مقدارُ ما سُلبَ من نساء أهل البيت (ع)؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد

 

المسألة:

تنقلُ بعضُ كتب التأريخ وبعضُ كتب المقاتل أنَّ جماعةً من جيش عمر بن سعد يقودُهم الشمر بن ذي الجوشن اقتحموا بعد مقتل الحسين (ع) مخيم النساء وسلبوا النساء ملاحفهنَّ والحُليَّ الذي عليهنَّ بما في ذلك الحجول والأقراط حتى أنَّهم خرموا أذن أمِّ كلثوم أُخت الحسين (ع) لينتزعوا القرطَ الذي كانت تلبسه، فما هو المقدار الذي يُمكن التثبُّت من صحَّتِه والتعويل عليه من هذه التفاصيل المذكورة في بعض المقاتل وكتب التاريخ؟

 

الجواب:

المقدارُ الذي يمكن التثبُّتُ من صحَّتِه بل ووقوعِه هو أنَّ جماعة من جيش عمر بن سعد اقتحموا بعد مقتل الحسين (ع) مخيمَه فانتهبوا ما فيها من متاعٍ وحُللٍ ووَرْسٍ وفرُشٍ وحُليٍّ وما أشبه ذلك ثم مالوا إلى مَن صادفوه من النساء فجاذبوهنَّ ما على ظهورهنَّ من الملاحِف فربَّما غُلبت المرأةُ على ملحفتِها، وقع ذلك قبل أنْ يصلَ عمرُ بن سعد -قائد الجيش- فيمنعُ هؤلاء الأوباش من السلب ويوكِّلُ جماعةً من جُندِه بحراسة الخيمة التي فيها النساء بعد أنْ أُحرقت سائرُ الخيام.

 

هذا هو المقدارُ الذي يُمكن التثبُّتُ من وقوعِه، فقد نصَّ على ذلك أكثرُ المؤرِّخين من الفريقين إنْ لم يكن جميعُهم أعني مَن تصدَّى لبيان تفاصيل ما وقَعَ يوم الطف.

 

ولتوثيق ذلك أنقلُ لكم عددًا من النصوص المُتضمِّنة لهذه التفاصيل:

الإرشاد: "وانتهبوا رحلَه وإبلَه وأثقالَه وسلبوا نساءَه. قال حميدُ بن مسلم: فواللهِ لقد كنتُ أرى المرأةَ من نسائِه وبناتِه وأهلِه تُنازعُ ثوبَها عن ظهرها حتى تُغلبَ عليه فيُذهبُ به منها .. وجاءَ عمرُ بنُ سعد فصاح النساءُ في وجهِه وبكينَ فقال لأصحابه: لا يدخلُ أحدٌ منكم بيوتَ هؤلاء النسوة، ولا تعرضوا لهذا الغلامِ المريض، وسألتْه النسوةُ ليسترجع ما أُخذ منهنَّ ليتسترنَ به فقال: مَن أَخذ من متاعهنَّ شيئًا فليردَّه عليهنَّ، فواللهِ ما رَدَّ أحدٌ منهم شيئًا، فوكَّل بالفسطاط وبيوتِ النساء وعليِّ بن الحسين جماعةً ممَّن كانوا معه وقال: احفظوهم لئلا يخرجَ منهم أحدٌ، ولا تُسيئن إليهم"(1).

 

أنساب الأشراف: "ومال الناسُ على الوَرس والحُلل والإبل فانتهبوها وأخذ الرحيلُ بنُ زهير الجعفي، وجريرُ بن مسعود الحضرمي، وأُسيد بن مالك الحضرمي أكثرَ تلك الحُلل والورس. وأخذ أبو الجنوب الجعفي جملًا .. وجاذبوا النساء ملاحفَهُنَّ عن ظهورهِنَّ فمنَع عمرُ بنُ سعد مِن ذلك فأمسكوا"(2).

 

تجارب الأمم: "ومال الناسُ على الإبل والمتاع، فانتهبوه وانتهبوا نساءَه، فإنْ كانت المرأةُ لتنازعُ ثوبَها عن ظهرِها حتّى تُغلبَ عليه، فيُذهبُ به، حتّى جاء عمرُ بن سعد، فقال: لا يدخلنَّ بيتَ هؤلاء النسوِة أحدٌ، ولا يعرضنَّ لهذا الغلام المريض، يعني علىَّ بن الحسين، وكان مريضًا"(3).

 

تاريخ الطبري: قال أبو مخنف عن جعفر بن محمد بن عليٍّ الصادق (ع) قال: "وُجد بالحسين (عليه السلام) حين قُتل ثلاثٌ وثلاثون طعنةً وأربعٌ وثلاثون ضربة .. ومال الناسُ على الورس والحُلل والإبل وانتهبوها قال: ومال الناسُ على نساءِ الحسين وثقلِه ومتاعِه، فإنْ كانت المرأةُ لتُنازع ثوبَها عن ظهرِها حتى تُغلب عليه فيذهبُ به منها"(4).

 

وقال: (قال أبو مخنف) حدَّثني سليمانُ بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال: "انتهيتُ إلى عليِّ بن الحسين بن عليٍّ الأصغر وهو مُنبسط على فراشٍ له وهو مريض وإذا شمرُ بن ذي الجوشن في رجَّالةٍ معه يقولون ألا نقتلُ هذا .. حتى جاء عمرُ بن سعد فقال: ألا لا يدخلنَّ بيتَ هؤلاء النسوة أحدٌ ولا يَعرِضنَّ لهذا الغلام المريض، ومَن أخذ من متاعهم شيئًا فليردَّه عليهم قال: فواللهِ ما ردَّ أحدٌ شيئًا"(5).

 

البداية والنهاية: وتقاسم الناسُ ما كان من أموالِه وحواصلِه، وما في خبائِه حتى ما على النساء من الثيابِ الظاهرة (الطاهرة)"(6).

 

الأخبار الطوال: "ثم مال الناس على ذلك الوَرس .. وإلى ما في المضارب، فانتهبوه"(7).

 

الفتوح لابن أعثم: وأقبل الشمرُ بن ذي الجوشن -لعنه الله- حتى وقف قريبًا من خيمة النساء فقال لقومِه: ادخلوا فاسلبوا بزَّتهنَّ! قال: فدخل القومُ فأخذوا كلَّ ما كان في الخيمة .."(8).

 

الطبقات الكبرى: "وأخذ رجلٌ من أهل العراق حليَّ فاطمة بنت حسين وهو يبكي فقالت: لِمَ تبكي؟ فقال: أسلبُ ابنةَ رسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولا أبكي؟! فقالت: دعْه، إنِّي أخاف أنْ يأخذه غيري .. وجاء عمرُ بن سعد فقال: لا تعرضوا لهؤلاءِ النسوة ولا لهذا المريض"(9).

 

اللهوف: قال الراوي: وتسابق القومُ على نهبِ بيوت آل الرسول (ص) وقرَّة عين البتول حتى جعلوا ينتزعون ملحَفة المرأة على ظهرها وخرج بناتُ آلِ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وحريمُه يتساعدن على البكاء ويندبنَ لفراق الحُماة والأحباء"(10).

 

هذه عدةٌ وافرةٌ من النصوص التأريخيَّة التي وثَّقت اقتحامَ جماعةٍ من جيش عمر بن سعد خيامَ الحسين (ع) بعد مقتلِه وانتهابَ ما فيها ومنازعَة النساء أو بعضِهنَّ ما على ظهورهنَّ من ملاحف، والملاحفُ جمع مِلحفة وهي –كما في لسان العرب وغيره- اللِّباس الذي فوق سائر اللباس من دِثار وقال: والمِلْحفة عند العرب هي المُلاءة السِّمْط، فإذا بُطِّنت ببطانةٍ أَو حُشيت فهي عند العوام مِلحفة"(11).

 

وتلبسُ المرأةُ -وكذلك الرجل- المِلحفة فوق الثياب للاتقاء من البرد أو للوقار والتجمُّل، وتلبسُها المرأة كذلك أو قل تشتملُ عليها لكمال الستر والاحتشام، والمتعارف أنَّها لا تكون فوق الرأس وإنَّما يتمُّ الاشتمال بها، ويُؤيِّد ذلك ما ورد في الحديث النبويِّ أنّه: "كانت للنبيِّ (ص) ملحفةٌ مصبوغة بالورس والزغفران يدورُ بها على نسائه"(12) "وكانت له (صلَّى الله عليه وآله وسلم) مِلحفةٌ مصبوغةٌ بالزعفران، وربَّما صلَّى بالناس فيها"(13)

 

والظاهرُ من النصوص التي أوردنا بعضَها أنَّ الذي تمَّ سلبُه من النساء أو من بعضِهنَّ هي الملاحف كما نصَّ على ذلك البلاذري في أنساب الأشراف، واللهوف لابن طاووس، ورواية الصدوق في الأمالي، وكما هو ظاهرُ أكثرِ النصوص التي عبَّرت بمثل: "تُنازع ثوبَها عن ظهرِها حتى تُغلبَ عليه فيُذهبُ به منها" كما في الإرشاد للمفيد، وتجارب الأمم لابن مسكويه، وتاريخ الطبري، فإنَّ المراد من الثوب هو المِلحفة أو ما أشبه ذلك فهي التي تكون على الظهر.

 

ومن ذلك يتَّضح مرادُ السيِّد ابن طاووس من قوله: "فخرجنَ حواسرَ مسلَّبات"(14) فالمرأةُ الحاسر هي التي حسَرتْ عنها دِرعها كما عن الفراهيدي في كتاب العين(15) وابن سيدة كما في لسان العرب(16)، ودرعُ المرأة -كما في لسان العرب- ثوبٌ تجوبُ المرأةُ وسطَه وتُجعلُ له يدين وقيل: جبَّةٌ مشقوقة المقدَّم(17)، ووصفُ الحاسر وإنْ كان يُطلق على غير ذلك ولكنَّ تحديد المراد يُعرفُ بما يحتفُّ به وصفَ الحاسر من قرائن، وحيثُ إنَّ السيِّد ابن طاووس قد سبق منه القول إنَّ القوم: "جعلوا ينتزعون ملحَفةَ المرأة على ظهرِها"(18) لذلك فالمتعيَّن أنَّ مرادَه من قوله: "فخرجن حواسر مسلَّبات" هو أنَّهنَّ خرجن وقد سُلبَ منهنَّ ما يرتدينه فوق ثيابهنَّ من ملاحفَ وشبهها.

 

وأمَّا ما ورد في الإرشاد للمفيد من قوله: "وسألتْه النسوةُ –عمر بن سعد- ليسترجع ما أُخذ منهنَّ ليتسترنَ به"(19) فلا ينافي أنَّ المسلوب هو خصوص الملاحف، فالملاحف تلبسُها النساء للمبالغة في الستر وإنْ كان السترُ الواجب يتحقَّق من دونِها على أنَّه قد يكونُ مرادُهنَّ هو استرجاع ما سلبَه هؤلاء الأوباش من الثياب المدَّخرة في الأخبية والتي يحتاجونَها للتستر بها في سائر أيامِهن، فإنَّ الواضح من النصوص أنَّهم سلبوا كلَّما وجدوه في الأخبية حتى ثياب النساء فلم يبقَ لهنَّ سوى ما على أبدانهنَّ. ألا فلعنةُ الله على الظالمين.

 

سلبُ المقانع:

هل تمَّ سلبُ نساءِ أهل البيت (ع) أو بعضِهنَّ مقانعَهُنَّ مِن على رؤوسِهن؟

لم أقفْ -رغم التتبُّع- على مَن نصَّ على ذلك ممَّن يُعتدُّ بخبره سوى ابن نما الحلِّي (رحمه الله) في مثير الأحزان قال: "ثم اشتغلوا بنهبِ عيال الحسين (ع) ونسائِه حتى تُسلبَ المراةُ مقنعتَها من رأسِها .. وجاء من سنبس إلى ابنة الحسين (ع) وانتزع مِلحفتها من رأسها"(20).

 

هذا الذي ذكره ابنُ نما الحلِّي (رحمه الله) لا يُمكن التثبُّتُ من صحَّته بل المظنونُ الذي يقترب من الاطمئنان منافاتُه للواقع، فإنَّ هذا الأمرَ لو كان قد وقع لكانَ أكثرَ شناعةً من سلبِ الملاحف مِن على ظهور النساء ولذلك فهو أولى بالذكر من سلب الملاحف بل لا معنى للتنصيص على سلبِ الملاحف وإهمال الذكر لِما هو أخصُّ منها وهي المقانع.

 

على أنَّه لو تمَّ سلبُ المقانع من نساء أهل البيت (ع) وُصرن بذلك مُشكَّفاتِ الرؤوس لاستمرَّوا على هذه الحال وهذه الهيئة إلى أن يصلوا بهنَّ إلى الكوفة فيراهُن على هذه الهيئة الرجالُ والنساءُ والأطفال، وحيث إنَّ المنظرَ سيكون مُلفتًا ومستوَحشًا وغريبًا ومتجاوزًا في الشناعة وذلك لأنَّ المكشَّفات بناتُ الرسول (ص) وعقائلُ أمير المؤمنين (ع) لذلك سيكثرُ تناقل الإخبار عنه وسيظلُّ محفورًا ومحفوظًا في ذاكرة الأجيال المتعاقبة وهو ما سينعكس بمقتضى طبيعة الحال على حديث الرواة والمؤرِّخين كما هو الشأنُ في العديد من وقائع كربلاء ووقائع السبي وحمل الرؤوس، فلماذا لا نجدُ في كلام الرواة والمؤرِّخين إلا مَن شذ أنَّ سبايا أهل البيت (ع) كنَّ مكشفات الرؤوس والحال أنَّ طبيعة هذا الخبر تقتضي -لو كان قد وقع- ذيوعه وشيوعه في كتب الأخبار والمؤرِّخين.

 

والمتحصَّل إنَّ إغفال الذكر لخبر سلب المقانع من عموم المؤرِّخين من الفريقين وخصوصًا الشيخ المفيد والطبرسي وابن شهراشوب والسيِّد ابن طاووس وأبي مخنف الذي روى واقعةَ السلب عن الإمام الصادق (ع) ورواية الصدوق عن فاطمة (ع) إغفالُ كلِّ هؤلاء لهذا الخبر رغم تصدِّيهم لتفصيل واقعة السلب يُوهِنُ من مصداقيتِه إلى درجةٍ تقترب من الإطمئنان بعدم صحَّتِه.

 

وما قد يُقال: لعلَّ ابنَ نما الحلِّي قد وقفَ على مصادرَ لم يقفْ عليها هؤلاءِ الأعلام تضمَّنتْ هذا الخبر.

 

فجوابُه إنَّ هذا الاحتمال في غاية البُعد فإنَّ عدم اطِّلاع هؤلاءِ الأعلام مجتمعين وهم مهرةُ هذا الفنِّ وقد سبق أكثرُهم ابنَ نما الحلِّي بقرون وكانت الكثيرُ من المصادر التي تلفتْ في متناولِهم كما يظهرُ من روايتِهم عنها وكما يتبيَّنُ ذلك من ملاحظة فهارس المُصنَّفين وطرقِهم إليها، احتمال ذلك مُستبعدٌ غايته، فالراجحُ قريبًا أنَّ هؤلاء الأعلام قد اطَّلعوا على مصدر الخبر المذكور -لو كان موجودًا- لكنَّهم لم يعبأوا به وهو ما يُوجبُ وهنَه، على أنَّ السيِّد ابن طاووس كان معاصرًا لابن نما الحلِّي ويقطنُ معه في مدينةٍ واحدة فلا يُحتمل أنَّ ثمة مصادرَ كانت في متناول ابنِ نما الحلِّي ولم تكنْ في متناول السيِّد ابن طاووس بل العكس هو المتعيِّن كما هو واضحٌ من ملاحظة ترجمته وأحواله والمكتبة التي جمعها والتي آلت إليه والأصول والمصادر التي كانت في متناول يده، على أنَّ من المعلوم الذي لا أظنُّ أحدًا يرتابُ فيه أنَّ السيِّد ابنَ طاووس كان أوسعَ اطلاعًا وأكثرَ احاطة بالأخبار كما يظهرُ ذلك جليًّا من مصنَّفاته الكثيرة والتي اختصَّ أكثرُها بالأخبار، ثم إنَّ الشيخ ابن نما الحلِّي كان أُستاذًا للسيِّد ابن طاووس وقد ألَّف كتابَه مثيرَ الأحزان قبل تأليف ابنِ طاووس لكتابه اللهوف، فلو فُرض أنَّه غفِلَ عن ملاحظة بعض المصادر التي اعتمدها ابنُ نما الحلِّي فإنَّ مِن المُستبعَد أنْ لا يكون قد اطَّلع على كتاب أستاذه والحال أنَّه بصدد الكتابة لذات الغرض وفي ذات موضوع الكتاب الذي ألَّفه أستاذُه قبلَه فبمقتضى طبيعة الحال أنْ يستثيرَه مثلُ هذا الخبر الفاقع فيسألُ عنه أو يبحثُ عن مصدره لو فرضنا أنَّه كان غافلًا عنه.

 

فالمظنونُ قويًّا أنَّ خبر سلبِ المقانع لا يخلو إمَّا أنْ يكونَ ابنُ نما قد وقف عليه في بعض المصادر غيرِ المعوَّل عليها فدوَّنه في كتابِه تسامحًا اعتمادًا على ما يبني عليه البعض من التسامح في نقل الأخبار التاريخيَّة خصوصًا وأنَّ الغرض مِن وضع كتابه ليس هو التوثيق بقدر ما هو الاستثارة للأحزان كما هو المُستظهَر من عنوان الكتاب، والاحتمال الثاني هو أنَّه لم يقف أساسًا على خبرٍ في ذلك وإنَّما هو شيءٌ استظهره من مثل النصوص التي نقلناها.

 

سلبُ الأقراط والخلاخيل:

هل تمَّ سلبُ نساء أهل البيت (ع) ما عليهنَّ من أقراطٍ وخلاخيل وخواتم؟

لم أقفْ رغم التتبُّع على مَن عمَّم ذلك سوى ابن نما الحلِّي (رحمه الله) في كتابه مثير الأحزان قال: "ثم اشتغلوا بنهبِ عيال الحسين (ع) ونسائِه حتى تُسلبَ المرأةُ مقنعتَها من رأسِها أو خاتمَها من إصبعِها أو قُرطَها من أُذنها وحجلَها من رجلِها، وجاء من سنبس إلى ابنة الحسين (ع) وانتزع مِلحفتَها من رأسِها"(21).

 

وقد تبيَّن ممَّا تقدَّم وَهنُ هذا الخبر وعدم صحَّة الاعتدادِ به، هذا مضافًا إلى أنَّ القضايا التاريخيَّة إنَّما يتمُّ التثبُّتُ من صحَّتها بتعاضد النصوص أو احتفاف النصِّ بشواهدَ وقرائنَ تقتضي الوثوق أو لا أقل من الظنِّ القويِّ بصحَّته، والنصُّ المذكور فاقدٌ فيما تفرَّدَ به لكلا الأمرين.

 

وعليه فليس لنا ما يُصحِّح البناء على تعميم وقوع السلب لحليِّ النساء مِن على أبدانِهن ليس لأنَّ جيشَ عمر بن سعد يتورَّعُ عن مِثل هذه الموبِقة بل لأنَّه لم نقْفْ على ما يَصحُّ التعويلُ عليه لإثبات ذلك، فمجرَّد الإمكان وتوقُّعِ الحدوث لا تَثبُتُ به الوقائع التاريخيَّة وإنَّما تثبتُ بالأخبار الحسِّيَّة الواصلة والمتعاضدة والمُثبتَة في مصادرَ معتبرة نسبيًّا وهذا ما تفتقدُه دعوى تعميم السلبِ لحليِّ النساء، نعم أورد الشيخُ الصدوق (رحمه الله) في الأمالي خبرًا مفادُه أنَّ رجلًا سلبَ فاطمةَ بنت الحسين (ع) خلخاليها من رجليها، قال (رحمه الله): حدَّثنا محمد بن موسى بن المتوكِّل (رحمه الله)، قال: حدَّثنا عليُّ بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود زياد بن المُنذر، عن عبد الله بن الحسن المثنَّى، عن أُمِّه فاطمة بنت الحسين (عليه السلام)، قالت: "دخلتِ الغاغةُ علينا الفسطاط، وأنا جاريةٌ صغيرةٌ، وفي رِجلي خلخالان من ذهبٍ، فجعل رجلٌ يفضُّ الخلخالين من رجلي وهو يبكي، فقلتُ: ما يُبكيكَ، يا عدوَّ الله ؟! فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلبُ ابنةَ رسول الله! فقلتُ: لا تسلُبني. قال: أخافُ أنْ يجيءَ غيري فيأخذَه. قالت: وانتهبوا ما في الأبنية حتى كانوا ينزعون الملاحفَ عن ظهورِنا"(22).

 

فهذا الخبرُ لو تمَّ فإنَّه يُثبتُ وقوع السلبِ لخلخالي السيِّدة فاطمة بنت الحسين (ع) مِن رجليها لكنَّه لا يتمُّ، فمع التجاوز لضعفِ سندِه حيثُ إنَّ ناقلَ الخبر عن فاطمةَ بنت الحسين (ع) هو عبدُ الله بن الحسن المحض (المثنى) وهو غيرُ مُستأمَن على ما يتفرَّدُ بنقلِه، ويُمكنُ الوقوفُ على أحوال هذا الرجل من ملاحظة ترجمتِه في معجم رجال الحديث للسيد الخوئي(23)، ومع التجاوز لضعف الخبر من حيثُ السند فإنَّه غيرُ قابلٍ للتصديق في نفسِه.

 

فإنَّ مِن المُستبعَد إلى درجةِ الاطمئنان أنْ تبقى أمرأةٌ أو حتى طفلة في مثل ظرف فاطمة لابسةً لخلخاليها أو بعض حُليِّها إلى أنْ يدخلَ عليها السلَّابة فيُبصر أحدُهم خلخاليها في رجليها فيسلبهما منها.

 

إنَّ ذلك لا يتَّفق وقوعُه من بسطاء الناس فضلًا عن ذوي الحِجى والعقول الراجحة وذوي التشدُّد في العفاف والستر، فلو أنَّ رجلًا كان يصحبُ زوجتَه وبناتِه في طريقٍ قفرٍ وناءٍ وكان هذا الطريق يرتادُه أو كان مِن المتوقَّع أن يرتادَه قطاعُ الطُرق الذين ليس في وسعِه أنْ يدفعَ أذاهم عن نفسِه وزوجته وبناتِه فإنَّه في مثل هذا الفرض لا يَدعهنَّ يرتدين حليِّهن بل يجمعُه عنده إذا كان بحاجةٍ إلى حملِه لأنَّه يعلمُ أنَّ بُغيةَ قطَّاع الطرق في الغالب هو نفائسُ الأموال من النقود والحليِّ وما أشبه ذلك، ويعلمُ أنَّهم لا يتحرَّجون من سلبِها لو وجدوها على أبدان نسائه، ولهذا فهو يجمعُها عنده فإذا اعترض طريقَه قطاعُ الطريق وطلبوا منه نفائسَ أمواله سلَّمها إليهم، فيكونُ بذلك قد صرف عن زوجتِه وبناتِه خطر التعرُّض للسلب المباشر ومحذور الهتك لحرمتِهن بمسِّ الأجنبيِّ لهن.

 

إنَّ الظرفَ الذي كان يكتنفُ أهَل البيت (ع) في كربلاء يُشبهُ بل يفوقُ في اقتضائه للمحاذرة المثال المذكور بمراتب، فهم في وسط صحراءَ لا ملجأَ لهم فيها، وتحوطُ مخيماتِهم الآلافُ المؤلَّفة من الأعداء وهم ينتظرون حربًا وشيكةَ الوقوع ومحسومةَ النتائج لعدم التكافؤ في العدَّة والعدد ألا يقتضي ذلك شديدًا الاستعداد لصرف ما يُمكن صرفُه من أذى هولاءِ الأعداء لو اتَّفق لهم الظفرُ والغلبة، إنَّ المُحاذرة والاستعداد يكونُ لازمًا لدى العقلاء لو كان ظفرُ الأعداء في الحرب مُحتملًا كيف وجميعُ المُعطيات مقتضيةٌ لظفرهِم في الحرب التي بات وقوعُها وشيكًا، فمعسكرُ عمر بن سعد زحف نحو مُخيمات الحسين (ع) عشية اليوم التاسع فاستمهلهم الحسينُ (ع) سوادَ ليل العاشر(24) ثم أخذ وأصحابُه في الاستعداد للحرب فأمرَ بتقريب البيوت وادخال الأطناب بعضها في البعض الآخر(25) وأمر بالمنخفض أو ما يُشبه الأخدود -الذي احتفروه خلف المُخيمات- فملأوه بالقصب والأخشاب استعدادًا لاِشعالها صباحًا بالنار حتى لا يُداهمهم العدوُّ من الخلف(26)، وجلس مع أصحابه وبعد أنْ أذِن لهم في الانصراف فأبوا عليه ذلك أخبرهم بأنَّه مقتول وبأنَّهم مقتولون جميعًا لا يكاد يُفلتُ منهم واحد، ودعا ربَّه فكشف اللهُ لهم عن بصائرهم فرأوا منازلَهم في الجنَّة (27)، وعزَّى -روحي له الفداء- أُخته فقال: إنَّ أهل الأرض يموتون وأهلَ السماء لا يبقون(28) ثم أقسم عليها وأوصاها أو هي وسائر العقائل من آل الرسول (ص) وعليِّ بن أبي طالب (ع) بالصبر وبأنْ لا يشققنَ عليه جيبًا ولا يخمشن وجها ولا يدعين بالويل والثبور(29) وأخبرهن -كما رُوي- بأنَّ الله تعالى حاميهنَّ وحافظُهن ومنجِّيهنَّ من شرِّ الأعداء وأمرهن -كما رُوي- بالاستعداد للبلاء ولبس الأزر، فلم تُفجأهم الحرب ولم تقعْ عليهم بغتة، وفي الصباح عبأ الحسينُ أصحابَه ثم خطب في القوم بمسمعٍ من النساء كما نصَّتْ على ذلك الأخبار، وبعد أنْ قامت الحربُ كان الحسين (ع) يُكِّررُ التَرداد على الخيام وربَّما دخل الخيام والدماء تغلي من جُراحاته كما في بعض الروايات(30) وصار يُوصي إلى عليِّ بن الحسين (ع)(31) وسلَّم فاطمة ابنته وصيةً ملفوفة وأمرها بأن تُسلمها لعليٍّ بن الحسين (ع) بعد الرجوع للمدينة(32).

 

هذا وقد رأى النساء رجالاتِ بني هاشم يخرجون ثم يُعاد بهم إلى بابِ الفسطاط جثامين قد بضَّعت السيوفُ أجسادَهم، وبعد أنْ لم يبقَ مع الحسين (ع) سوى القليل من أنصاره أو فتيانه دخل الخيام وطلبَ ثوبًا لا يرغبُ فيه الأعداء يلبسه تحت ثيابه وأخبر أنَّه مقتولٌ مسلوب(33)، هذا وقد مال قطعانٌ من جيش عمر بن سعد على مخيمات النساء مراتٍ وأحرقوا عددًا من الخيام(34)، والحربُ قائمة والحسيُن(ع) بعدُ لم يُقتل وفي المرَّة الأخيرة خاطبهم الحسين بقوله: "ويلكم ياشيعة آل أبي سفيان إنْ لم يكنْ لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم .." "امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهالكم"(35).

 

كلُّ هذه الأجواء تبعثُ على الاطمئنان الكامل بأنَّ النساء كنَّ على يقينٍ بأنَّ مآلهنَّ إلى الأَسر والسبي وهو ما يفرضُ عليهنَّ الاستعداد لذلك لرجاحة عقولهنَّ وشديد حرصهنَّ على الستر والحشمة، ولو قبلنا باحتمال غفلتهنَّ عن ذلك فإنَّ الحسينَ الغيور (ع) -وهو يعلمُ بمآل الأمور ويعلمُ بخسَّة أعدائه ودنائة طباعهم- لا يغفلُ عن إيصائهنَّ بذلك، ولو غفلتْ بعضُ النساء أو الصغيرات فإنَّ مِن ورائهن زينبُ والعلويَّات من عقائل عليِّ بن أبي طالب (ع) ومعه كيف يتطرَّقُ الاحتمال ببقاء النساء مرتديات لحليِّهن؟! والحال أنَّ من المعلوم أنَّ الحليَّ هو أولُ ما يطمح فيه الجشعون، إنَّ ذلك لا يتَّفقُ لمَن هنَّ دونهنَّ في رجاحة العقل والحرص على الحشمة والستر، ولا يتَّفق لمَن كنَّ في ظرفٍ هو أحسن حالًا من ظرفِهن، فكيف نقبلُ أنْ تبقى فاطمةُ صاحبة الوصية ويبقى نساءُ أهل البيت مرتديات للخلاخل والخواتم والأقراط وهنَّ على موعدٍ وشيك من السبي واقتحام الأوباش لمُخيماتِهن لسلب ما فيها من نفائس؟!

 

إنَّ التعقُّل -وهنَّ أكملُ الناس عقلًا وحشمةً واستصغارًا للمال- يُحتِّمُ عليهنَّ ترك حليهنَّ لهؤلاء الأوباش يأخذونه حتى لا يتعرَّضن للسلب المباشر.

 

وعليه فلا يسعُنا القبول بخبرٍ يتيمٍ يَزعمُ أنَّ رجلًا من السلابة أخذَ يُعالج خلخالين كانا في رِجلي فاطمة بنت الحسين (ع) حتى فضَّهما وذهب بهما!!

 

وممَّا ذكرناه يتبيَّنُ الحالُ فيما أورده ابنُ أعثم في الفتوح(36) ونقلَه عنه بحرفيته الخوارزمي في مقتل الحسين(37) وأجمله ابنُ شهراشوب في المناقب(38) من أنَّ القوم لمَّا دخلوا خيمة النساء وأخذوا ما فيها: "أفضوا إلى قرطٍ كان في أذن أمِّ كلثوم رضي الله عنها فأخذوه وخرموا أذنها .."!! فإنَّ هذا الخبر مضافًا إلى افتقاره إلى ما يعضدُه فإنَّه غيرُ قابلٍ للتصديق في نفسِه كما اتَّضح ذلك مما تقدم. 

 

وخلاصة البحث: إنَّ ما يُمكن التثبُّت من صحَّته ووقوعِه هو سلبُ الملاحف أو مايُشبهها عن ظهورِ بعض النساء أو جميعِهن مضافًا إلى سلبِ الأمتعة والحُلل والحليِّ ومعظم ما حوته مُخيَّمات الحسين (ع) من نفائس الأموال ومحَقَّراتِها، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم، وسيعلمُ الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبونَ والعاقبةُ للمتَّقين.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

18 / محرم الحرام / 1439

9 / أكتوبر / 2017


1- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص113، إعلام الورى -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص470.

2- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص204.

3- تجارب الأمم -ابن مسكويه -ج2 / ص81.

4- تاريخ الطبري -الطّبري- ج4 / ص346، والكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص79.

5- تاريخ الطبري -الطّبري- ج4 / ص347.

6- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص305.

7- الأخبار الطوال -ابن قتيبة الدينوري- ص258، وبغية الطلب في تاريخ حلب -ابن العديم- ج6 / ص2629.

8- الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص120، ومقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص37.

9- الطبقات الكبرى لابن سعد ترجمة الإمام الحسين ص78، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص303.

10- اللهوف -ابن طاووس- ص78.

11- لسان العرب -ابن منظور- ج9 / ص314.

12- المعجم الأوسط -الطبراني- ج1 / ص209.

13- سنن النبي -السيد الطباطبائي- ص121.

14- اللهوف -ابن طاووس- ص78.

15- العين -الخليل بن أحمد الفراهيدي- ج3 / ص134.

16- لسان العرب -ابن منظور- ج4 / ص188.

17- لسان العرب -ابن منظور- ج8 / ص82.

18- اللهوف -ابن طاووس- ص77.

19- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص113.

20- مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص58.

21- مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص58.

22- الأمالي -الشيخُ الصدوق- ص229.

23- معجم رجال الحديث -السيد الخوئي- ج11 / ص1175.

24- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص91، وتاريخ الطبري -الطّبري- ج4 / ص317.

25- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص 94، وتاريخ الطبري -الطّبري- ج4 / ص319.

26- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص 178، وتاريخ الطبري -الطّبري- ج4 / ص 320.

27- علل الشرايع -الشيخ الصدوق- ج1 / ص229.

28- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص 94.

29- اللهوف -ابن طاووس- ص 50.

30- الدعوات -الراوندي- ص54.

31- الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص331، وإثبات الوصية -المسعودي- ص177.

32- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص 303.

33- المناقب -ابن شهراشوب- ج3 / ص257.

34- وتاريخ الطبري -الطّبري- ج4 / ص333.

35- اللهوف -ابن طاووس- ص71، وتاريخ الطبري -الطّبري- ج4 / ص244، وتجارب الأمم -ابن مسكويه الرازي- ج2 / ص79.

36- الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص120.

37- مقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص37.

38- ابنُ شهراشوب ج3 / ص259.