كيف قال الحسين (ع) لمروان: يا ابن الزرقاء؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد

 

المسألة:

جاء في سيرة الإمام الحسين (عليه السلام) أنّه حينما استُدعي من قبل الوليد الوالي الأموي وهدَّده مروان بالقتل، قال له الإمام الحسين: "يابن الزرقاء .."(1) والزرقاء هي العاهِر أو البَغِي، كيف يمكن للإمام الحسين (عليه السلام) وهو أنبلُ النّاس خلقاً وأعفُّهم لساناً أنْ يتلفَّظ على أحدٍ بذلك؟

 

الجواب:

الزرقاء ليس بمعنى العاهر البغي في اللَّغة ولا عند العرف، والمقصود من الزرقاء في النصِّ المذكور هي الزرقاء بنت موهب جدَّة مروان بن الحكم لأبيه، نعم في قوله (ع) لمروان يا ابن الزرقاء-لو صحَّ الخبر- تعريضٌ بواقع الحال الذي كانت عليه جدَّة مروان، فإنَّها كانت من ذوات الرايات التي يُستدلُّ بها على ثبوت البغاء كما ذكر ذلك إبنُ الأثير في كتابه الكامل في التاريخ(2) وأفاد كذلك: أنَّ بني الحكم وبني مروان كانوا يُذمُّون بها.

 

وقال البلاذري في أنساب الأشراف إنَّ إسم الزرقاء: "مارية بنت موهب كندية، وهي الزرقاء التي يُعيَّرون بها، فيُقال بنو الزرقاء، وكان موهب قينا"(3).

 

فمساق هذا النص هو مساق ما تعارف بين المسلمين من تعيير زياد بن أبيه بأُمِّه سميَّة، فيُقال زياد بن سميَّة، وهي جارية لرجلٍ من ثقيف كانت معروفة بالبغاء، وقد أنجبت زياداً من سفاح أبي سفيان في قضيةٍ هي من أشهر أيام العرب، وكذلك فقد رُوي أنَّ أمير المؤمنين (ع) قال عن عمرو بن العاص: "عجباً لإبن النابغة .."(4) وفي رواية: "زعم ابنُ النابغة ..".

 

وكذلك ما رُوي عن السيِّدة زينب بنت أمير المؤمنين (ع) أنَّها واجهت ابن زياد في مجلسِه بقولها: "هبلتك أو ثكلتك امُّك يا ابن مرجانة .."(5) وكان كثيراً ما يُذكر ابن زياد -في الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) وفي المأثور عن الصالحين- بهذا اللقب(6) وكان كذلك معروفاً بالدَّعي ابن الدَّعي.

 

والملاحَظ أنَّ مّن كانوا يُعيَّرون بأمهاتهم -في الروايات المنقولة عن أهل البيت والمأثورة عن الصالحين من الصحابة والتابعين- كانوا على درجةٍ عالية من الفسوق والتكبُّر والغطرسة، وكانوا ممَّن أسرفوا في دماء المسلمين، فمثل هؤلاء لم يرعوا لدين الله تعالى ولا لعباده حرمة إلا وانتهكوها، لذلك لم تكن لهم حرمة تقتضي التستُّر على سوءاتهم، على أنَّ مثل هؤلاء الطغاة المتجبِّرين لا تُرغِم أُنوفهم إلا مثل هذه الألقاب المصغِّرة لشأنِهم المنتفش على غير أهلية، والمذكِّرة لهم بواقعِهم المُخزي.

 

هذا وقد ورد في بعض الروايات من طريق العامَّة أنَّ الرسول الكريم (ص) نسب مروان وهو بعدُ رضيعاً إلى جدَّته الزرقاء كما في كتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي قال: حدَّثنا عبد الله بن مروان المرواني عن أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد: "إنَّ مروان بن الحكم لمَّا ولد دُفع إلى رسول الله (ص) ليدعو له فأبى أنْ يفعل ثم قال: ابنُ الزرقاء، هلاكُ عامَّة أمَّتي على يدَيه ويدي ذريَّتِه"(7).

 

فلم تكن الزرقاء ذات حرمة بعد أنْ هتكتها هي بنفسها بسوءِ اختيارها حيثُ كانت من ذوات الراياتِ، تدعو الناس علناً -ودون مواربة- إلى نفسِها في سوق عكاظ وذي المجاز، فمثلُ هذه لا تكترثُ ولا يسوؤها ما يُقال عنها، فلم تكن تستترُ بسوءةِ ما تجترحُه عن الناس رغم أنَّ مثل فعلها كان معيباً عند أشراف العرب في الجاهلية، هذا وقد يتحاشى الناس -أعني الأخيار منهم- عن ذكر مثلها بسوء لو صلُح أبناؤها فيكون التكتُّم على سوءتها من الرعاية لحرمتِهم، أمَّا وقد عُرف أبناءُ هذه المرأة في الجاهليَّة والإسلام بأسوأ الخِصال فلمَن تُرعى الحرمة؟!

 

نعم لا يتلفَّظ الخيِّرون بالفاحش والبذيئ من الكلام حين تقتضي الحاجة إلى تبكيت هولاء وزجرهم أو توهينهم، ذلك لأنَّه لا يليقُ بدينهم وشأنهم ومروءاتهم، لذلك فهم يذكرونهم مثلاً بإسم من عُرف من أُمهاتهم وآبائهم بالسوء أو يصفون أفعالهم المشينة بطريق الكناية والتعريض كالتوصيف بذات الراية.

 

ثم إنَّ الرسول (ص) قد وصف مروان بن الحكم ومَن في عقِبِه بما يُضاهي نسبتهم للزرقاء بنت موهب في التحقير، فقد ثبتَ من طرقنا وطُرق العامة أنَّه (ص) وصف مروان بالوزغ ولعنَه ولعنَ أباه الحكم، ولعَنَ مَن في صلبه، ووصفَ بني الحكم بن أبي العاص بالقِردة.

 

وهنا نكتفي بنقل بعض الروايات التي وردت في طُرق العامَّة دون التي وردت في طُرقنا:

 

فمنها: ما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بسنده عن عبد الرحمن بن عوف قال: "كان لا يُولد لأحدٍ مولود إلا أُتي به النبي (ص) فدعا له، فأُدخل عليه مروان بن الحكم، فقال: هو الوزغ ابن الوزغ، الملعونُ ابن الملعون". قال الحاكم النيسابوري: هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرِّجاه(8).

 

ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري أيضاً في المستدرك على الصحيحين بسنده عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله (ص) قال: إنِّي أُريت في منامي كأنَّ بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبري كما تنزو القِرَدة، قال: فما رُؤي النبيُّ صلَّى الله عليه وآله مستجمعاً ضاحكاً حتى تُوفي. قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرِّجاه (9)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه أبو يعلى ورجالُه رجالُ الصحيح غير مصعب بن عبد الله بن الزبير وهو ثقة"(10).

 

وفي قوله (ص): "ينزون على منبري" أبلغُ التحقير لهم، ذلك لأنَّ معنى النزْو هو ما يفعله ذكرُ الحيوان حين يقع على أُنثاه، فهو (ص) شبَّه بني الحكم بالقِرَدة، وشبَّه صعودهم على منبره الشريف بصعود القرد على أٌنثاه.

 

ومنها: ما أخرجه الذهبي بسنده عن عائشة قالت: كان رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجرته فسمع حسَّاً فاستنكره، فذهبوا فنظروا فإذا الحكم يطَّلع على النبيِّ (ص) فلعنه وما في صُلبه، ونفاه"(11).

 

ومنها: ما أخرجه ابنُ عساكر بسنده عن ابن الزبير أنَّه قال وهو يطوف بالكعبة: "وربِّ هذه البيَّنة لعَنَ رسولُ اللَّه (صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم) الحكم وما وَلَد"(12) قال الذهبي: إسناده صحيح(13).

 

ومنها: ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن عطاء عن ابن عمر قال: هجرتُ الرواح إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء أبو الحسن فقال له رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: ادنُ فلم يزل يُدنيه حتى التقمَ أُذنيه، فبينما النبيُّ (ص) يُسارُّه إذ رَفعَ رأسه كالفزِع، قال: فدعَّ -أي دفع- بسيفِه الباب، فقال لعليٍّ: اذهب فقدْه كما تُقادُ الشاة إلى حالبها، فإذا عليٌّ يُدخِل الحكم بن أبي العاص آخذاً بأذنِه ولها زنمة حتى أوقفه بين يدي النبيِّ (ص) فلعَنه نبيُّ الله (ص) ثلاثاً ثم قال: أحلْه ناحية! حتى راح إليه قومٌ من المهاجرين والأنصار، ثم دعا به فلعَنه ثم قال: إنَّ هذا سيُخالف كتاب الله وسنَّة نبيِّه (ص) وسيخرج من صُلبه فِتنٌ يبلغ دُخانها السماء! فقال ناسٌ من القوم: هو أقلُّ وأذلُّ من أنْ يكون هذا منه، قال: بلى وبعضُكم يومئذٍ شيعتُه"(14).

 

وفي المعجم الكبير للطبراني: ".. حتى رفع رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأسه كالفزع، فقال: فزع الخبيث"(15) يعني الحكم.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الإرشاد -المفيد- ج2 / ص33 ونص الواقع بحسب ما جاء في الإرشاد: ".. فقال الحسين (عليه السلام): "فتصبح وترى رأيك في ذلك" فقال له الوليد: انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس. فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى يكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب عند ذلك الحسين (عليه السلام) وقال: "أنت -يا ابن الزرقاء- تقتلني أو هو؟! كذبت والله وأثمت" وخرج (يمشي ومعه) مواليه حتى أتى منزله. فقال مروان للوليد: عصيتني، لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه ..".

2- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص194.

3- أنساب الأشراف -أحمد بن يحيى بن جابر (البلاذري)- ج6 / ص257.

4- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص147.

5- مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص71.

6- مصباح المتهجد -الطوسي- ص774، الكافي- الكليني- ج 4 / ص147، الإرشاد -المفيد- ج2 / ص117، 44، أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص210، تاريخ الطبري- الطبري- ج4/ 351، الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص56، الحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص40، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج10 / ص94، ج37/ 445، 452، 454، 455، اسد الغابة -ابن الأثير- ج2 / ص21، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص547.

7- الفتن -نعيم بن حماد المروزي- ص72.

8- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج4 / ص479.

9- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج4 / ص480، مجمع الزوائد -الهيثمي- ج5 / ص244.

10- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج5 / ص244.

11- تاريخ الإسلام -الذهبي- ج3 / ص368.

12- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج57 / ص271.

13- تاريخ الإسلام -الذهبي- ج3 / ص368.

14- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج57 / ص267.

15- المجم الكبير -للطبراني- ج12 / ص336.