أوَّلُ شهيد وآخر شهيد يوم الطف

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

تارة نسمع أنَّ أول مَن استُشهد يوم الطف هو عليٌّ الأكبر (ع)، وأن آخر من استُشهد هو العباس بن علي (ع)، وتارةً نسمع بأنَّ علي الأكبر (ع) كان أول من استُشهد من الهاشميين وبأنَّ آخر من استُشهد هو القاسم بن الحسن (ع)، فمن هو أول من استشهد يوم الطف؟ ومَن هو آخر من استشهد؟

الجواب:

مسلم بن عوسجة أول شهداء الطف:

إنَّ أول شهيد بحسب ما ورد في زيارة الناحية عن الإمام الحجَّة المروية في كتاب الإقبال للسيد ابن طاووس بسنده عن أبي جعفر الطوسي وبسند أبي جعفر الطوسي إلى الشيخ محمد بن غالب الأصفهاني هو مسلم بن عوسجة، فقد ورد في الزيارة المخصَّصة للشهداء: "السلام على مسلم بن عوسجة الأسدي القائل للحسين وقد أذِنَ له في الانصراف أنحنُ نُخلِّي عنك، وبمَ نعتذر عند الله من أداء حقِّك .. ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم لقذفتُهم بالحجارة، ولم أفارقك حتى أموت معك، .. وكنتَ أوَّلَ من شَرَى نفسه، وأوَّلَ شهيدٍ من شهداء الله قضى نحبَه ففزتَ وربِّ الكعبة، شكرَ اللهُ استقدامك ومواساتِك أمامك .."(1).

ويؤيد ما ورد في الزيارة ما أفاده بعض المؤرِّخين مثل ابن كثير في البداية والنهاية حيث قال: "إنَّ أول مَن قُتل من أصحاب الحسين (ع) هو مسلم بن عوسجة"(2)، وكذلك ما أفاده أبو مخنف في كتابه مقتل الحسين (ع) حين قال: "فصُرع مسلم بن عوسجة أول أصحاب الحسين (ع)" وروى ذلك الطبري في تاريخه عن أبي مخنف كما أفاد ذلك ابن الدمشقي في كتابه جواهر المطالب(3).

وفي مقابل ذلك أفاد ابن الأثير في كتاب الكامل أنَّ أول من قُتل من أصحاب الحسين (ع) هو أبو الشعثاء الكندي قال: "وجثا أبو الشعثاء الكندي وهو يزيد بن أبي زياد بين يدي الحسين (ع) فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكلَّما رمى يقول له الحسين (ع): "اللهم سدِّد رميته واجعل ثوابه الجنَّة .." فقاتل بين يديه وكان أول من قُتل)(4).

والظاهر أنَّ ذلك وقع منه اشتباهًا وأنَّ الصحيح هو ما نقله الطبري في تاريخه عن أبي مخنف مِن أنَّ أبا الشعثاء "كان في أول مَن قُتل" فالنصُّ الذي ذكره ابنُ الأثير هو عينه الذي نقله الطبري عن أبي مخنف، ومن المعروف أنَّ ابن الأثير يعتمد كثيرًا على الطبري، فلعلَّ حرف الجر (في) سقط منه غفلةً أو أسقطه النساخ سهوًا.

فإذا كان الصحيح هو ما نقله الطبري عن أبي مخنف فإنَّ أبا الشعثاء يكون في أوائل من استُشهد من أصحاب الإمام الحسين (ع) وليس هو الأول فيمن قُتل من أصحابه (ع)، فلا يكون هذا النصُّ منافيًا لما ورد في زيارة الناحية وغيرها من النصوص التاريخية التي أفادت أنَّ أول من استُشهد من أصحاب الإمام الحسين (ع) هو مسلم بن عوسجة الأسدي.

لم يكن الحرُّ أول الشهداء:

نعم ورد في عدة من النصوص التاريخيَّة ما يُشعر بأنَّ أول من قُتل من أصحاب الإمام الحسين (ع) هو الحرُّ بن يزيد الرياحي:

منها: ما أفاده السيِّد ابن طاووس في كتاب اللهوف أنَّ الحرَّ بن يزيد الرياحي قال للحسين (ع) بعد أنْ أبدى ندمَه ممَّا كان قد بدر منه وأعلنَ عن توبته أمامه قال للحسين (ع): "فإذا كنتُ أولَ من خرج عليك فأذنْ لي أنْ أكون أول قتيلٍ بين يديك لعلِّي أكون ممَّن يُصافح جدَّك محمدًا (ص) غدًا في القيامة"(5).

ونقل صاحبُ البحار قريبًا من هذا المضمون عن محمد بن أبي طالب وصاحب المناقب قال: إنَّ الحرَّ أتى للحسين (ع) فقال: "يابن رسول الله (ص) كنتُ أول خارجٍ عليك فأذن لي لأكون أولَ قتيلٍ بين يديك وأولَ مَن يصافح جدَّك غدًا"(6).

هذا وقد حمل السيِّد ابن طاووس كلام الحرِّ على أنَّه أراد بأنه أول قتيل من حين قوله، وأما صاحب البحار فحمل كلامه على أنَّه أراد أول قتيل من المبارزين، وكلاهما اعتمد على قرينةٍ واحدة وهي أنَّ وقت كلام الحرِّ كان بعد أنْ قُتل جماعة من أصحاب الحسين (ع) فلا يمكن أنْ يكون مراده الأول حقيقة.

إلا أنَّ ما أفاده السيِّد ابن طاووس (رحمه الله) خلاف الظاهر جدًّا، والقرينة التي اعتمدها وإنْ كانت تقتضي أنْ لا يكون مراد الحرِّ من الأول هو الأول حقيقة ولكنَّها لا تقتضي أن يكون مرادُه الأول هو الأول من الآن، إذ إنَّ إطلاق عنوان الأول مع فرض علمه بأنَّه قد قُتل عددٌ من أصحاب الحسين (ع) غير متعارَف عند أهل اللسان والمحاورة، وكذلك فإنَّ هذه القرينة لا تقتضي أنْ يكون مراده من الأول هو أنَّه أول المبارزين كما أفاد صاحب البحار(رحمه الله) إذ إنَّ أقصى ما تقتضيه هذه القرينة -وهي استشهاد عددٍ من أصحاب الحسين (ع) قبل قوله- هو أنَّ الحرَّ لم يقصد من الأولِ الأوَّلَ حقيقة أما أنَّه يقصد ذلك أنْ يكون أول الشهداء من المبارزين فذلك أخصُّ ممَّا تقتضيه هذه القرينة.

والصحيح أنْ يقال إنَّه لم يثبت أنَّ الحرَّ قال ذلك بعد نشوب المعركة واستشهاد بعض أصحاب الحسين (ع)، بل المستظَهَر من عبائر المؤرِّخين أنَّ كلام الحرِّ -الذي أبدى فيه رغبته لأنْ يكون أول قتيلٍ- وقع في سياقٍ واحد مع تعبيره عن ندمه وتوبته، وذلك قد وقع منه حين وصوله للحسين (ع) وقبل نشوب المعركة، وعليه يكون مراده من الأول هو الأول حقيقة، ولكنَّ ذلك لا يقتضي أن يكون هو الأول واقعًا، إذ إنَّ ما أفاده الحرُّ لم يكن أكثر من أمنية عبَّر عنها أو أنَّه تعبير عن الاستعداد للشهادة، فهو وإنْ كان قد أراد أن يكون هو القتيل الأول بين يدي الحسين (ع) إلا أنَّ من الممكن أن لا يكون قد حظَيَ بنيل هذه الأمنية، فلا يكون هذا النصُّ منافيًا لما ورد في الناحية المقدسة وغيرها من أنَّ مسلم بن عوسجة هو الشهيد الأول من شهداء كربلاء.

بقي الكلام فيما أفاده بعض العلماء من أنَّ مسلماً (رحمه الله) كان أول قتيل بين يدي الحسين (ع) بعد الحملة الأولى، وهذا معناه أـنَّه لم يكن أول قتيل استُشهد بن يدي الحسين (ع)، وهذه الدعوى يُمكن استظهارها مما سرده محمد بن أبي طالب من تفاصيل سير المعركة بحسب نقل صاحب البحار وكذلك يمكن استظهارها من العرض الذي قدَّمه جمع من المؤرخين كالطبري وابن الأثير لتفاصيل المعركة.

إلا أنَّ ذلك لا يمكن التعويل عليه بعد التصريح الوارد في زيارة الناحية المقدسة والتي ورد فيها: ".. وكنتَ أول من شرى نفسه وأوَّلَ شهيدٍ من شهداء الله قضى نحبَه" فإنَّ هذه الفقرة صريحة في أنَّ مسلم بن عوسجة كان أوَّلَ شهداء الطف على الإطلاق، فلو كان قد سبقه للشهادة أحد من أصحاب الحسين (ع) لما صحَّ أن يُوصف بأنَّه أول من شرى نفسه وأنَّه أولُ شهيدٍ من شهداء الله، فإنَّ هذا الوصف إنَّما يصدق على من قُتل أولًا وإلا فكلُّ واحدٍ من أصحاب الحسين (ع) كان قد شرى نفسه، وكلُّ واحدٍ منهم يصحُّ وصفه بأنَّه من شهداء الله تعالى، فلا خصوصية لمسلم إلا من جهة الأوليَّة، ولو كان قد سبقه غيرُه لكان هو الحقيق بوصف الأوليَّة، فحمل الوصف بالأوليَّة على الأوليَّة بعد الحملة الأولى خلاف ما هو المتفاهم عرفًا من الفقرة الواردة في زيارة الناحية، وكذلك هو خلاف النصوص التأريخية التي أشرنا إليها، فبعضُها كان صريحًا والبعض الآخر كان ظاهرًا.

هذا أولًا، وثانيًا: فإنَّ النصوص التي استُظهر منها أنَّ مسلم بن عوسجة كان أول الشهداء بعد الحملة الأولى لم تكن صريحة في أنَّ العرض لتفاصيل المعركة كان على أساس الترتيب الزماني بنحو الدقَّة فكان جلُّ اهتمام هذه النصوص هو العرض لتفاصيل ما وقع في المعركة بقطع النظر عن تقدُّم بعض فصولها على البعض الآخر، ولذلك نجد اختلافًا في ترتيب الوقائع بين هذه النصوص رغم اتِّحادها في كثيرٍ من المضامين.

وهذا بخلاف الفقرة الواردة في زيارة الناحية والتي هي متصدِّية للتنصيص على أنَّ مقتل مسلم كان أولًا بالإضافة إلى مجموع الشهداء، وكذلك هو النص الوارد في كتاب البداية والنهاية وهكذا هو ظاهر ما نقلناه عن أبي مخنف وجواهر المطالب لابن الدمشقي.

والمتحصَّل من مجموع ما ذكرناه أنَّ مقتضى التحقيق هو أنَّ أول شهيدٍ من أصحاب الإمام الحسين (ع) يوم عاشوراء هو مسلم بن عوسجة الأسدي.

أوَّل شهيدٍ من الهاشميين:

وأما أول من استشهد من الهاشمين فهو عليُّ بن الحسين الأكبر (ع) كما أفاد ذلك الكثير من المؤرِّخين(7) وكذلك يمكن استشعاره ممَّا ورد في زيارة الناحية المخصَّصة للشهداء قال (ع): "السلام عليك يا أول قتيل من نسل خير سليل من سلالة إبراهيم الخليل"(8)، فهذه الفقرة وإن لم تكن صريحة في أنَّ الأكبر هو أول قتيلٍ من الهاشميين وذلك لأنَّها تحتمل معنيين:

الاحتمال الأول: أنَّ المراد من خير سليل هو الحسين (ع) وبناء على هذه المعنى يكون المراد من الرواية أنَّ علي الأكبر هو أول قتيلٍ من أولاد الحسين (ع) وهو لا يمنع من أن يكون قد سبقه أحدٌ من الشهداء من أولاد الحسن (ع) أو أولاد عقيل ابن أبي طالب.

الاحتمال الثاني: أن المراد من خير سليل هو الرسول (ص) وحينئذٍ تكون الرواية مقتضية لاستظهار أنَّ الأكبر هو أول الشهداء من اولاد الرسول (ص) فيكون قد سبَق أولاد الحسن (ع) في الشهادة ولكنَّها لا تقتضي ان يكون قد سبق أولاد عقيل بن أبي طالب.

فالرواية على كلا الاحتمالين لا تدلُّ بنفسها على أنَّ الأكبر (ع) كان أول شهيدٍ من بني هاشم إلا أنْ يُضمَّ إليها عدم نقل أحدٍ من المؤرخين هذه المنقبة لغيره من الهاشمين ممَّن استُشهد يوم الطف، نعم ورد في بعض النصوص التأريخية المتصدية لاستعراض تفاصيل المعركة يوم الطف ما يظهر منه تأخُّر مقتل علي الأكبر عن مقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل إلا أنَّ ذلك ينبغي أن لا ينافي ما ذكره أكثرُ المؤرخين لعين ما ذكرناه فيما يرتبط بمسلم بن عوسجة.

وعلى أيِّ تقدير فإنَّه يكفي لإثبات أنَّ الأكبر (ع) كان أوَّلَ الشهداء من بني هاشم تكاثر النقل لذلك عن المؤرِّخين من الفريقين، ولم نقف على مَن ذكر غير ذلك بنحو التنصيص.

نعم ورد في كتاب مقاتل الطالبيين أنَّ عليَّ الأكبر (ع) هو أوَّلُ من قُتل في الواقعة(9)، وهذا النصُّ لا ينافي ما ذكره المؤرِّخون من أنَّه أول شهداء بني هاشم ولكنَّه ينافي ما نصَّ عليه المؤرِّخون من أنَّ أول الشهداء على الإطلاق كان مسلم بن عوسجة، وعليه لا يصُّح التعويل على ما أفاده أبو الفرج في مقاتل الطالبيين، وذلك لتوافق النصوص رغم اختلافها على أنَّ الأكبر (ع) لم يكن أوَّل قتيلٍ يوم الطف. فلعلَّ مقصود أبي الفرج الأصفهاني هو ما عليه سائر المؤرخين من أنَّ الأكبر(ع) هو أول الشهداء من الهاشميين، ويُمكن تأييد ذلك بأنَّه كان بصدد التوثيق لمقاتل الطالبيين دون غيرهم، وبذلك صحَّ له أن يقول إنَّ علي الأكبر(ع) هو أول الشهداء في واقعة كربلاء، أي أنَّه أول الشهداء من الطالبيين في واقعة كربلاء.

آخر شهيدٍ يوم الطف:

وأما آخر من استُشهد من أصحاب الإمام الحسين (ع) فهو سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي، نصَّ على ذلك أبو مخنف في مقتل الحسين (ع) قال: "كان آخرُ من بقي مع الحسين (ع) من أصحابه سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي .."(10)، وقال: ".. كان صُرع فأُثخن فوقع بين القتلى مثخنًا فسمعهم يقولون: قُتل الحسين فوجد فاقةً فإذا معه سكين وقد أُخذ سيفه فقاتلهم بسكينه ساعةً ثم إنَّه قتله عروة بن بطار التغلبي وزيد بن رقاد الجنبي وكان آخر قتيل"(11).

ونص على ذلك أيضًا الكثير من المؤرِّخين من الفريقين مثل السيد ابن طاووس في اللهوف، وابن نما الحلِّي في كتابه مثير الأحزان، والطبري في تاريخه، وابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ وغيرهم(12).

وهل كان العباس بن علي (ع) هو آخر من استُشهد من الهاشميين؟

الظاهر أنَّه لم يكن كذلك، نعم هو من أواخر من قُتل من الهاشميين، ولعلَّه آخر المقاتلين من بني هاشم، إذ إنَّ المنصوص عليه أنَّ من استُشهد بعده من الهاشميين هو عبد الله بن الحسن بن علي، وهو غلام لم يُراهق، نعم ثمة نصوص يظهر منها أن غير عبد الله بن الحسن (ع) قُتل أيضًا بعد العباس بن علي (ع)(13)، وأما ما نقل عن الشعبي في تذكرة الخواص من أنَّ العباس بن علي هو أول مَن قتل من الهاشميين فهو قول شاذ لا يُعبأ به.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- إقبال الأعمال -السيد ابن طاووس- ج3 / ص76، المزار -محمد بن المشهدي- ص491.

2- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص197.

3- مقتل الحسين (ع) -أبي مخنف الأزدي- ص136، تاريخ الطبري ج3 / ص331.

4- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص73.

5- اللهوف -السيد ابن طاووس- ص61.

6- البحار -المجلسي- ج45 / ص10.

7- الكامل في التاريخ ج4 / ص73، الأخبار الطوال -الدينوري- ص256، تاريخ الطبري ج4 / ص340، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص200.

8- إقبال الأعمال -ابن طاووس- ج3 / ص76، المزار -الشهيد الأول- ص151، المزار -ابن المشهدي- ص491.

9- مقاتل الطالبيين -أبي الفرج الأصفهاني- ص52.

10- مقتل الحسين (ع) -أبو مخنف الأزدي- ص160.

11- مقتل الحسين (ع) -أبي مخنف الأزدي- ص155، 160، 201.

12- اللهوف -أبن طاووس- ص66، مثير الأحزان -إبن نما الحلّي- ص49، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص74، تاريخ الطبري ج4 / ص339.

13- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص109.