشارع وجوب الوضوء بهذه الكيفية، ثم يكون الالتزام بهذه الكيفية مُنتجاً لأن تموت، أو أن تقع في مشقة شديدة فإنَّ الشارع يقول لك حينئذٍ: لا حرج عليك أن لا تلتزم بهذه الكيفية للوضوء، فإنَّما شُرِّع لك الوضوء بهذه الكيفية المخصوصة في حالاتٍ لا يكون تشريعه مُنتجاً لوقوعك في الحرج أو الضرر.

وكذلك من الآيات العامة قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيْكُم إِلَى الْتَّهْلُكَةِ﴾(13)، فالصلاة من دون تكفير إذا كانت ستُلقيك في التهلكة والموت فالشارع ينهاك عن أن تُلقي نفسك في الموت.

ثانياً: الآيات الخاصة:

وأما الآيات الخاصة الصريحة في التقيَّة فنذكر بعضاً منها:

منها: قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ بَعْدَ إِيْمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإِيْمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ﴾(14) هذه الآية تُفرِّق بين حالتين: المؤمن الذي اطمئن قلبه بالإيمان، فلا حرج عليه أن يُظهر الكفر بلسانه إذا وقع تحت ضغطٍ من قبل الظالم.

وأما الحالة الثانية فهي الذي ينشرح صدره بالكفر، وهذه الحالة ممنوعة ولا يسمح بها الشارع. هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، في مكة الشريفة، في أوائل البعثة، وذلك عندما أكرهه المشركون على أن يقول كلمة الكفر، وأن يقول بأنَّ الأصنام كلها أرباب، وأنَّ محمداً (ص) ليس رسول الله، فقاوم وقاوم ثمَّ تعب فقال ما قال بلسانه وقلبُه مطمئن بالإيمان فتركوه. فجاء القرآن ليُقرِّر موقف عمار، ويؤكد أنَّ موقفه كان سليماً، وكان صحيحاً.

﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ بَعْدَ إِيْمَانِهِ﴾، هذا إنسان لا نصيب له في الآخرة، لكن ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾ على كلمة الكفر ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإِيْمَانِ﴾ أفاد الكثير من المفسرين والمحدثين أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر فمن ذلك ما ذكره ابن حجر(15) قال: والمشهور أن الآية نزلت في عمار كما جاء من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار ورواه الحاكم النيسابوري بسنده عن محمد بن عمار عن أبيه واللفظ له قال: "أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي (ص) وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله (ص) قال: ما وراءك قال: شر يا رسول الله ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال كيف تجد قلبك قال مطمئن بالايمان قال إن عادوا فعد" قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين(16). لا نريد أن نُطيل عليكم-، ومن أراد فليراجع ما شاء من التفاسير فإنَّ أكثرها قد اشتمل على الإشارة إلى أنَّ الآية المباركة قد نزلت في شأن عمار بعد أن ألجئه المشركون على قول كلمة الكفر، لاحظوا مثل: تفسير الطبري جامع البيان، وتفسير ابن كثير، والدر المنثور للسيوطي(17)، وغيرها من كتب التفاسير. وسنشير إلى الروايات التي أكَّدت على نزول الآية في عمار بن ياسر، وأنه جاء لرسول الله يبكي فقال له: مم تبكي؟ فقال: قلتُ كلمة الكفر. فقال له: وماذا عن قلبك؟ قال: مطمئن يا رسول الله بالإيمان. قال (ص): إن عادوا لك فعد لهم بما قلت. روايات كثيرة(18) وردت عن أبناء العامة فضلاً عن الخاصة وأكَّدت هذا المعنى، وسنشير إليها إن وسع الوقت، نعم وردت روايات من طرق العامة أن الآية المباركة نزلت في غير عمار إلا أن ذلك لا يضر بمفادها كما اتفق على ذلك المفسرون وإن الآية جاءت للإقرار بعذرهم .

الآية الأخرى:

قوله تعالى: ﴿لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُوْنَ الْكَافِرِيْنَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوْنِ الْمُؤْمِنِيْنَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِيْ شَيْءٍ إلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ مِنْهُم تُقَاة﴾(19) تُقاة وتَقيَّة كلاهما مصدر لـ (اتقوا) أو (يتَّقون)، إذن التُّقاة والتَّقية بمعنىً واحد كما أكَّد على ذلك علماء العربية، ولذلك قرأ بعضهم الآية بلفظ التقيَّة، يعني هكذا قرأها: "إلَّا أن تتَّقوا منهم تَقيَّة"، فإنَّ مجاهد، وأبو رجاء، وقتادة، والضحاك، وسهل، وحميد بن قيس، والمفضل عن عاصم ويعقوب، والحسن البصري، وجابر بن يزيد قرؤوها بهذا التعبير "إلا أن تتقوا منهم تقية"(20). على أيِّ حال لا فرق بين أن تُقرأ بهذه القراءة، أو تُقرأ بالقراءة الثانية، فمعنى الآية واضح جداً وهو أنه لا يجوز للمؤمن أن يتَّخذ الكافرين أولياء يُوادُّهم و يحبُّهم، نعم يستطيع أن يُظهر لهم الولاء -وهو مُحرَّم؛ لأنه لا يجوز إظهار الولاء للكافرين، ولكنه إذا كان عن تقية فإنه يجوز حينئذٍ، لذلك قال الحسن البصري "إنَّ التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة"(21)، وعلّق السرخسي في المبسوط على عبارة الحسن البصري بقوله: "وبه نأخذ والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول إنه من النفاق والصحيح أن ذلك جائز لقوله تعالى: "إلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ مِنْهُم تُقَاة .."(22).

وأفاد الثعلبي في تفسيره أنَّه اتفق الفقهاء على أن المكرَه على الكفر وعلى شتم الرسول (ص) والأصحاب وترك الصلاة وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات وارتكاب الشبهات بوعيدٍ متلِف أو ضربٍ شديد لا يحتمله إنَّ له أن يفعل ما أُكره عليه وإن أبى ذلك يغضب في الله كان أفضل له، وأما الإكراه على الطلاق فاختلفوا فيه -إلى أن قال- وأما مالك والأوزاعي والشافعي فإنهم أبطلوا طلاق المكره وقالوا: لما وجدنا الله سبحانه وتعالى عذر المكره على شيء ليس وراءه في الشر مذهب وهو الكفر ولم يحكم به مع الإكراه عملنا أن ما دونه أولى بالبطول وأجرى في العذر، وهو قول عمر بن الخطاب وابنه وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عباس وعبدالله بن الزبير وعمر بن عبد العزير وسعيد بن المسيب والقاسم بن مخيم .."(23). ولا بأس أن نشير إلى آية أخرى تحكي ما فعله مؤمن آل فرعون، فقد أكَّدت الآية أنه كان يكتم إيمانه، ما معنى يكتم إيمانه؟! يعني أنه يتظاهر بالكفر في المجتمع الفرعوني وأمام فرعون، ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيْمَانَهُ أَتَقْتُلُوْنَ رَجُلاً أَنْ يَقُوْلَ رَبَّيَ اللهُ﴾(24) لاحظوا هذا الرجل وازنَ بين أن يُظهر إيمانه فلا يستطيع أن يقول كلمة الحق، وبين أن يكتم إيمانه فيتمكن -ولو بنحوٍ ما- من أن يمارس بعض الضغوط على فرعون؛ لعله يُخفف من غلوائه، ومن إيذائه لمن آمن بموسى (ع)، وفي بعض كتب التفسير قالوا إنَّ مؤمن آل فرعون كتم إيمانه مائة سنة! (25) هذا ما يتصل ببعض الآيات.

الدليل الثاني: الروايات:

وأما ما يتصل بالروايات فأيضاً نشير إليها بنحو بنحوٍ موجز وسريع نظراً لضيق الوقت:

الحديث الأول: روى الطبري بسنده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر أنه قال: "أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوه، فشكى ذلك إلى النبي(ص) فقال النبي (ص): كيف تجد قلبك؟قال: مطمئناً بالإيمان. قال النبي (ص): فإن عادوا فعد." (26) هذه رواية. وفي تفسير الرازي -تكملة للرواية، أو لسان آخر للرواية- "بعض المسلمين قالوا لرسول الله: يا رسول الله، إن عماراً كفر! قال: كلا، إن عماراً مُلئ إيماناً من فرق رأسه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. فأتى عمار رسول الله (ص) وهو يبكي، فجعل رسول الله (ص) يمسح عينيه ويقول: مالك؟ إن عادوا لك فعد لهم بما قلت"(27) هذه رواية ينقلها الرازي في التفسير الكبير، وتلك ينقلها الطبري.

وهناك حديث آخر رواه الطبراني بسنده عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، نقرأ الحديث: (بعث رسول الله (ص) سريَّة فيها المقداد بن الأسود، فلمَّا أتوا القوم وجدوهم قد تفرَّقوا، فبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله)، فأهوى إليه المقداد فقتله. فقال له رجل من أصحابه: قتلت رجلاً قال لا إله إلا الله؟! والله لأذكرنَّ ذلك للنبي (ص) فلمَّا قدموا على النبي (ص) قالوا: يا رسول الله، إنَّ رجلاً شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد. فقال: ادعوا لي المقداد. فقال: يا مقداد، قتلت رجلاً قال لا إله إلا الله؟! فكيف لك بلا إله إلا الله؟! فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الذِّيْنَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُم فِيْ سَبِيْلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ ..﴾(28) إلى آخر الآية .. وفي تتمة الحديث قال: قال الرسول (ص) موبخاً للمقداد: -إن هذا الذي قتلته- "كان رجلاً مؤمناً يخفي إيمانه مع قومٍ كفار فقتلته وكذلك كنتَ تخفي إيمانك بمكة"(29). يريد أن يؤكد الرسول على أمرين: على مشروعية ما كان يفعله هذا الرجل القتيل، ويؤكد على أنَّ المسلمين في أوائل الدعوة كانوا يُمارسون التقية -وكذلك كنت أنت تفعل بمكة- هذه رواية ثانية.

نترك بقية الروايات، ومن أراد فليرجع مصادر العامة والخاصة، فالروايات كثيرة جداً تؤكد هذا المعنى.

شبهات وتساؤلات:

1- لماذا عُرِف الشيعة دون غيرهم بالتقية، رغم أنَّ التقيَّة مبدأٌ إسلاميّ، قرآنيّ، عقلائيّ؟!

الشيعة عُرفوا بالتقية دون غيرهم لسببين:

أولاً: لتمسكهم بمبادئ الإسلام جملة وتفصيلاً.

ثانياً: لأنَّ الشيعة قد مُورس ضدَّهم جميع أنواع التعسُّف، وعلى امتداد تأريخ الإسلام.

لم يكن كثير من المسلمين بحاجة إلى أن يمارسوا التقية، بل كانوا يستطيعون التعبير كلَّ معتقداتهم بكلِّ حرِّية؛ لأن هواهم يوافق هوى سلطانهم، وأما الشيعة فلم يكونوا كذلك. ولا نريد أن نطيل في هذه النقطة لضيق الوقت.

2- أما لماذا يُشنِّع أبناء العامة علينا، ويقولون أننا نؤمن بالتقية، رغم أنَّ التقية مبدأٌ إسلاميّ قد ثبت -كما اتضح- بالقرآن والسنة؟!

الجواب:

لعلهم لا يختلفون معنا في مشروعية التقية مع الكفار، وإن كانوا لا يُصرِّحون بذلك إلَّا إذا اضطروا، ولكن منشأ غيظهم هو أننا نقول بمشروعيَّة التقية منهم أيضاً، فيجوز للمؤمن أن يتقي حتى من بعض المسلمين؛ وذلك لأنَّ التقية -كما أوضحنا سابقاً- إنما شُرِّعت لغرض الحماية والصيانة، وما شابه من الأغراض التي ذكرناها، فكلُّ مورد تزاحم فيه المِلَاك المهم والأهم فمن الطبيعي أن نختار المِلَاك الأهم، حتى ولو كان مع المسلمين.

3- كيف يتّقي الشيعة من المسلمين؟!

الجواب:

ما الفرق بين أن يكون الذي نتَّقي منه مسلماً أو كافراً إذا كان المسلم مثل الكافر غشوماً، ظلوماً، قاسياً؟!

الشيعة واجهوا القسوة، والعنف، والإرهاب، والسجون، والتقتيل، والتشريد، والمطاردة، وكانوا يُتتبَّعون في كلِّ شبر من الأرض، ويُصلبون على جذوع النخل، وتُسمل أعينهم، ويُوضعون في السجون والطوامير من قِبل بعض المسلمين!! نعم، لا فرق بين الكافر والمسلم إذا كان المسلم غشوماً ظلوماً، فكما تسوغ التقيَّة مع الكافر فإنها تسوغ مع المسلم أيضاً، بل حتى مع الشيعيّ إذا كان جباراً، طاغياً، ظالماً، قاسياً، متنفِّذاً، فليس لهم أن يستاؤا فإننا لا نتَّقي المسلم الوديع الذي يقبل بالخلاف، ويقبل أن نختلف معه، ولا يرى حزازةً في أن يكون لي رأي ومذهب ويكون له رأي ومذهب آخر. أما إذا كان المسلم لا يرى الحقّ إلَّا بيده، وأنَّ كلَّ مَن خالفه تصح معاداته وإيذاؤه، حتى افتى بعض فقهائهم بإباحة دمائنا، وأنَّ دماءنا حلال، وأموالنا حلال، وأعراضنا حلال، وهذا التاريخ يحكي!! نحن لم نتأذى من السلاطين فحسب، بل حتى من سَوَقة الناس، فما يحصل في باكستان في كلِّ عام أليس من السَّوَقة من أبناء العامَّة؟! يأتون لمسجدٍ يُعبد فيه الله، ويكون فيه النساء، والشيوخ، والصغار، فيفجِّرون المسجد بمن فيه!! لماذا لانتَّقي من مثل هؤلاء؟! ما الفرق بينهم وبين الكفار من هذه الجهة؟! نحن لا نتَّقي من المسلمين الذين يُؤمنون بحرِّية العقيدة، وأنَّ لكلِّ مسلمٍ أن يختلف في التفاصيل، إذا كان قد تحفَّظ على أصول الدين، وهي الشهادتان، والإيمان بالمعاد.

ألم يقتل الطالبان خمسة عشر ألف شيعي في بلاد الأفغان؟! كم من المجازر على امتداد التأريخ قد مُورست من قبل سلاطين الجور وغير السلاطين مع الشيعة؟! كم أُبيحت كربلاء وأُبيحت النجف، ومدن الشيعة على امتداد التأريخ؟! وفي التأريخ القريب والعهد القريب مارس الوَّهابيون معنا أساليب مُتعسِّفة وقاسية، حتى لقد كنا نستطيع أن نظهر مذهبنا وعقيدتنا عند الكفار، ولا نستطيع إظهارها مع هؤلاء الذين يرون أنَّ دمنا حلال!! نحن لا نتَّقي ولا نُخفي إيماننا مع المسلمين الذين يملكون روحاً متألِّقة شفَّافة.

4- ما الفرق بين التقية والنفاق؟

الجواب:

ثم نشير في الأخير إلى نقطة أساسية، وهي: الفرق بين النفاق وبين التقية. نحن لا نحتاج إلى بيان الفرق بينهما، وذلك لأن القرآن شرَّع التقية في الوقت الذي حرَّم النفاق وجعله من الكفر، وأفاد أنَّ المنافق في الدرك الأسفل من النار، ولكن للتوضيح لابد أن نؤكِّد على فرقين أساسيين:

الفرق الأول: أن التقيَّة هي كتم الإيمان لغرضٍ أهم، وإبداء ما هو خلاف الإيمان.

وأما النفاق فهو إضمار الكفر، والتظاهر بالإيمان، فرق كبير بين أن يكون القلب وعاءاً للإيمان، وبين أن يكون القلب وعاء للكفر .. المنافق قلبه وعاءٌ للكفر، والمؤمن المتقي قلبه مطمئن بالإيمان كقلب عمار. هذا فرق جوهريّ وأساسيّ.

الفرق الآخر: المؤمن إنما يتَّقي حياطة لنفسه، ولضعفه -لاستضعافه من قِبل المستكبرين، والمتسلطين، والمتنفذين- أو يكتم بعض معتقداته لحماية المؤمنين، أو لحماية الكيان الإسلامي -لحفظ بيضة الإسلام-، أو لمداراة المؤمنين، و تحبيبهم، ولمِّ الشَّمل، وجمع الكلمة، وتقوية الشوكة. هذه أغراض سامية.

وأما غرض المنافق فهو الكيد بالإسلام والمسلمين -هذا فرق آخر وجوهري أيضاً- فالمنافق لا يريد أن يحمي نفسه بمقدار ما يريد أن يكيد بالإسلام.

5- هل الشيعة باطنيون لأنهم يؤمنون بالتقيَّة؟

التقية لا تعني عندنا التكتم على المعتقَد وإنما تعني مشروعية أن يكتم المكلف معتقده إذا اقتضى ظرفه الشخصي ذلك.

ولهذا تجدون كتبنا تُصحر بمعتقداتنا دون مواربة وهي من الكثرة بحيث لن تجد مكتبة من المكتبات العامة في تمام العالم إلا وهي ملئى من كتبنا وهي مشتملة على التصريح بأصولنا الإعتقادية وبالفروع الفقهية التي نعتمدها. هذا مضافاً إلى ما نعبِّر عنه ونجأر به في محافلنا والتي هي بمرأى ومسمع من عموم الناس، فالمذهب الذي يكون هذا شأنه لا يصح وصفه بأنه مذهب باطني.

فلسنا كياناً صغيراً قابعاً في بقعة نائيةٍ من الأرض فعددنا يتجاوز خمس العالم الإسلامي وكياناتنا منتشرة في ربوع الأرض كلِّ الأرض وكتبنا تربو على الملايين، وتاريخنا طويل يمتدّ إلى أوّل الدعوة، فهو عريق ومليء بالثورات على الأنظمة الجائرة وبالصفحات البيضاء المشرقة المتألِّقة، نحن الذين ناضلنا، نحن الذين جاهدنا، نحن الذين ساهمنا في حفظ بيضة الإسلام، نحن الذين ضحَّينا بكلِّ ما عندنا مقتفين أثر قائدنا سيد شهداء المسلمين الحسين بن علي (ع)، وذلك من أجل الحفاظ على الإسلام.

إذن لماذا كل هذا التهريج؟! ولماذا كل هذا التشنيع ألئننا اعتمدنا مذهب أهل البيت (ع) فلم نعدل بهم من سواهم، نعم سنظل كذلك متمسكين بوصية رسول الله (ص) في عترته حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- "لقد علمتم أني أحق بها من غيري، والله لاسلِّمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله" نهج البلاغة: 124.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 214.

3- التكفير وضع إحدى اليدين على الأخرى كما يفعل أبناء العامة.

4- سورة البقرة / 173.

5- لاحظ الرسائل للإمام الخميني ج2/ 177، كتابة الظهارة للسيد الخوئي ج4/ 246.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 216 باب 25 من كتاب الأمر بالمعروف ح6.

7- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 1 ص 31.

8- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 1 ص 36.

9- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 1 ص 36.

10- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 235 باب 32 من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح2.

11- سورة البقرة / 173.

12- سورة الحج / 78.

13- سورة البقرة / 195.

14- سورة النحل / 106.

15- فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر ج12/ 287 وعلق على الرواية بقوله: ورجاله ثقات أخرجه الطبري وقبله عبد الرزاق ..".

16- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج 2 ص 357.

17- جامع البيان لابن جرير الطبري ج14/ 247، تفسير ابن كثير ج 2/ 609، الدر المنثور لجلال الدين السيوطي ج4/ 132.

18- تفسير السمعاني -السمعاني- ج 1 ص 309.

19- سورة آل عمران / 28.

20- لاحظوا تفسير الثعلبي ج3/ 47، تفسير البغوي ج1/ 291، زاد المعاد لابن الجوزي ج1/ 317.

21- تغليق التعليق لابن حجر ج5/ 261.

22- المبسوط -السرخسي- ج 24 ص 45.

23- تفسير الثعلبي ج6/ 46.

24- سورة غافر / 28.

25- حكاه صاحب البحار عن الثعلبي ج13/ 163.

26- جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج 14 ص 237. وروى الحاكم في المستدرك قريباً منه ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ج2/ 357.

27- تفسير الرازي -الرازي- ج 20 ص 121.

28- سورة النساء / 94.

29- المعجم الكبير -الطبراني- ج 12 ص 24.