الخيارات التي اعتمدها الحسين (ع) في نهضته

السؤال:

عرض الإمام الحسين (ع) على معسكر ابن سعد الرجوع بعد أنْ أوضح لهم منشأ قدومه عليهم، وأنّه إنّما جاء لهم استجابةً لدعواتهم وأنَّهم سيؤازرونه فيما عزم عليه مِن مواجهةٍ ليزيد بن معاوية.

 

والسؤال هو أنّه لماذا ظلَّ خيار الرجوع مطروحاً؟

 

الجواب:

الجواب عن هذا الاستفهام يتّضح مِن خلال هذا البيان، وهو أنَّ الإمام الحسين (ع) اتّخذ لنفسه خياراتٍ ثلاثة مترتَّبة وليست عرضيَّة.

 

الخيار الأوّل: الاستعانة بأهل الكوفة لأجل مقارعة النظام الأموي، وتبنّي هذا الخيار كان نتيجة الاستعداد الذي أبداه أهلُ الكوفة للإمام الحسين (ع) وأنّهم سيؤازرونه ويقفون معه(1)، وهذا لا يعني أنَّ اتّخاذ خيار الخروج على بني أميّة كان نتيجة الاستعداد للمؤازرة الذي أبداه أهل الكوفة.

 

فالحسين (ع) كان قد أعلن الخروج والرفض للبيعة قبل أنْ تصله كتبُ الكوفةإذ لم تصله كتبُهم إلاّ في مكّة المكرّمة، والحال أنّه أعلن الخروج والرفض والبيعة وهو في المدينة المنوَّرة كما تُؤكّد ذلك النصوص التاريخيّة الكثيرة(2)، نعم اتّخاذ قرار الخروج إلى العراق دون غيرها كان بسبب ما وصله من كتب أهل الكوفة ورسلهم وأنّهم جندٌ له مجنّدة، وأنّهم لن يُسلِموه ولن يخذلوه، وأنَّهم ضاقوا ذرعاً مِن حكم بني أميّة، وأنّهم عقدوا العزم على عدم مبايعة يزيد بن معاوية(3).

 

ورغم كلِّ هذه التطمينات إلاّ أنّه لم يتَّخذ خيار المسير إليهم إلاّ بعد أنْ بعث إليهم مسلم بن عقيل ليتعرَّف على واقع حالهم، وبعد أنْ وصل كتابُ مسلم بن عقيل للحسين (ع) يؤكّد له صدقَ نواياهم قرَّر(ع) الخروج إليهم ليقود حركته الإصلاحيّة مِن هناك.

 

وهذا لا يعني أنّ الحسين (ع) لم يُخطّط لخيارٍ آخر لو تبيَّن أنَّ الخيار الأوّل ليس مُتاحاً فإنَّ ذلك هو شأنُ العقلاء في معالجة القضايا، فهم يضعون لكلِّ ظرفٍ محتمل خياراً مناسباً بنظرهم حتّى لا تُفاجئهم الظروف بما لم يتوقّعوه فتلتبس عليهم الحلول.

 

وهذا هو الطريق الذي سلَكه الإمامُ الحسين (ع) حينما جعل لنفسه خياراتٍ مترتِّبة.

 

الخيارُ الثاني: هو الرجوعُ مِن حيثُ جاء أو إلى أيِّ بُقعةٍ مِن بقاع الأرض، وهذا الخيارُ كان عقلائيّاً جدّاً بعد أنْ أصبحَ الخيارُ الأوّل غيرَ مُتاحٍ، نظراً لما تمخَّضت عنه الظروفُ والتي أوضحتْ للتأريخ أنَّ أهلَ الكوفة ليسوا جديرينَ ولا مؤهّلين لاحتضانِ ثورتِه، وحينئذٍ لم يكن مِن خيارٍ مناسبٍ سوى الرجوع والبحثِ عن حاضنةٍ أخرى لثورته، فخيارُ البيعةِ ليزيد أياً كانت الظروف كان مستحيلاً لدى الحسينِ الشهيد (عليه السلام). فقد أُثر عنه من طرف الفريقين فيما أُثر أنَّه قال: "لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنيا مَلْجَأٌ وَلا مَأْوىً، لَما بايَعْتُ يَزيدَ بْنَ مُعاوِيَةَ أَبَداً"(4).

 

وكان النظامُ الأموي يُدرك أنَّ خيارَ الرجوع دون بيعةٍ معناه أنّ الخطرَ مِن وجود الحسين (عليه السلام) يظلُّ ماثلاً، وأنَّ مِن المحتملِ قويّاً أنْ يتمكَّنَ الحسينُ (ع) مِن تعبئةِ أنصارٍ له قادرينَ على احتضانِ نهضتِه وتقويضِ ملكِهم أو زعزعةِ أمنِهم واستقرارِهم، وهذا ما كان يرومُه الحسينُ (ع) حينما عرَض على النظام الأموي خيارَ الرجوعِ دون بيعة(5).

 

فالحسينُ (عليه السلام) إنَّما عرض على معسكرِ ابن سعد خيارَ الرجوع، ولم يعرضْ عليهم خيارَ التخلِّي عن النهضة، فهو (ع) كان يبتغي من عرضِ خيار العودةِ أنْ يتحيَّن الظروفَ المناسبة لتعبئةِ جيشٍ يتمكَّنُ به من مقارعةِ النظام الأموي بعد أنْ تبيَّن للتأريخ أنَّ أهلَ الكوفةِ ليسوا جديرينَ باحتضانِ ثورته.

 

الخيار الثالث: هو الاستشهاد والتضحية، فقد كان واضحاً مِن كلمات الإمام الحسين (ع)(6) أنّه كان على استعدادٍ تامٍّ لاتّخاذ هذا الخيار إذا لم تتأهّل الأمّةُ للوقوف معه في حركته الإصلاحيّة، وكان الحسين (ع) يُدرك أنّ هذا الخيار هو الذي ستقتضيه الظروف إلاّ أنّه كان مضطراً لمواكبة الظروف، إذ أنّ ذلك هو السبيل لاستيعاب الأمّة والتاريخ دوافع هذا الخيار، فليس مِن الممكن أنْ يتفهَّم التاريخ مغزى الاستشهاد لو كان الخيار الأوّل مُتاحاً، لذلك كان على الحسين (ع) أنْ يكشف للتاريخ سقوط الخيار الأوّل، وهكذا لو كان الخيار الثاني مُتاحاً فإنّ الأمّة والتاريخ لن يستوعبا موقفه واعتماده لخيار الاستشهاد، ذلك لأنّهما يحتملان قبول النظام الأموي بخيار الانصراف عن الكوفة دون بيعة، وحينئذٍ يتمكّن الحسين (ع) مِن استجماع قوّته معتمداً على وجاهته ومركزه الديني والاجتماعي في الأمّة، ولذلك لم يكن مِن الممكن أن يتفهَّم أحدٌ العمليّة الفدائيّة التي أقدم عليها الحسين (ع) لو لم يسقط الخيار الثاني أيضاً.

 

وبعد أنْ سقط الخيار الثاني لم يبقَ سوى خيارَيْن أحدهما يُصرُّ عليه النظام الأموي ويصرُّ الحسين على رفضه وهو البيعة، والآخر يبتغيه الإمام الحسين ليضع بني أميّة في طريقٍ خاتمته الزوال والاندثار.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: تساؤلات حول النهضة الحسينية

الشيخ محمد صنقور


1- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص323، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص194، تهذيب الكمال -المزي- ج6 / ص422، الإصابة -ابن حجر- ج2 / ص69، تهذيب التهذيب -ابن حجر- ج2 / ص301.

2- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 ص15، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص157، تاريخ ابن خلدون -ابن خلدون- ج3 / ص20، كتاب الفتوح -أحمد بن أعثم الكوفي- ج5 / ص14، الفصول المهمة في معرفة الأئمة -ابن الصباغ- ج2 / ص780.

3- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج3  / ص242، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص173، مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج3  / ص242، تهذيب التهذيب -ابن حجر- ج2  / ص301، تاريخ الطبري -الطبري- ج4  / ص323، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8  / ص194.

4- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج3  / ص247، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص182، الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2  / ص88، الأخبار الطوال -الدينوري- ص255.

5- نفس المصدر.

6- الاحتجاج -الشيخ الطبرسي- ج2  / ص24، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص40، اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس- ص59.