لماذا لم يعتمد الحسين (ع) الخيار السلمي؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

السؤال:

كيف تُقيِّمون الحديث الدائر عن كون الحسين (ع) خارجاً على الخليفة بأسلوبٍ عنيف لو عالجنا الموضوع بصورته التاريخيَّة؟ أو بمعنى آخر هل سجَّل التاريخ للحسين خياراً آخر غير سفك الدماء وتخلَّى عنه (ع)؟

 

الجواب:

كان الخيارُ الآخر هو الموادعة والبيعة وهو يُنتج استمرار الظلم، بل يُنتج تجذُّره وتأصًّله، والإيغال في الانحراف عن المسار الديني الذي رسمه رسولُ الله (ص)، وذلك يتَّضح حينما نتنبَّه لأمرين:

 

الأمر الأوَّل: هو أنَّ ولاية معاوية لشؤون الحكم كان نتيجة ظروفٍ طارئة واستثنائيَّة، فلم تكن ولايتُه واقعةً في سياق الخطِّ الإسلامي بل كانت انحرافاً سياسيّاً أفرزته الظروف، فهو كذلك بنظر أهل البيت (ع) وشيعتهم، وهو كذلك بنظر مدرسة الخلفاء.

 

مِن هنا كان أحد أهمِّ بنود الصلح هو أنْ يكون الأمرُ بعد معاوية للحسن (ع) فإنْ لم يكن فهو للحسين (ع)(1).

 

وكان الصحابة والتابعون -الذين لا يرون لأهل البيت (ع) حقّاً خاصّاً بالخلافة- يتبنَّوْن مراجعة أهل الحلِّ والعقد أو مراجعة وجوه الصحابة في تعيين الخليفة بعد هلاك معاوية، ذلك لأنَّهم يرَوْن أنَّ الوسيلة التي اعتمدها معاوية للوصول إلى الحكم لم تكن مشروعة كما أنَّ شخصيَّته لم تكن مؤهَّلة لذلك.

 

فالأمَّةُ بجميع أطيافها مدركةٌ لخطورة ما آلت إليه الظروف، وضرورة الإصلاح لمسار الخلافة والحكم إلاَّ أنَّ معاوية لم يكن يعبأ بكلِّ ذلك وعمل على تأصيل هذا الظرف الاستثنائي، وعقَد العزم على تعميق حالة الانحراف عن الخطِّ الرسالي، وحشَّد لذلك كلَّ ما أُتيح له مِن وسائل مستثمِراً حالة الانهيار النفسي الذي أُصيبت به الأمَّة فجعل مِن الخلافة ملكاً عضوداً وإرثاً يتعاقبُ عليه الأحفاد بعد الأولاد.

 

الأمر الثاني: شخصيَّة يزيد المعروفة بالتجاهر بالفسق والفجور ومعاقرة الخمور والموسومة عند جميع المسلمين بالطيش والنزَق والمشتهرة باللَّهو واللعب مع القيان والقردة(2).

 

فلم تكن واحدة مِن سجاياه تُؤهِّله لأحقر منصب مِن المناصب الدينيَّة فكيف له أنْ يتولَّى شؤون إدارة هذه الأمَّة والذي هو منصب الأولياء؟!

 

لم يكن الأمر مسبوقاً وكان ينُذر باتِّساع هُوَّة الانحراف وكان الغضُّ عن ذلك وإغفاله مُنتجاً لاستحالة العودة.

 

لم يكن ثمَّة خيارٌ آخر غير خيار النضال والثورة، تلك هي اللغة الوحيدة التي يفهمها يزيد، فهو بمجرَّد أنْ هلك والدُه بعث برسالة شديدة اللهجة إلى والي المدينة يأمرُه بأخذ البيعة مِن الحسين (ع) أخذاً شديداً فإنْ أبى فضرب الرقاب (3)، فلم يكن على استعداد لأنْ يُصغي لأحدٍ، فإمَّا البيعة والاستسلام أو السيف، فحتَّى خيار الإغضاء والسكوت وعدم البيعة لم يكن مقبولاً ليزيد.

 

قد يُقال: لماذا لم يقبل الحسين (ع) بالبيعة ويشترط في ذلك على يزيد أنْ لا يظلمَ العباد ولا يُمعِن في الانحراف والإفساد؟

 

نقول إنَّ القبول بالبيعة في حدِّ ذاته تأصيلٌ للظلم والانحراف والذي مِن المقدَّر له أنْ ينتهي بهلاك معاوية فهو يُضفي الشرعيَّة على المشروع الأمويِّ المنافي لمبادئ الإسلام، مِن هنا لم يكن بوسع الحسين (ع) القبول بالبيعة حتَّى ولو كانت مشروطة لأنَّه بذلك سيُساهم في تثبيت مشروعٍ انحرافيٍّ ما زال متأرجحاً، وحينئذٍ لن يكون الحسين (ع) أحسنَ حالاً مِن معاوية فهو الذي خطَّط للمشروع والحسين (ع) هو مَنْ ثبَّته. ذلك لما كان للحسين (ع) مِن موقعٍ دينيٍّ متميِّزٍ يُدركه جميعُ المسلمين.

 

مِن هنا كان إباؤه للبيعة معناه تفويت الفرصة على بني أميَّة في تمرير مشروعهم الانحرافي وبالتالي لن يجدوا مِن وسيلةٍ لإضفاء الشرعيَّة على مشروعهم بعد أنْ كان الحسين (ع) هو المُتصدِّي للإعلان عن عدم المشروعيَّة مِن خِلال إبائه للبيعة.

 

كما أنَّ إعلانَه للثورة وهو ألصقُ الناس برسول الله (ص) وأعرفُهم بسنَّته مساوقٌ لإضفاء الشرعيَّة على مقاومة النظام الفاسد خلافاً لما يُروِّجه بنو أميَّة، فهو بذلك يرسم للأمَّة طريق الوصول لإصلاح ما انحرف مِن مسارها، ويضعُ الجهاز الأموي في خطِّ الموت والإندثار.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: تساؤلات حول النهضة الحسينية 

الشيخ محمد صنقور


1- الإستيعاب -ابن عبد البر- قال: "ولا خلاف بين العلماء أنّ الحسن إنما سلَّم الخلافة لمعاوية حياته لا غير، ثم تكون له من بعده، وعلى ذلك انعقد بينهما ما انعقد في ذلك" ج1 / ص387، فتح الباري -ابن حجر- ج13 / ص55، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص 378، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص87 تاريخ الخلفاء -السيوطي- ص209، الإمامة والسياسة -ابن قتيبة الدينوري- ج1 / ص140، الإصابة -ابن حجر- ج2 / ص65، ذخائر العقبى -أحمد الطبري- ص139.

2- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص239، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص17، النزاع والتخاصم -المقريزي- ص56، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص368، شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج20 / ص133، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص103، الامامة والسياسة -ابن قتيبة الدينوري، تحقيق الزيني- ج1 ص174 و ص163، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص324، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج5 / ص27.

3- كتاب الفتوح -أحمد بن أعثم الكوفي- ج5 / ص10، الفصول المهمة في معرفة الأئمة -ابن الصباغ- ج2 / ص777، مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج3 / ص240، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص13، اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس- ص16، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص171، الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص33، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج28 / ص202، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج4 / ص169.