﴿مِّن طِينٍ لَّازِبٍ﴾ أو ﴿حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾

شبهة لمسيحي:

ورد في جملة آياتٍ من القران أنَّ الله خلق الإنسان من تراب كالذي ورد في سورة فاطر: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ﴾(1) وكذلك في سورة الروم و الحج و الكهف!! وورد في سورة الحجر: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾(2) وفي سورة الصافات: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ﴾(3)، أما في سورة الرحمن: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّار﴾(4) طيب -تراب، أم طين لازب أم حمأ مسنون أم ماذا بالضبط؟؟

 

الجواب:

مبدأ خلق الإنسان الأول:

ليس بين الآيات المذكورة تنافٍ أصلاً، فهي جميعاً متصديَّة لبيان مبدأ خلق الإنسان الأول المتمثِّل في آدم (ع) كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ / فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(5) وقال تعالى: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ / ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ﴾(6).

 

فالإنسان الأول تكوَّن من هذه المادة وبعدئذٍ تكاثر بواسطة التناسل، وهذا هو معنى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ﴾ والماء المهين هي نطفةُ الرجل التي تنعقد في رحم المرأة فيتخلَّق منها الإنسان عبْرَ مراحل محدَّدة ومُتْقنة، فكلُّ إنسانٍ ذكرٍ أو أُنثى فإنَّه خُلق من ذلك إلا آدم (ع) وهو الإنسان الأول وكذلك حواء فإنَّهما خُلقا إبتداءً من غير تناسل، وكانت المادة التي خُلقا منها هي التراب الممتزج بالماء حتى تطيَّن وتلاصقت أجزاؤه، وظلَّ كذلك حتى تغيَّر لونُه وصار مُنتناً، وهو معنى الحمأ المسنون، ثم أُبدعت منه صورة الإنسان، وظلَّ كذلك حتى جفُ عنه الماء فصار يابساً صلصالاً أي لحركته صوت، وعندئذٍ صيَّره اللهُ تعالى بقدرته إنساناً سويَّاً.

 

فالآيات المذكورة متصديَّة لبيان المراحل التي ترتَّب عنها خلقُ الإنسان الأول، فقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ بيانٌ للمرحلة الأولى من خلق الإنسان الأول، وأما قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ﴾(7) فهو بيانٌ للمرحلة الثانية التي تمَّ فيها مزج التراب بالماء حتى تطيَّن، وأما قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ﴾(8) فهو بيانٌ للصفة التي صار إليها الطين بعد مكثه برهةً من الزمن، فمعنى اللازب هو اللاصق، ومن الواضح انَّ التراب بعد مزجه بالماء لا يصير كذلك إبتداءً بل يحتاج إلى زمنٍ قصيرٍ أو طويل حتى يُصبح متماسكاً، ثم إذا مكث الطين برهةً من الوقت تغيَّر لونُه وصار الماء الممتزج به آسناً مُنتناً فيصير الطين رخواً قابلاً للإنصباب والتشكُّل، وهذا هو معنى الحمأ المسنون في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾(9).

 

وبعد أنْ أصبح الطين على هذه الصفة فصار قابلاً للتشكُّل عندئذٍ أبدع اللهُ تعالى صورةَ الإنسان من ذلك الطين فصار على هيئة التمثال، وبعد أنْ جفَّت رطوبتُه صار كالفخَّار الذي لحركته صلصلةٌ وصوت، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّار﴾(10) أي بعد أنْ بلغ الطين مرحلة القابليَّة للتشكُّل تمَّ تصوير الإنسان وتشكيله منه، وبعدئذٍ صار صلصالاً أي طيناً يابساً لو حرَّكته لكان لحركته صوتٌ وصلصلة عيناً كما هو صوتُ الفخَّار عند تحريكه ونقره أو إحتكاكه بجسمٍ آخر.

 

وأفاد القرآن في آيةٍ أخرى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ أي أنَّ هذا الصلصال وهو الطين اليابس كان قد تشكَّل عن الحمأ المسنون، وهو الطين المتغيِّر اللون الذي بلغ مرحلة القابليَّة للإنصباب والتشكُّل.

 

أين هو التنافي؟!

فأين هو التنافي بين هذه الآيات، فهل قال القرآن إنَّ الله خلق الإنسان من التراب ثم قال إنَّه خلقه من معدن الحديد أو النحاس مثلاً؟!! أم قال إنَّه خلقه من ترابٍ ثم قال إنَّه خلقه من طين، أليس الطين هو ذاته التراب بعد مزجه بالماء، وهل إنَّ الطين اللازب المُتماسك شيءٌ آخر غير الطين والتراب؟! وهل إنَّ صيرورة هذا الطين حمأً مسنوناً قابلاً للتشكُّل يُخرجه عن حقيقة أنَّه ترابٌ وطين؟! وهل بعد أنْ يجفَّ فيُصبح صلصالاً كالفخار يخرج عن حقيقة أنَّه ترابٌ صار طيناً ثم جفَّ فصار فخاراً؟! مالكم كيف تحكمون؟!!

 

لمَ الإشارة لتلك المراحل؟

وأما لماذا يُشير القرآن تارةً للمرحلة الأولى من خلق الإنسان الأول، وهي التراب، وتارةً للمرحلة الثانية وهي الطين، وأخرى للمرحلة الثالثة وهي الطين اللازب، ثم إلى المرحلة الرابعة وهي الحمأ المسنون، ثم إلى المرحلة الخامسة وهي الصلصال فذلك لأنَّ القرآن ليس كتاباً في علم الأحياء، وهو إنَّما يُشير إلى مبدأ خلق الإنسان لغرض التعريف بواقعه أو لغرض وعظه وتذكيره بأنَّه إنَّما خُلق من مادةٍ لم تكن أشرف المواد والعناصر ولا هي أقواها، فلا معنى للإستكبار والتمرُّد، وهذا المقدار من الغرض يكفي لتحقيقه الإشارة إلى ما بيَّنه القرآن في مبدأ خلق الإنسان الأول.

 

عدم التصدِّي لبيان الترتيب بين المراحل:

وأما عدم تصدِّيه لبيان تسلسُل هذه المراحل فلأنَّها من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى بيان، فإذا قال القرآن إنَّ الإنسان خُلق من تراب وقال في موردٍ آخر إنَّه خُلق من طين وإنَّه خُلق من صلصال فإنَّ مقتضى طبع هذه العناوين انْ يكون التراب أولاً والطين ثانياً والصلصال الذي هو الطين اليابس ثالثاً، فوضوح الترتُّب بين هذه العناوين أغنى عن التصدي لبيان تسلسلها.

 

وهذا بخلاف المراحل التي يمرُّ بها خلق الإنسان المنحدر عن السلالة فإنَّها ليست واضحةً نظراً لصيرورتها كذلك في الأرحام، فلهذا تصدَّت آياتٌ عديدة لتبيان الترتُّب بين هذه المراحل بما يُناسب غرض القرآن وأنَّه كتابُ هداية ولم يكن كتاباُ لعلم الأحياء أو غيره من العلوم البشرية.

 

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ / ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ / ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾(11).

 

ثم إنَّ الإشارة تارةً إلى المرحلة الأولى من خلق الإنسان الأول وهي التراب، وتارةً يُشير إلى المرحلة الثانية وهي الطين، وأخرى يُشير إلى الحمأ المسنون وهكذا فذلك ليس من التناقض في شيء بعد أنْ كان ذلك هو حقيقةُ ماكان عيه مبدأ خلق الإنسان.

 

هذا الأسلوب متعارفٌ عند أهل الكلام والمحاورة:

والتنويه بشيءٍ من هذا الواقع وإغفال غيره ثم ذكره في موضعٍ آخر مترتِّباً أو غير مترتِّب أو حتى عدم ذكره أصلاً لا يعدُّ من التناقض، فإنَّ هذا الأُسلوب متعارفٌ عند أهل الكلام والمحاورة، فهم يقتبسون شيئاً من الحقائق -بحسب ما تقتضيه الحاجة والغرض - ويستشهدون بها ثم يقتبسون حقيقةً أُخرى من الحقائق متَّصلة بالحقيقة الأولى ويستشهدون بها في موضعٍ آخر فلا يكون الإقتباس الأول منافياً للإقتباس الثاني، كما انَّه ليس في عدم ترتيب هذه الحقائق أو عدم ذكرها في عرضٍ واحد إنتقاصٌ للحقيقة بعد انْ لم يكونوا بصدد التعليم والشرح لذلك العلم الذي أُقتبست منه تلك الحقاق المتفرِّقة.

 

أمثلة توضيحيَّة:

وكمثال واضحٍ على ذلك ما يُقال: إنَّ الإنسان مكوَّنٌ من دمٍ وعصب، ويُقال في موردٍ آخر إنَّ الإنسان مكوَّن من لحمٍ وعظم، ويُقال في موردٍ ثالث: إنَّ الإنسان أكثر ما يتكوَّن منه هي السوائل.

 

وكذلك ما يُقال في مبدأ خلق النبات فإنَّه تارةً يُقال: إنَّ مبدأ خلق النبات ماءٌ وتراب، ويُقال في موردٍ آخر إنَّ مبدأ خلق النبات بذورٌ وسماد، ويُقال في موردٍ ثالث إنَّ مبدأ خلق النبات حرثٌ وغرسٌ ومطر، وليس بين هذه الفقرات تناقض، فمجموع ما إشتملت عليه هذه الفقرات هو مبدأ خلق النبات حقيقةً، وأما إغفال ذكر العناصر التفصيليَّة التي هي مبدأ خلق النبات فمنشأه انَّ المتكلم بهذه الفقرات لم يكن بصدد التعليم والشرح العلمي لمبدأ خلق النبات فإنَّ ذلك خارج عن مورد غرضه، فالمناسب في مثل هذه المقامات هو البيان الإجمالي دون التفصيلي.

 

وأما عدم الترتيب بين هذه الحقائق فلأنَّ كلَّ واحدةٍ من هذه الحقائق إنَّما تُذكر لغرض الإستشهاد بها على معنىً من المعاني يريد المتكلم إيصاله إلى المتلقِّي، فهو إنَّما يستشهد بالحقيقة المناسبة لذلك المعنى الذي يُراد إيصاله إلى ذهن المتلقِّي، فالترتيب ليس متعلقاً لغرضه، ومتى ما توقَّف بيان المعنى الذي يُراد إيصاله على الترتيب فإنَّ عليه في مثل هذا الفرض أنَّ يرتِّب بين الحقائق وإلا فلا موجب لذلك بل إنَّ الترتيب أو التفصيل في بعض المساقات الكلامية قد يكون مخلاًّ بالغرض ومُنتجاً إما للتشويش على الغرض وتعويمه أو منتجاً لتضجُّر المتلقِّي وتبرمه.

 

الخلاصة:

والمتحصَّل مما ذكرناه إنَّ الآيات المشتملة على بيان مبدأ خلق الإنسان الأول ليس فيما بين بعضها والبعض الآخر تنافٍ وتناقض بل إنَّ بينها تمامَ الملائمة، غايته إنَّ منها ما إشتمل على الإشارة للمرحلة الأولى، ومنها ما إشتمل على الإشارة لمرحلةٍ أخرى، وليس ذلك من التنافي والتناقض في شيء، فمبدأ خلق الإنسان كان من تراب وكان من طين وكان من حمأٍ مسنون وكان من صلصال.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحيَّة


1- سورة فاطر / 11.

2- سورة الحجر / 26.

3- سورة الصافات / 11.

4- سورة الرحمن / 14.

5- سورة ص / 71-72.

6- سورة السجدة / 7-8.

7- سورة الأنعام / 2.

8- سورة الصافات / 11.

9- سورة الحجر / 26.

10- سورة الرحمن / 14.

11- سورة المؤمنون / 12-14.