العثور على جثمان (جون) بعد عشرة أيام

المسألة:

شيخنا قيل إنَّ الشهيد جونًا مولى أبي ذرٍّ الغفاري لم يُدفَن مع أنصار الحسين (ع)، فما صحَّة هذا القول؟

 

الجواب:

هذا القول لم نجده صريحًا في كتب الأخبار والمقاتل، نعم روى السيد محمد بن أبي طالب في مقتله عن الإمام الباقر عن عليِّ بن الحسين (عليهم السلام): "أنَّ الناس كانوا يحضرون المعركة، ويدفنون القتلى، فوجدوا جونًا بعد عشرة أيام يفوحُ منه رائحة المسك (رضوان الله عليه)".

 

نقل ذلك العلامة المجلسي صاحب البحار(1)، وأفاد الشيخ عباس القمي في كتابه منتهى الآمال أنَّه رُوي عمَّن حضرَ لدفن القتلى أنَّهم وجدوا جسد جون بعد عشرة أيام تفوحُ منه رائحةٌ طيبة أزكى من المسك رضوان الله عليه.

 

وكلا النصين ليسا صريحين في عدم دفنه في القبر الجماعي لشهداء الطف من الأنصار، نعم باعتبار أنَّ الشهداء دُفنوا على الأرجح في اليوم الثالث عشر من المحرم فإنَّ ذلك يقتضي لو صحَّ ما رُوي عن الإمام الباقر (ع) أنَّ الشهيد جونًا (رحمه الله) دُفن بمفرده لاستبعاد إعادة حفر القبر الجماعي الذي كان لشهداء الأنصار.

 

وهذا الاستبعاد لو تمَّ قبوله فهو لا يقتضي دفن الشهيد جون (رحمه الله) بعيدًا عن موقع دفن الأنصار، فهو واقع في محيط الحائر الحسيني، وذلك لإطباق النصوص التأريخيَّة على أنَّ الأنصار جميعًا -من غير بني هاشم- دُفنوا في موقعٍ واحدٍ باستثناء الحرِّ بن يزيد الرياحي (رحمه الله)، وذلك هو ما تقتضيه أيضًا الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) والمتصدِّية لبيان كيفية الزيارة.

 

ثم إنَّ الخبر المرويَّ مرسلًا عن الإمام الباقر (ع) إنّما يصحُّ قبوله بناءً على أنَّ الذي تصدَّى لدفن الحسين (ع) ومَن كان معه من الشهداء هم أهل الغاضرية من بني أسد، إذ من المعقول وقوع الغفلة منهم عن جثمان الشهيد جون حين دفنهم الشهداء، إما لوقوعه خلف تلَّةٍ بعيدة شيئًا ما عن مصارع الشهداء، أو لأنَّ التراب كان قد غطّاه بفعل الرياح أو لأنَّه وقع في منحدرٍ منعَهم من الالتفات إليه.

 

فالغفلةُ عن دفنه لو كان المتصدِّي للدفن هم أهلُ الغاضرية معقولٌ جدًّا، أمَّا بناءً على ما هو الصحيح من تصدّي الإمام السجاد (ع) لدفن الحسين (ع) والشهداء الذين كانوا معه فمستبعدٌ جدًّا، فبعد الإيمان بعصمة الإمام (ع) عن الغفلة والخطأ لا بدَّ من الجزم بعدم ذهوله عن دفن هذا الشهيد الجليل، إذ أنَّه كان متصدِّيًا لذلك، إلا أنْ يُقال إنَّ الإمام لم يكن قد غفل عن دفنه وإنما ترك دفنه عن قصدٍ لحكمةٍ اقتضت ذلك وخفيَت علينا.

 

وثمَّة احتمالٌ يمكن أنْ يكون وجيهًا وهو أنَّ الشهيد جونًا كان قد دُفن ضمن من دُفن من قتلى المعسكر الأموي اشتباهًا، ولأنَّ عشائر المعسكر الأموي رجعوا إلى كربلاء لتشخيص مواضع قبور قتلاهم أو إعادة تجهيزها فوجدوا جثمان جون ضمن قتلاهم فاستبعدوه، وحينئذٍ دفنه أهلُ الغاضرية من بني أسد قريبًا من موقع مدفن أنصار الحسين (ع) كما هو مقتضى نصوص الزيارة وكما هو مقتضى النصوص التأريخيَّة التي أفادت أنَّ جميع أنصار الحسين (ع) مدفونون في محيط الحائر الحسيني.

 

وقوّة هذا الاحتمال تنشأ من ملاحظة نصِّ الخبر المرويّ عن الباقر (ع) "وأنَّ الناس يحضرون المعركة يدفنون القتلى"، ومن المعروف تأريخيًا أنَّ قتلى المعسكر الأموي دُفنوا يوم الحادي عشر، ودُفن الحسين (ع) وأنصاره في اليوم الثالث عشر على الأكثر، وحينئذٍ كيف يُقال: "إنَّ الناس يحضرون المعركة يدفنون القتلى" لولا ما ذكرناه من احتمال.

 

ولعلّ اللهَ تعالى أراد أنْ يُظهِر كرامة هذا الشهيد السعيد فكان ما وقع له من التأخُّر في الإلحاق بمدفن الشهداء.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج45 / ص23.