لماذا اصطحب الحسين (ع) النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

سماحة الشيخ، سؤالي هو لماذا أخذ الإمام الحسين (ع) النساء والأطفال إلى كربلاء مع عِلمه المسبَق بما سيحدث في كربلاء من قتلٍ وسبي، ولماذا شاء الله أنْ يراهنَّ سبايا، وعظم الله أجركم.

 

الجواب:

يمكن الوقوف على وجه الحكمة من اصطحاب الإمام الحسين (ع) للنساء من خلال الآثار البالغةِ الأهمية التي ترتَّبت على وجودهنَّ ومعايشتهن للأحداث التي سبقتْ ولحِقتْ ملحمة الطف، ويُمكن إيجازها في أمرين:

 

الأمر الأول:

توثيق الأحداث ونقلها كما هي، وذلك هو ما فوَّت على الجهاز الأمويِّ فرصةَ طمسها وتغييب معالمها المُشرقة والعمل على تشويه ما تُحتِّم الظروف كشفَه والإفصاحَ عنه.

 

فلو لم يصطحب الإمامُ الحسين (ع) النساء وخرج هو ومَن كان معه من الرجال فقُتلوا جميعاً، فحينئذٍ سوف ينحصرُ طريقُ المعرفة بأحداثِ نهضته المباركة في مصدرٍ واحد، وهو النظام الأموي، وبطبيعة الحال سوف تخفى على التاريخ حوادثُ المسير إلى العراق، وسوف يعملُ الأمويون على اختلاق الأخبار بما يُناسب مصالحهم وسياستِهم، وسوف يطمسون كلَّ خبرٍ يفضحُ مشروعهم أو يُوهِن من سلطانِهم، شأنُهم في ذلك شأنُ كلِّ سلطانٍ يعملُ على تشييد دولته وإحكام قبضتِه، وحينئذٍ تضيعُ معالمُ النهضة الحسينيَّة ويخبو وهجُها ويتبدَّد بريقُها، فلا يكون لها من أثرٍ كان قد سعى الحسين (ع) من أجل إنجازه.

 

أمَّا وقد كانت النساء اللواتي يتميَّزن بالنباهة والوعي والتثبُّت والفصاحة والقدرة على عرض ما كُنَّ قد شاهدنه، أمَّا وقد كان مثلُ هؤلاء معه منذُ مسيره من المدينة إلى مكةَ الشريفة ومنها إلى العراق، وقد عايشنَ الأحداثَ كلَّها عن كثبٍ فسمعن خطاباتِ الحسين (ع) ومحاوراته وحفظنْها ورأينَ بأعينِهنَّ بطولاته وملاحمه التي كان قد سطَّرها ورأينَ الظلامات التي توالت عليه وعلى أنصاره وصغاره وشاهدنَ العظائم التي ارتُكبت في حقِّه وفي حقِّهنَّ بعد رحيله ثم أذن اللهُ تعالى لهنَّ بالخلاص فوجدنَ من يُصغي إليهن فإنَّ معالم الثورة عندئذٍ سوف تنحفظ وأحداثَها سوف تخلُد في ذاكرة التاريخ، وإذا ما سعى النظامُ الأموي لتشويهها فإنَّ منهنَّ من سوف تنبري لتفنيد ما يُرجِف به النظامُ الغاشم، وهذا هو ما كان قد وقع وتحقَّق، فقد وقف التاريخُ على الكثيرِ من دقائق تفاصيل أحداثِ النهضة الحسينيَّة بواسطة ما روتْه تلك النسوة بعد رجوعهنَّ إلى المدينة، فبِهنَّ عرِفتِ الأمّةُ حجمَ الجنايةِ التي ارتكبها النظامُ الأمويُّ في حقِّ الحسين (ع) وبشهاداتهنَّ تعرَّفت الأمَّةُ على ظروف النهضةِ وأهدافها ومبادئها وقيَمها وشعاراتِها.

 

الأمر الثاني:

فضحُ النظام الأمويِّ وتعريف الأمة بواقع حاله، فقد مارس النساءُ هذا الدور على أحسن وجه في الكوفةِ وفي دمشق وفي كلِّ الحواضر الإسلامية التي أُخذنَ إليها سبايا، فقد كُنَّ يجاهرنَ في الناس بأنهنَّ بناتُ رسول الله (ص) وحريمُه ورغم ذلك كنَّ في الأسر يسومونهنَّ أسوأ العذاب والتنكيل.

 

وقد كان لخطاباتهنَّ أبلغَ الأثر في فضح جرائم النظام الأمويِّ والكشف في ذات الوقت عن واقع أهداف ودوافع النهضة الحسينية، فلولا وجودُ النساء في كربلاء وأخذهنَّ أُسارى لبقيَ ما انطوى عليه النظام الأموي من بُعدٍ عن الدين في حيِّز الوهم لدى الناس أو كان على أحسن التقادير في حيِّز الظنّ أمَّا وقد ارتكب النظام هذه الحماقة البشعة في حقِّ رسول الله (ص) حيثُ جعل من بناتِه وحريمه سبايا يُساقون كما يُساق العبيد من بلدٍ إلى بلد، فقد عرفَ الناسُ بذلك أنَّ هذا النظام لا يتديَّن بدين الإسلام وتجلَّى لهم مِن ذلك أنَّ نهضة الحسين (ع) لم تكن إلا دفاعًا عن دين الإسلام وسعيًا من أجل تقويض نظامٍ يبتغي إعادة الأمة حيثُ الجاهليةُ الأولى.

 

وثمّة أمرٌ تجدر الإشارة إليه ذكره بعضُ العلماء وهو أنَّ من المُحتمل قويًا أنَّ يكون من مناشئ اصطحاب الإمام الحسين (ع) للنساء هو خشيته من أسرهنَّ من قبل النظام الأموي في مكّة من أجل الضغط على الحسين (ع) ومساومته بهنَّ بعد ذلك، وحينئذٍ يشقُّ على الحسين (ع) التفريط في حقِّهنَّ وهو ما قد يُلجئه إلى الرجوع إلى مكّة مثلاً لاستنقاذهنَّ فيقع منه خلاف ما كان قد خطَّط له أو تُعنوَن مواجهتُه للأمويين بنظر الناس بعنوان الدفاع عن نسائه وأُسرته، وقد يُقتل في تلك المواجهة، وبذلك تضيع كلُّ أهداف نهضته المباركة وينتفي أثرُها الذي نجده ماثلاً إلى يومنا هذا.

 

أمَّا وقد اصطحبهنَّ معه فقد فوَّت على النظام اللعب بهذه الورقة التي كان قد مارسها مع آخرين قبل سيّد الشهداء (ع) مثل عمرو بن الحمق الخزاعي، فقد اعتقلوا زوجته ليضطروه إلى أنْ يستسلم إليهم، وهذا ما كان قد وقع.

 

أمّا أسر النساء بعد قتل الحسين (ع) فلم يكن لغرض المساومة بهنَّ فقد قُتل مَن يطمحون في مساومته. فلن يكون ذلك إلا لغرض التشفِّي والزهوّ بالظفر ولغرض الترهيب حتى لا يجرؤ أحدٌ بعده على مقارعتِهم فوقع ما لم يكونوا يحسبون فاستيقظ في الناس ما كان هاجعًا واستشعروا الإثمَ والندم حيث لم ينصروا من خرج ليستنقذَهم من بطشِ هذه الطُغمة الفاسدة، فتوالت الثورات حتى أوهنت سلطانَ هذا النظام فأذِن اللهُ تعالى في سقوطه واندثاره إلى الأبد، وبقيَ الحسينُ (ع) حاضرًا في ضمير الأمة تستلهمُ منه قيَم نهضتِه كلَّما استولى غاشمٌ على مقدَّراتها وتستمدُّ من حرارة دمِه ما تُقوِّي به عزماتها على مجالدة الظلم والطغيان، وترتشف من معين سماحته ما يبعثُ فيها روحًا تستمرأ بها التضحية والفداء انتصارًا لكلِّ مستضعَفٍ محروم.

 

والحمد لله رب العالمين 

 

من كتاب: تساؤلات حول النهضة الحسينية

الشيخ محمد صنقور