صبيٌّ آخر ذُبح على صدر الحسين (ع)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل قُتل طفلٌ على صدر الحسين (ع) في كربلاء غير ابنه عبد الله الرضيع؟ ومَن هو هذا الطفل؟

 

الجواب:

نعم قُتل صبيٌّ صغير لم يبلغ الحُلم بل لم يُراهق، قُتل وهو على صدر الحسين (ع) أو في حجره أو كان بجنبه لائذاً به، وكان ذلك الصبيُّ قد أفلَتَ من يد النساء وأخذ يعدو حيثُ المعركة مُتَّجهاً نحو الحسين (ع)، والإمام الحسين (ع) حينذاك مُحاطاً بالجُند مُثخناً بالجراح صريعاً أو كان قد أقعده النزفُ عن القتال، وقد قُتل عامَّةُ مَن كان معه ممَّن يقوى على حمل السلاح، فحين اقترب الصبيُّ من عمِّه صادفه ورجلٌ يُدعى بحر بن كعب رافعاً سيفه يبتغي ضرب الحسين (ع) فمدَّ الغلامُ يده بعفويةٍ يحمي بها عمَّه فأهوى الرجل بسيفه على يد الصبي فبترها، فما كان من الغلام إلا أنْ صرخ عالياً يستنجدُ بأُمِّه أو عمَّه فاجتذبه الحسين (ع) فضمَّه إلى صدرِه أو أجلسَه في حجره يُصبِّره، فرماه رجلٌ من معسكر يزيد فذبَحه وهو على صدر عمِّه أو حجره أو أنَّه فارق الحياة على صدر عمِّه بفعل النزفِ والهلع الذي أصابه، فرفَعَ الحسينُ (ع) يدَه إلى السماء وقال: "اللهمَّ إنْ متَّعتهم إلى حينٍ ففرِّقهم فِرَقا، واجعلْهم طرائق قِددا، ولا تُرضِ الولاة عنهم أبدا، فإنَّهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا فقتلونا".

 

ونصُّ ما وقعَ بحسب ما رواه ابنُ نما الحلِّي في مثير الأحزان قال: ".. ثم قصدوه (ع) بالحرب وجعلوه شِلواً من كثرة الطعن والضرب وهو يستقي شربةً من ماء فلا يجد، وقد اصابته اثنتان وسبعون جراحة فوقف وقد ضعُف عن القتال أتاه حجَرٌ على جبهته هشَّمها ثم أتاه سهمٌ له ثلاث شعب مسموم فوقع على قلبه فقال: بسم الله وعلى ملَّة رسول الله (ص) ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: الهي تعلمُ أنَّهم يقتلون ابن بنتِ نبيِّهم ثم ضعُف من كثرة انبعاث الدم بعد اخراج السهم من وراء ظهره وهو ملقىً في الأرض، فكلَّما جاءه رجلٌ انصرف عنه كراهيَّة أنْ يلقى الله بدمه فجاء مالك بن النثر فسبَّه وضربه بالسيف على رأسه فقطع القلنسوة ووصل إلى رأسه فامتلأت دماً فقال (ع): لا أكلتَ بيمينك وحشرَك الله مع الظالمين، واستدعى قلنسوةً فلبسها فلبثوا قليلاً ثم كرُّوا عليه فخرج إليه عبد الله بن الحسن وهو غلامٌ لم يُراهق من عند النساء يشتدُّ حتى وقف إلى جنب الحسين (ع) فلحقته زينبُ بنت علي (ع) لتحبسه فامتنع امتناعاً شديداً وقال: لا أفارق عمِّي، فأهوى بحر بن كعب، وقيل حرملة بن كاهل إلى الحسين (ع) فقال له الغلام: ويلكَ يا بن الخبيثة أتقتلُ عمي!! فضربَه بالسيف فاتَّقاها بيده فبقيت على الجلد معلَّقة فنادي يا عمَّاه -وفي رواية المفيد والطبري قال: يا أمتاه!- فأخذه وضمَّه إليه وقال: يا بن أخي اصبِرْ على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير، فإنَّ الله يُلحقك بآبائك الصالحين، فرماهُ حرملةُ فذبَحه فقال الحسين (ع): اللهمَّ إنْ متَّعتهم إلى حين ففرِّقهم فِرَقا واجعلهم طرائق قِددا ولا تُرضِ عنهم أبدا"(1).

 

وقد نقلنا النصَّ بطوله ليتبيَّن القارئ أجواءَ هذا المشهد الفظيع، غلامٌ في عمر الصبى أدهشه الخطب فراح يعدو مرعوباً ليلوذ بعمِّه أو أنَّه خرج يحسبُ -لبراءته- أنَّه قادرٌ على حماية عمِّه الذي تحلَّقت حوله الرجال ترومُ قتله ولا يجدُ مَن يدفعُ عنه فانبعث غيرَ مُدرِكٍ أنَّه يرجو ما لا يُرجى، فما أفاق إلا حين وجد يدَه الصغيرةً مُعلَّقة وقد كان يأملُ أنْ يدفع بها عن عمِّه فحينذاك أدركتْه طفولتُه فراح يضجُّ مستنجداً بأمِّه وعمِّه، فحنى عليه الحسين وضمَّه إلى صدره في مشهدٍ ترقُّ لأساهُ قلوبُ الأسوياء، وأمَّا المتوحِّشون الذين أحاطوا بالحسين(ع) فمثلُ هذه المشاهدِ لا تروقُ لهم بل تزيدُ في ضراوتهم، ولهذا اندفعوا إلى إسدال الستار على هذا المشهد الرهيب وكانت وسيلتهم ذبحَ الغلام.

 

هذا وقد نصَّ على وقوع هذا الحدث بتفاوتٍ يسير الكثيرُ ممَّن أرَّخ لمقتل الحسين (ع) منهم الشيخ المفيد في الإرشاد(2)، ومنهم الطبرسي في إعلام الورى(3)، والسيد ابن طاووس في اللهوف(4)، ومنهم ابو مخنف الأزدي في مقتل الحسين (ع)(5)، والبلاذري في أنساب الأشراف(6)، والطبري في تاريخه(7)، وابنُ الأثير في الكامل(8)، وأبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين(9)، وابن كثير في البداية والنهاية(10)، والنويري في نهاية الأرب(11) وغيرهم.

 

وأمَّا من هو هذا الطفل الذي قُتل على صدر الحسين (ع) قُبيل مقتله فالمُحرَز أنَّه ليس من أبنائه، والظاهرُ أنَّه من أبناء أحد إخوته (ع)، وقد نصَّ الشيخ المفيد والسيِّد ابن طاووس وابنُ نما الحلِّي والطبرسي وغيرُهم على أنَّه عبدُ الله بن الحسن، فهو مِن أبناء الإمام الحسن السبط (ع).

 

ويُرجِّح أنَّه من أبناء الامام الحسن (ع) مضافاً إلى نصِّ هؤلاء الأعلام أنَّ الذي لم ينص على اسمه من المؤرِّخين أورد في خطاب الإمام الحسين (ع) له بعد أن بُترتْ يدُه أنَّه قال له: "يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك فإنَّ اللهَ يُلحقُك بآبائك الطاهرين الصالحين، برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعليٍّ وحمزة وجعفر والحسن". فنسبةُ الغلام لأبناء الرسول (ص) يُرجِّح أنَّه من أبناء الحسن (ع) بعد احراز انَّه ليس من أبناء الحسين (ع).

 

ولكنَّ الإشكال في دعوى أنّ اسمه عبدالله بن الحسن والحال أنَّه ورد في كلمات عددٍ من المؤرِّخين أنَّ عبد الله بن الحسن السبط خرج يوم كربلاء شاهراً سيفه وكان يرتجز:

 

إنْ تُنكروني فأنا فرع الحسن ** سبط النبيِّ المصطفى والمؤتمَن

هذا حسينٌ كأسيرٍ مرتهن ** بين أناس لأسقوا صوب المزن

 

فقاتل حتى قُتل (رحمه الله) فصاح الحسينُ: صبراً يا بني! وصبراً يا أهل بيتي! فو الله لا رأيتُم هوَاناً بعد هذا اليوم أبدا.

 

ذكر ذلك ابنُ أعثم في الفتوح(12)، وكذلك ابنُ شهراشوب في المناقب(13)، والخوارزمي في مقتل الحسين(ع)(14).

 

ونقل ذلك صاحبُ البحار عن أبي الفرج ومحمد بن أبي طالب أنَّ عبد الله بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (ع) خرج واستأذن فحين أُذن له قاتل حتى قُتل، ولكنَّه نقل عنهما أنَّهما قالا: "وفي أكثر الروايات أنَّه القاسم بن الحسن "(15)، ثم نقل عن محمد بن أبي طالب انَّه قال: "ثم خرج عبد الله بن الحسن الذي ذكرناه أولاً وهو الأصح أنَّه برز بعد القاسم وهو يقول:

 

إن تنكروني فأنا ابنُ حيدرة ** ضرغامُ آجامٍ وليثٌ قسورة "(16)

 

هذا مضافاً إلى أنَّ عدداً من المؤرِّخين ذكروا أنَّ عبد الله بن الحسن القتيل في كربلاء كان زوجاً لسُكينة بنت الحسين:

 

منهم: الشيخ الطبرسي في اعلام الورى، قال: "وكان عبد الله بن الحسن قد زوَّجه الحسين (عليه السلام) ابنته سكينة فقُتل قبل أنْ يبني به"(17).

 

ومنهم: القاضي النعمان في شرح الأخبار، قال: ".. وقُتل معه يومئذٍ عبدُ الله بن الحسن (عليه السلام) لامِّ ولد، وكان الحسينُ (عليه السلام) قد زوَّجه ابنته سكينة فقُتل يومئذٍ قبل أنْ يبتني بها"(18).

 

ومنهم: البلاذري في أنساب الأشراف قال: "وولدت الرباب للحسين سكينة بنت الحسين تزوَّجها عبد الله بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب وكان أبا عذرها فمات عنها"(19).

 

وذكر ذلك أيضاً الذهبي في سير أعلام النبلاء(20)، والصفدي في كتابه الوافي بالوفيات(21)، وابن الجوزي في المنتظم(22)، والبغدادي في كتابه المحبر(23) وأبو الفرج الأصفهاني في الأغاني(24) بأسانيد متعددة.

 

وعليه لو صحَّ أنَّ ولداً للإمام الحسن (ع) اسمه عبد الله بن الحسن قُتل يوم كربلاء بعد مشاركته في القتال بين يدي الحسين (ع) وصحَّ أنَّه كان زوجاً لسكينة بنت الحسين (ع) فالمتعيَّن أنَّ الصبيَّ الذي قُتل قُبيل مصرع الحسين (ع) بعد أن بُترت يدُه وضمَّه الحسين (ع) إلى صدره قبل أنْ يُذبح في حجر عمِّه أو على صدره، المتعيَّن أنَّ هذا الصبيَّ هو غير المسمَّى بعبد الله بن الحسن الذي شارك في القتال حتى قُتل، فالصبيُّ القتيل وإنْ كان -أيضاً- من أولاد الحسن السبط (ع) لكنَّه ليس عبدالله، فيكون تسميةُ عددٍ من الأعلام له بعبد الله اشتباهً منهم أو يكون للإمام الحسن(ع) ولدان باسم عبدالله، الأول وهو الأكبر شارك في القتال حتى قُتل، والثاني لم يُشارك نظراً لكونه صبيَّاً صغيراً لم يُراهق لكنَّه أفلتَ من يد النساء فصارَ إلى عمِّه الحسين (ع) فقُتل على صدره.

 

والاحتمال الثاني هو الأرجح ويُؤيِّده ما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء قال: "سكينة بنت الحسين الشهيد، روت عن أبيها -ثم قال:- تزوَّجها ابنُ عمِّها عبد الله بن الحسن الأكبر، فقُتل مع أبيها قبل الدخول بها"(25).

 

فالمناسبُ لوصف الذهبي عبد الله بن الحسن أنَّه الأكبر هو أنَّ ثمة أخاً له يحملُ ذات الاسم يصغره في السنِّ، ووصفَه كذلك بالأكبر الصفدي في كتابه الوافي بالوفيَّات قال: "وكان تزوَّجها -يعني سكينة- ابنُ عمها عبد الله بن الحسن الأكبر فقُتل يوم كربلاء ولم يدخل بها"(26).

 

ومن المحتمل قريباً أنَّ عبد الله بن الحسن الأكبر هو المكنَّى بأبي بكر، ولهذا فإنَّ عدداً ممن أرَّخ لمقتل الحسين (ع) ذكروا أنَّه خرج أبو بكر بن الحسن (ع) يوم كربلاء مقاتلاً حتى قُتل ثم ذكروا قصة الغلام الذي قُتل على صدر الحسين (ع) وسمَّوه عبد الله بن الحسن (ع)، ولم يذكروا أنَّ آخر اسمه عبدالله بن الحسن خرج مقاتلاً حتى قُتل ممَّا يرجِّح أنَّهم يرون أنَّ ابا بكر بن الحسن (ع) هو عينُه عبدالله بن الحسن -الذي ذكر آخرون أنَّه خرج مقاتلاً إلى أنْ قُتل- ولذلك لم يُؤرِّخوا لمقاتلَين أحدهما أبو بكر بن الحسن والآخر عبدالله بن الحسن، بل أرَّخوا لمقاتلٍ هو أبو بكر بن الحسن ولغلامٍ صغير قُتل على صدر عمِّه هو عبد الله بن الحسن (ع).

 

فيكون مؤدَّى الجمع على الأرجح بين كلمات المؤرِّخين هو أنَّ للإمام الحسن(ع) ولدين باسم عبدالله أحدهما يُكنَّى بأبي بكر وهو الأكبر وكان زوجاً للسيِّدة سكينة، وهذا هو الذي قاتل حتى قُتل، وأمَّا الآخر فهو الصبيُّ الصغير الذي قُتل على صدر عمِّه الحسين (ع) قُبيل مصرعه.

 

فإنْ تمَّ ذلك وإلا فغاية ما يترتَّب هو الجهل بما هو اسم الصبي، وأمَّا أنَّ غلاماً في عمْرِ الصبى ذُبح على صدر عمِّه الحسين (ع) بعد بتْرِ يده فأمرٌ لا يتطرَّقُ إليه الشك بعد أنْ رصَد هذا الحدَث وأرَّخ له أكثرُ المؤرِّخين من الفريقين ممَّن تصدَّى لبيان تفاصيل مقتل الحسين (ع).

 

فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص55-56.

2- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص110-111.

3- إعلام الورى بأعلام الهدى -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص467-468.

4- اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس- ص72.

5- مقتل الحسين (ع) -أبو مخنف الأزدي- ص191-193.

6- أنساب الأشراف -أحمد بن يحيى بن جابر (البلاذري)- ج3 / ص202.

7- تاريخ الطبري -محمد بن جرير الطبري- ج4 / ص344-345.

8- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص77.

9- مقاتل الطالبيين -أبي الفرج الأصفهاني- ص77.

10- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص202-203.

11- نهاية الأرب في فنون الأدب -النويري- ج20 / ص458-459.

12- الفتوح -أحمد بن أعثم الكوفي- ج5 / ص112.

13- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج3 / ص255.

14- مقتل الحسين(ع) -الموفق الخوارزمي- ج2 / ص27.

15- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج45 / ص34.

16- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج45 / ص36.

17- إعلام الورى بأعلام الهدى -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص418.

18- شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي- ج3 / ص180-181.

19- أنساب الأشراف -أحمد بن يحيى بن جابر (البلاذري)- ج2 / ص195.

20- سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج5 / ص262-263.

21- الوافي بالوفيات -الصفدي- ج15 / ص182.

22- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك -ابن الجوزي- ج7 / ص175.

23- المحبر -محمد بن حبيب البغدادي- ص438.

24- الأغاني -أبي الفرج الأصفهاني- ج16 / ص366-368.

25- سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج5 / ص262.

26- الوافي بالوفيات -الصفدي- ج15 / ص182.