هل كان الحسين (ع) كارهًا لصلح الحسن (ع)

مناقشة في النصوص المزعومة

 

المسألة:

أثار بعضُهم شبهةً حول صلح الإمام الحسن (ع) لكنَّه لم يدفعها بل صاغها بما يُوحي للسامع التبنِّي لها، وحاصلُ هذه الشبهة هو أنَّ رواياتٍ عديدة تضمَّنت القول بأنَّ الإمام الحسين (ع) كان كارهًا للصلح الذي أبرمه الإمامُ الحسن (ع) مع معاوية؟! وتضمَّن بعضُها أنَّ الحسين (ع) قال: إنَّه قبِل بالصلح لأنَّ الحسن (ع) قد عزم عليه فأطاعه وهو يشعر كأنَّ أنفه قد جُذَّ بالمواسي وكأنَّ قلبه يُشرَّح بالمُدى، وقد لاحظنا بعد المتابعة لهذه الروايات أنَّ الإمام الحسن (ع) قال للإمام الحسين (ع) بعد اعتراضه على الصلح: "والله لقد هممتُ أنْ أقذفك في بيتٍ فأطينّه عليك حتّى أقضي أمري" بل ورد في بعضها ما هو أصرح في التهديد حيث قال له: "ووالله لئن لم تتابعني لأشدَّنَّك في الحديد فلا تزالُ فيه حتى أفرغَ من أمري" فما تقولون في هذه الروايات وهل تصلحُ للإثبات؟.

 

الجواب:

الروايات المُشار إليها في السؤال لم يرد شيءٌ منها في طرقِنا بل وردتْ جميعًا من طُرق العامَّة، وهي روايات آحاد، وهي في ذات الوقت بين مرسَلٍ لا سندَ له وبين ضعيفِ السند حتى بناءً على مباني العامَّة في الجرح والتعديل، وعمدةُ هذه الروايات أربعُ روايات لا يتردَّد مَن يقف عليها -بطولها ودون اجتزاء- أنَّها من وضع الأمويين أو النواصب، كما سيتَّضح ذلك:

 

الرواية الأولى: أوردها البلاذري في أنساب الأشراف: حدّثنا خلف بن سالم، حدّثنا وهب بن جرير –بن حازم-، قال: قال أبي -وأحسبه رواه عن الحسن البصري- قال: لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه، واجتمع له خمسون ألفًا، فخرج بهم حتّى أتى المدائن، وسرَّح بين يديه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري في عشرين ألفًا، فنزل بمسكن، وأقبل معاوية من الشام في جيش.

 

ثمّ إنّ الحسن (عليه السلام) خلا بأخيه الحسين (عليه السلام) فقال له: يا هذا إنّي نظرتُ في أمري فوجدتني لا أصل إلى الأمر حتّى يُقتل من أهل العراق والشام مَن لا أُحبّ أنْ أحتمل دمه، وقد رأيتُ أن أُسلّم الأمر إلى معاوية فأشاركُه في إحسانه ويكون عليه إساءته.

 

فقال الحسين (عليه السلام): أُنشِدُكَ الله أَنْ تَكُونَ أَوَّلَ مَنْ عابَ أَباكَ وَطَعَنَ عَلَيْهِ، وَرَغِبَ عَنْ أَمْرِهِ. فقال: إنّي لأرى ما تقول، ووالله لئن لم تتابعني لأشدَّنك في الحديد، فلا تزالُ فيه حتّى أفرغ من أمري.

 

قال: فَشَأْنُكَ! فقام الحسن (عليه السلام) خطيبًا فذكر رأيه في الصلح والسلم لما كره من سفك الدماء، وإقامة الحرب، فوثب عليه أهلُ الكوفة وانتهبوا ماله، وحرّقوا سرادقه، وشتموه وعجّزوه، ثمّ انصرفوا عنه ولحقوا بالكوفة .."(1).

 

والذي يرد على هذه الرواية هو أنَّها أشتملت على دعوى أنَّ منشأ صلح الإمام الحسن (ع) لمعاوية هو تأثُّمه من سفك الدم في الحرب على أهل الشام واعتبار ذلك ذنبًا ليس مستعدًّا لتحمُّله كما يظهر ذلك من قوله: "فوجدتني لا أصل إلى الأمر حتّى يُقتل من أهل العراق والشام من لا أُحبّ أنْ أحتمل دمه"، وكذلك يظهرُ ذلك من التعبير بكراهة سفك الدماء فإنَّ سفك الدم بحقّ لا يكون مكروهًا، فالواضح بمقتضى مدلول هذه الرواية هو أنَّ المنشأ الذي دفع الإمام الحسن (ع) لمصالحة معاوية هو اعتباره الوصول إلى النصر على معاوية بواسطة الحرب حرامًا لا يُريد أنْ يتحمَّل وزره، ويُؤكِّد ذلك ما تضمَّنته الرواية من الإشارة الواضحة إلى أنَّ جيش الحسن (ع) كان في تمام جهوزيته للحرب!! وأنَّه لايعاني من أيَّةِ مشكلة أو وهن!! وأنَّ الإمام (ع) لم يجد صعوبةً في تعبئة خمسين ألفًا وذلك لأنَّ أهل الكوفة يُطيعونه ويحبُّونه أشدَّ من حبِّهم لأبيه (ع) وهم إنَّما وثبوا عليه بعد ذلك لأنَّه قد خالف ما يَهْوَونه ويحرصون عليه من محاربة معاوية !!.

 

إنَّ هذه المضامين كلَّها تُؤكد أنَّ الذي دفع الإمام الحسن (ع) لمصالحة معاوية هو كراهته لسفك الدم واعتبار ذلك ذنبًا لا تُطيق ذمتُه لتحمله.

 

والذي يرد على هذه الرواية:

أولًا: منافاتها لحقائق التأريخ الذي أكَّدت على أنَّ منشأ صلح الإمام الحسن (ع) لمعاوية هو الوهنُ الذي كان عليه جيشه وعدم استعداد أكثره للحرب بل ومجاهرتهم بطلب العافية دون تحفُّظٍ ولا مواربة(2)، مضافًا إلى الخيانات التي ظهرت من الأعيان والقبائل وقيادات الجيش(3) وما نما إلى علم الإمام (ع) من مراسلتهم لمعاوية وإبدائهم للاستعداد إلى تسليم الإمام مكتوفًا لمعاوية بمجرَّد إلتحام الجيشين(4)، فمضامينُ هذه الرواية تتنافى مع كلِّ هذه الحقائق، وهي كذلك منافيةٌ للنصوص والرويات التي اشتملت على مراسلاتٍ كانت بين الإمام (ع) وبين معاوية والتي يتبيَّن منها عزمُ الإمام الشديد على مقارعة معاوية(5)، وكذلك هي منافية للنصوص التي تصدَّى فيها الإمام (ع) لبيان منشأ الصلح وأنَّه لو وجد أنصارًا يصولُ بهم لحارب معاوية ليله ونهاره حتى يحكمَ اللهُ بينه وبينه(6).

 

وثانيا: إنَّ الواضح من مساق الرواية هو إرادة التنقُّص من أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (ع) وأنَّه يتحمَّل وزرَ الدم الذي سُفك في صفِّين وأنَّه كان عليه أنْ لا يخوض تلك الحرب، وهذا ما فهمه الإمام الحسين (ع) بحسب الرواية من السبب الذي برَّر به الإمامُ الحسن بحسب الرواية عزمه على الصلح حيث قال له: "أُنشِدُكَ الله أَنْ تَكُونَ أَوَّلَ مَنْ عابَ أَباكَ وَطَعَنَ عَلَيْهِ، وَرَغِبَ عَنْ أَمْرِهِ"، فتبريرُ إبرام الصلح مع معاوية بأنَّ عدم إبرامه يسلتزم تحمُّل تبعات ما يُراق من الدماء وأنَّ ذلك ذنبٌ يتورَّع عن اقترافه، التبرير بذلك فيه طعنٌ لأمير المؤمنين (ع) واتِّهامٌ له بأنَّه قد تحمَّل جزءً من الذنب حين خاض حربًا على معاوية في صفِّين، فالدمُ الذي يتورَّع هو عن تحمُّله لم يتحاشاه أميرُ المؤمنين (ع) وأقدم على حربٍ أُريقت فيها دماءُ أهل الشام وأهل العراق، فهو بذلك يعيبُ على أمير المؤمنين (ع) ويطعنُ عليه بعدم التورُّع!!

 

فهل يقبلُ منصفٌ يخشى الله صدور ذلك عن الإمام الحسن (ع) في حقِّ أبيه سيِّد الأوصياء وإمام المتقين، فلو قال الإمام (ع)  إنَّ الظرف قد تغيَّر وأنَّ سفك الدم في هذا الظرف بلا طائل خلافًا للظرف الذي كان أيام أمير المؤمنين (ع) لأمكن قبول ذلك لكنَّه لم يقل ذلك بحسب الرواية بل قال إنَّ الوصول إلى النصر لن يكون إلا بإراقة دماء أهل الشام وأهل العراق وذلك ذاتُه هو ما وقع أيام أمير المؤمنين (ع)، فالإمامُ الحسن (ع) بحسب هذه الرواية لا يرى استحالة تحقُّق النصر بالحرب على معاوية بل يرى إمكانية تحقُّقه ولكنَّ المانع من الخوض في الحرب هو التورُّع عن سفك دماء أهل العراق والشام، ولذلك كان هذا المبرِّر طعنًا وتنقُّصًا من أمير المؤمنين (ع) الذي توسَّل بالحرب للوصول للنصر.

 

قد يُقال: إنَّ الإمام الحسن (ع) لم يقصد من المبرِّر الذي عرضه الطعنَ على أمير المؤمنين (ع) ولذلك أجاب الحسين (ع) حين عارضه بقوله: "إنِّي لا أرى ما تقول" أي أنِّي لم أقصد من قولي الطعنَ على أمير المؤمنين (ع).

 

لو قيل ذلك فجوابُه إنَّ نصَّ الجواب بحسب نسخ كتاب البلاذري المتعارفة والمختلفة هي أنَّ الإمام الحسن (ع) أجاب الحسين (ع) بقوله: "إنِّي لأرى ما تقول" وبناءً عليها يكون الإمامُ الحسن (ع) قد أكَّد ما فهمه الإمامُ الحسين (ع) من إرادة الحسن (ع) الطعنَ على أبيه أمير المؤمنين (ع) وذلك ما يُؤكِّد الجزم بوضعها واختلاقها، ولو لم نُحرز أنَّ هذه النسخ هي الصحيحة فإنَّ من غير المحرَز أنَّ النسخة الصحيحة هي المشتملة على القول: "إنِّي لا أرى ما تقول"، فلا يصحُّ التمسُّك بها لنفي إرادة الحسن -بحسب الرواية- للطعن على أمير المؤمنين (ع) ولو قبلنا جدلًا إحراز أنَّ الصحيح هو أنَّه نفى ولم يُثبت فإنَّ ذلك لا يدفعُ عن المبرِّر الذي قدَّمه صفةَ الطعن قصد ذلك أو لم يقصد، على أنَّ من التعسُّف المستهجن لدى العقلاء أنْ يأتي العاقل بكلامٍ صريحٍ في الطعن ثم يقول إنَّني لم أقصد أو أنَّه ليس في كلامي ما يستوجبُ الطعن فإنَّ ذلك مستهجنٌ لدى العقلاء وهو ما يتنزَّه عنه مقام الإمام الحسن (ع) العارف بمعاريض الكلام.

 

ثم إنَّه كيف يخطر في نفس الإمام الحسين (ع) أنَّ الإمام الحسن (ع) أراد الطعن على أبيه لولا أنَّ الكلام كان صريحًا في ذلك، وكيف لم يستنفر الإمامُ الحسن (ع) ويؤكِّد بالقول بعد القول أنَّه يستحيل أنْ يطعن على أبيه إمام المتقين فإنَّ ذلك هو مقتضى ردِّ هذه التهمة التى لا ترقى إليها تهمة، فما هذا البرود أمام هذه التهمة الموبقة من أخيه ثم لم يكتف بعدم التصدِّي لردِّ التهمة بما يناسب فظاعتها بل تصدَّى لتهديد أخيه بأنَّه سوف يشدُّه في الحديد إنْ لم يتابعه في رأيه!!

 

كلُّ ذلك يؤكِّد أنَّ الرواية برمَّتها من وضع واختلاق الناصبة الذين أرادوا الطعن على أمير المؤمنين (ع) على لسان ولده الإمام الحسن(ع) تعزيزًا لطعنهم وتنقُّصِهم حيث إنَّ صدوره من ولده وخليفته أوقعُ وأبلغُ بزعمِهم في الحجَّة على أتباع أمير المؤمنين (ع).

 

ثم إنَّ هنا قرينةً آخرى تُؤكد أنَّ الرواية من وضع الناصبة أتباع الأمويين وهي اشتمالها على دعوى أنَّ الإمام الحسن (ع) مدح معاوية في سياق استعراضه لمبرِّر الصلح فقال: "وقد رأيتُ أن أُسلّم الأمر إلى معاوية فأُشاركه في إحسانه ويكون عليه إساءته"، فمعاويةُ بناءً على هذا جديرٌ بأنْ يصدر منه الإحسان وسيكونُ الإمام الحسن (ع) شريكًا له في إحسانه لأنَّه سيكون سببًا في تسلُّمه للحكم وأمَّا الإساءات التي سوف تصدرُ عن معاوية فسوف يتحمَّل وزرها وحده، ومقتضى هذا التبرير هو أنَّ الإمام الحسن (ع) يرى أنَّ الإحسان الذي سيصدر عن معاوية في إدارته للحكم سيفوق إساءته بمراتب وإلا فلا يسوغ له تسليمه للحكم، فحكومة معاوية بنظر الإمام –بناءً على هذه الرواية– ستكونُ حكومةً صالحة لأنَّ الإحسان فيها لأمة الإسلام سيكون متفوِّقًا على الإساءة وهذا هو تمامًا ما يراه أتباعُ الأمويين في حكومة معاوية، فهم لا يزعمون أنَّ حكومته عدلٌ وإحسان محض، وبهذا يكون الأمويون قد حصلوا على تزكيةٍ ثمينة لإمامهم معاوية من سبط الرسول (ص) وخليفة عدوِّهم، بل إنَّ سبط رسول الله (ص) لم يكتفِ بمدح معاوية وحكومته بالإحسان الغالب المصحِّح للشرعيَّة بل إنَّه أفاد أنَّ معاوية سوف يكون مأجورًا على إحسانه وسوف يكون هذا الأجر والثواب الإلهي بمستوىً يطمحُ الإمام الحسن (ع) أن يكون شريكا فيه!!

 

إنَّ هذه المضامين منافية لما هو المقطوع من رؤية الإمام الحسن (ع) لشخص معاوية والذي كان يصفه بالطاغية والباغي ومن أئمة الضلال وأنَّه ليس له في السماء عاذر ويصفُ حكومته بالفتنة(7) وأنَّه لو وجد أنصارًا لقاتله ليله ونهاره حتى يحكم الله بينه وبينه، وذلك ما يؤكِّد بما لا يدع مجالًا للشك في أنَّ هذه الرواية كانت من نسج الأمويين فلا يصحُّ الاحتجاجُ بها على شيء.

 

هذا بعضُ ما يردُ على متن الرواية، وأمَّا سندُ الرواية فمضافًا إلى أنَّه لم تثبت لدينا -أعني الإمامية- وثاقة أحدٍ من رواتها فإنَّ الرواية ساقطة عن الاعتبار حتى بناءً على مباني العامة فإنَّ وهب بن جرير لم يجزم بهويَّة مَن روى لأبيه هذا الخبر وهل هو الحسن البصري أو غيره، فلعلَّ المروي عنه رجلٌ آخر غير الحسن البصري وحيثُ إنَّه مجهول لذلك تكون الرواية ساقطة عن الاعتبار، ولو كان المرويُّ عنه هو الحسن البصري فالرواية كذلك ساقطةٌ عن الاعتبار لأنَّ الحسن البصري لم ينقل لنا عمَّن أخذ هذا الخبر إذ من المقطوع به أنَّه لم يكن قد تلقَّاه وجدانًا خصوصًا المحاورة التي ادَّعى وقوعها بين الحسن والحسين (ع) فإنَّها قد وقعت في خلوة كما صرَّح الخبر، فثمة إذن مجهولٌ نقل الخبر للحسن البصري وبذلك تكون الرواية مرسلة.

 

هذا مضافًا إلى أنَّ الحسن البصري غيرُ معتمدٍ عندنا، والرواية موافقةٌ لهواه فهو لم يُشارك عليَّا (ع) في شيءٍ من حروبه بل قيل إنَّه كان من المخذِّلين عن عليٍّ (ع) ويُحرِّض الناس على عدم المشاركة معه في حروبه على القاسطين والناكثين، بل ورد إنَّه قد تجاسر في محضر عليٍّ (ع) وقال له إنَّك أسرفتَ في سفك الدماء، وقال إنَّه شديد الحزن والأسى على من قُتل في حرب البصرة، لذلك دعا عليه عليٌّ (ع) بأنَّ يظلَّ كذلك حزينًا إلى آخر عمره فظلَّ كذلك إلى آخر عمره لا يُرى إلا كئيبًا محزونًا وكأنَّه قد أُصيب بنائبة في ساعته، وورد كذلك أنَّ الإمام عليًّا (ع) قد شبَّهه من على منبر البصرة بالسامري الذي يقول لا مساس وهو يقول لا قتال(8)، فلو صحَّت هذه الآثار فإنَّ الرواية تكون موافقةً لهوى الحسن البصري فتكون من وضعه أو يكون قد رواها عن ناصبيٍّ لمجرَّد أنَّها موافقةٌ لهواه.

 

الرواية الثانية: أوردها ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق قال: أنبأنا عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي، أنبأنا حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار قال: "إنّ معاوية كان يعلمُ أنّ الحسن (عليه السلام) كان أكره الناس للفتنة، فلمَّا تُوفّيَ عليٌّ بعث إلى الحسن (عليه السلام) فأصلح الذي بينه وبينه سرًّا، وأعطاه معاوية عهدًا إنْ حدَث به حدث والحسن حيٌّ ليسمّينَّه وليجعلنّ هذا الأمر إليه.

 

فلمّا توثّق منه الحسن، قال ابنُ جعفر: والله إنّي لجالس عند الحسن إذ أخذتُ لأقوم فجذبَ ثوبي، وقال: يا هنّاه اجلس، فجلستُ فقال: إنّي رأيتُ رأيًا وإنّي أحبُّ أنْ تتابعني عليه. قال: قلتُ: وما هو؟

 

قال: قد رأيتُ أنْ أعمد إلى المدينة فأنزلها وأُخلّي بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسُفكت فيها الدماء، وقُطعت فيها الأرحام، وقُطعت السبل، وعُطِّلت الفروج يعني الثغور. فقال -عبد الله -ابن جعفر: جزاك اللهُ عن أُمّة محمّدٍ (صلى الله عليه وآله) خيرًا، فأنا معك على هذا الحديث. فقال الحسن (عليه السلام): ادعُ لي الحسين، فبعث إلى حسين (عليه السلام) فأتاه، فقال: أي أخي إنّي قد رأيتُ رأيًا وإنّي أُحبُّ أنْ تتابعني عليه. قال: ما هُوَ؟ قال: فقصَّ عليه الذي قال لابن جعفر.

 

قال الحسين (عليه السلام): أُعيذُكَ بِاللهِ أَنْ تُكَذِّبَ عَلِيًّا في قَبْرِهِ، وَتُصَدِّقَ مُعاوِيَةَ.

فقال الحسن (عليه السلام): والله ما أردتُ أمرًا قطّ إلاّ خالفتني إلى غيره، والله لقد هممتُ أنْ أقذفك في بيتٍ فأطينُّه عليك حتّى أقضي أمري. قال: فلمَّا رأى الحسين (عليه السلام) غضبَه قال: أنْتَ أَكْبَرُ وُلْدِ عَلِيًّ، وَأَنْتَ خَليفَتُهُ، وَأَمْرُنا لأِمْرِكَ تَبَعٌ فَافْعَلْ ما بَدا لَكَ.

 

فقام الحسن فقال: يا أيُّها الناس إنِّي كنتُ أكره الناس لأول هذا الحديث وأنا أصلحتُ آخره لذي حقٍّ أديتُ إليه حقَّه أحق به مني أو حق جدتُ به لصلاح أمة محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم، وإنَّ الله قد ولاك يا معاوية هذا الحديث لخيرٍ يعلمُه عندك أو لشرٍّ يعلمه فيك وإنْ أدرى لعلَّه فتنةٌ لكم ومتاعٌ إلى حين ثم نزل"(9).

 

وهذه الرواية كسابقتها فاقدة للاعتبار حتى بناءً على مباني العامة، فعمرو بن دينار راوي الخبر وُلد بعد صلح الحسن (ع) بخمس سنوات، سنة ستَّ وأربعين للهجرة(10)، فهو إذن يُخبر عن غيره ممَّن أدرك الصلح، وحيثُ لم يذكر لنا عمَّن أخذ هذا الخبر فهو خبرٌ مرسَل ساقطٌ عن الاعتبار.

 

وأما من حيث المتن فهي أكثر شناعةً من الرواية التي سبقتها فهي مضافًا إلى أنَّها صريحةٌ في الطعن على أمير المؤمنين (ع) وصريحةٌ كذلك في أنَّ الدافع للصلح ليس هو خذلان الجيش وتقاعسه عن امتثال أوامر الإمام بالتعبئة، وليس هو الخيانات المتتالية التي وقعت من الأعيان والقيادات العسكرية، كلُّ ذلك لم يكن –بحسب هذه الرواية- سببًا للصلح بل إنَّ السبب يتمحَّض في كراهة الحسن (ع) من أول الأمر للفتنة وسفك الدماء، وهذا ما يتنافى وحقائق التأريخ، فمضافًا إلى ذلك فإنَّ الواضح بحسب الرواية أنَّ كراهة الإمام الحسن (ع) للحرب لم تكن طارئة بل كانت منذُ عهد أبيه أمير المؤمنين (ع) ومقتضى ذلك هو أنَّ الإمام الحسن (ع) كان يرى أباه مخطئًا في تبنِّيه لمشروع الحرب على معاوية، فكانت إذن مشاركته في الحرب طوال أيام صفين التي امتدَّت لأكثر من عام وكان فيها من القادة العسكريين كانت مشاركته معصيةً بنظره ورغم ذلك أقدم بل واستمرَّ عليها ليس لشيءٍ سوى الممالأة لأبيه، وقد قال رسول الله (ص): "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(11).

 

ثم إنَّ من المعلوم أنَّ الحسن (ع) كان من المحرِّضين على الحرب وهو الذي بعثه الإمامُ علي (ع) -بعد حرب الجمل-بصحبة عمار بن ياسر لتعبئة الكوفة للحرب على معاوية في صفين، فهل معنى ذلك أنَّه كان يُغريهم بالمعصية ويُحدِّثُ الناس بما لا يؤمن به ويصفُ حربَهم على معاوية بالجهاد وهو يراه معصية؟! فهذه الرواية تتهم الإمامَ الحسن سبط الرسول (ص) إمَّا بالكذب أو الخداع وإغراء الناس بالمعصية مع مقارفته لها، وذلك بالمشاركة!!

 

ثم ما هذه الاستهانة -التي تُصوِّرها الرواية- من الإمام الحسن (ع) لأخيه الحسين (ع) يتوعَّدُه بأنْ يقذفه في بيتٍ ويُطيِّنه عليه كما يُفعل ذلك بالمجنون الذي تُخشى أذيتُه وكما يفعلُ الطغاةُ من فرض الإقامة الجبرية على معارضيهم فهو يتوعَّده بذلك بعد أنْ يتَّهمه بتعمُّد المناكفة له على نحو الدوام وأنَّه ما أراد أمرًا قط إلا خالفه، أهذه هي طبيعة العلاقة بين سبطي الرسول (ص) وسيدي شباب أهل الجنَّة؟!

 

فالروايةُ قد جمعت الطعنَ والإساءةَ لكلِّ من أمير المؤمنين والحسن والحسين (ع) وكلُّ ذلك على لسان الإمام الحسن (ع)!!

 

ثم إنَّه يظهرُ من صدر الرواية أنَّ ثمة مراسلات سرِّية وقعت بُعيد استشهاد أمير المؤمين (ع) بين معاوية وبين الإمام الحسن (ع) وقد تمخَّض عنها بعد التصافي بينهما إبرام الصلح سرًّا على أنْ يُسلِّم الإمامُ الحسن (ع) الحكمَ لمعاوية ويكون هو الوليَّ لعهده إنْ حدث به حدث، وبعد أنْ تمَّ الفراغ من إبرام الصلح سرًّا شرع الإمامُ الحسن (ع) في تهيئة الأجواء للإعلان عنه.

 

ومقتضى ذلك أنَّ كلَّ الإجراءات العلنيَّة التي اتَّخذها الإمامُ الحسن (ع) من التحريض على الحرب والدعوة للنفير والتعبئة وتسيير الجيوش إلى مواقع المواجهة وتعيين القيادات العسكريَّة كلُّ هذه الإجراءت وشبهها لم تكن جادَّة بل كانت خداعًا للناس لغرض تهيئة الأجواء للإعلان عن الصلح الذي قد تمَّ الإبرام له في مرحلةٍ متقدِّمة، وبهذا تُصنِّف الرواية الإمامَ الحسن (ع) ضمن القادة السياسيين الذين يمتهنون الخداع والبرغماتية للوصول إلى مآربهم الشخصيَّة، كما أنَّ الرواية تُشير من طرفٍ خفي بتمكُّن معاوية من خداع الحسن (ع) حيث أعطاه عهدًا في السرِّ فوثق الحسنُ من تعهُّده رغم تحذير الحسين (ع) له بعد ذلك من تصديق معاوية لكنَّ الحسن (ع) أصرَّ على موقفه فكانت النتيجة هي أنَّ معاوية لم يفِ له بما كان قد تعهَّد به.

 

ثم إنَّ هنا أمرًا آخر في الرواية يُعزِّز ما نرمي إليه من إثبات أنَّها من وضع النواصب لغرض الطعن على أهل البيت (ع) وعلى أمير المؤمنين (ع) بالدرجة الأولى ولغرض التحسين لصورة معاوية وأنَّه قد يكون محقًّا في الصراع الدائر وقد يكون هو صاحبَ الحقِّ في إدارة شؤون الأمة، فلا جزم في أنَّه كان على باطل كما أنَّه قد يكون هو صاحب الحق في تولِّي إدارة شؤون الأمة، ذلك هو مفاد الخطبة التي أعلن فيها الإمام –بحسب زعم الرواية- تنازله لمعاوية عن الحكم قال: "يا أيُّها الناس إنِّي كنتُ أكره الناس لأول هذا الحديث وأنا أصلحتُ آخره لِذي حقٍّ أديتُ إليه حقَّه أحق به مني أو حق جدتُ به لصلاح أمة محمدٍ (ص)".

 

فبدأ خطبته بالطعن على أمير المؤمنين (ع) في طريقةِ إدارته للصراع واعتماده خيار الحرب –رغم أنَّ حربه على القاسطين البغاة كانت بعهدٍ من الرسول (ص) كما نصَّت على ذلك الروايات المتواترة(12) وكما أجمعت على ذلك الأمة عدا الأمويين- ثم أخذ الحسن بحسب الرواية يفتخرُ بأنَّه أصلح ذلك الخطأ باعتماده لخيار الصلح، ثم برَّر تسليمه الحكم لمعاوية بأنَّه قد يكون أحقَّ به منه فيكون قد سلَّم لذي الحقِّ حقَّه، وإنْ كان هو الأحق فهو قد جادَ به وسخى به رعايةً لصلاح الأمة، وبذلك يكون حكم معاوية للأمة مشروعًا على كلِّ تقدير، فمعاوية إمَّا أنْ يكون هو صاحبَ الحق أو يكون صاحبُ الحقِّ قد خوَّله لذلك. فهل يطمعُ الأمويون بوثيقةٍ على الشرعيَّة أغلى من هذه الوثيقة؟!!

 

الرواية الثالثة: أوردها ابنُ أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، قال: قال المدائني: "فلمَّا كان عامُ الصلح، أقام الحسن (عليه السلام) بالكوفة أيامًا، ثم تجهَّز للشخوص إلى المدينة، فدخل عليه المسيَّب بن نجبة الفزاري وظبيان بن عمارة التيمي ليودِّعاه، فقال الحسن: الحمد لله الغالب على أمره، لو أجمع الخلقُ جميعًا على ألا يكون ما هو كائن ما استطاعوا. فقال أخوه الحسين (عليه السلام): لقد كنتُ كارها لِمَا كان، طيبَ النفسِ على سبيلِ أبي، حتى عزم عليَّ أخي، فأطعتُه، وكأنَّما يُجَذُّ أنفي بالمواسي .."(13).

 

وهذه الرواية ساقطة أيضًا عن الاعتبار حتى على مباني العامَّة لأنَّها مرسلة لا سند لها، فالمدائني وهو أبو الحسن علي بن محمد المدائني تُوفي في القرن الثالث الهجري في حدود خمس وعشرين ومائتين للهجرة، فبينه وبين عام الصلح فاصلة زمنية قد تصلُ إلى مأتي سنة ولذلك يتعيَّن عليه ذكر الطريق إلى هذه الرواية لكنَّه لم يفعل، فالرواية لذلك ساقطةٌ عن الاعتبار خصوصًا وأنَّها غير محتفَّة بقرائن ونصوصٍ تعضدُها بل إنَّ القرائن والنصوص تقتضي الجزم أو لا أقل من الارتياب في صدقها، ولهذا لا يصحُّ الاحتجاج بها.

 

وأمَّا من حيث المتن فأولُ ما يرد عليه أنَّه يتضمَّن طعنًا صريحًا من الحسين (ع) على أخيه الإمام الحسن بأنَّه قد انحرف عن سبيل أبيه ثم ينزِّه الحسين (ع) نفسه ويفتخرُ في محضر أخيه إمعانًا في التعريض به فيقول: بأنَّه طيِّب النفس بسبيل أبيه، ثم يُوجِّه نقدًا لاذعًا لأخيه في محضر بعض شيعته فيقول إنَّه كان كارها للخيار الذي اتَّخذه أخوه وكأنَّ أنفه يُجذُ بالمواسي حين قبِل بهذا الخيار بعد أنْ عزم عليه أخوه بذلك وكأنَّ أخاه كان راغبًا محبًا للصلح ولم يكن ملجئًا لمقتضيات الظروف!!

 

إنَّ مثل هذا اللحن من الخطاب في محضر الحسن (ع) وعلى مسمعٍ من بعض شيعته لا يصدرُ من الحسين (ع) قطعًا، بل لو صدر مثل هذا الخطاب في محضر الحسن (ع) من رجلٍ أجنبي لرميناه بالوقاحة وسوء الأدب، فكيف يُمكن قبول ذلك على مثل الإمام الحسين (ع) سبط الرسول (ص) والعارف بمقام أخيه والمعروف لدى المؤرِّخين بعظيم إجلاله لأخيه الحسن (ع) هذا بقطع النظر عن مضمون الطعن والذي هو موبقة لا ترقى إليها موبقة فكيف يتهم أخاه بالانحراف عن سبيل أبيه أو يعرِّض له بذلك؟!

 

على أنَّه لم يكن ثمة موجب لهذا الكلام فالصلحُ قد وقع والرجلان اللذان حضرا مجلس الإمام الحسن (ع) جاءا للسلام عليه وتوديعه وتصدَّى الإمام الحسن (ع) ابتداء لتسلية خواطرهما، فأيُّ مناسبةٍ لمضامين الكلام المنسوب للإمام الحسين (ع)؟! إلا أنْ يكون قد أراد توهين أخيه وتصغيره وإدخال الأذى على قلبه!! أو يكون قد أراد الظهور بمظهر الشجاع الحريص على الالتزام بمنهاج أبيه والتعريض بأنَّ أخاه لم يكن كذلك!!

 

إنَّ الوقوف على طبيعة العلاقة بين الإمامين (ع) وسمو الأخلاق الذي كان عليه يوجب القطع بكون هذه الرواية من موضوعات النواصب شأنُها شأن الكثير من الروايات التي اختلقها النواصب لغرض التوهين من مقام أهل البيت (ع) فهذه الرواية مُختلقة جزمًا حتى مع قطع النظر عن عصمة الإمامين (ع) المانعة من إمكانية أن يصدر من الإمام الحسين (ع) ما يوجب إدخال الأذى والتوهين على مؤمنٍ فضلًا عن سبط رسول الله (ص) كما أنَّ العصمة مانعة من إمكانية أن يشط الإمام الحسن (ع) عن منهاج أبيه والتي هي من أعظم الموبقات فكيف يتَّهمه الإمامُ الحسين (ع) بذلك وهو يعتقد بإمامته وعصمته؟!

 

وثمة رواية أخرى أوردها البلاذري في أنساب الأشراف قريبة المضمون في بعض فقراتها من رواية المدائني قال: "وكان الحسينُ بن علي منكرًا لصلح الحسن معاوية فلمَّا وقع ذلك الصلح دخل جندب بن عبد الله الأزدي والمسيب بن نجبة الفزاري وسليمان بن صرد الخزاعي وسعيد بن عبد الله الحنفي على الحسين وهو قائم في قصر الكوفة يأمر غلمته بحمل المتاع ويستحثُّهم، فسلَّموا عليه، فلمّا رأى ما بهم من الكآبة وسوء الهيئة، تكلَّم فقال: إنَّ أمر الله كان قدرًا مقدورًا، إنَّ أمر الله كان مفعولا. وذكر كراهيّته لذلك الصلح، وقال: لكنتُ طيّب النفس بالموت دونه ولكنَّ أخي عزم عليَّ وناشدني فأطعتُه وكأنَّما يحزّ أنفي بالمواسي ويشرّح قلبي بالمُدى، وقد قال الله عز وجل: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾(14) وقال: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(15). فقال له جندب: والله ما بنا إلَّا أن تُضاموا وتنتقصوا فأمّا نحن فإنا نعلم أن القوم سيطلبون موّدتنا بكل ما قدروا عليه، ولكن حاش لله أن نؤازر الظالمين، ونظاهر المجرمين ونحن لكم شيعة ولهم عدوّ، وقال سليمان بن صرد الخزاعي: إنَّ هذا الكلام الذي كلَّمك به جندب هو الذي أردنا أن نكلَّمك به كلَّنا. فقال: رحمكم الله صدقتم وبررتم. وعرض له سليمان بن صرد، وسعيد بن عبد الله الحنفي بالرجوع عن الصلح فقال: هذا ما لا يكون ولا يصلح"(16).

 

وهذه الرواية من حيثُ السند كسابقاتها ضعيفةٌ لكونها مرسلة، والغريب من مثير الشبهة أنَّه تشبَّث بها لمجرَّد أنَّها منقولة في كتاب أنساب الأشراف للبلاذري بدعوى أنَّه كتابٌ معتبر وكأنَّ البناء على كونه من الكتب التأريخيَّة المعتبرة يقتضي الأخذ بجميع ما ورد فيه من أخبار، وهذا ما لا يقول به بل لم يتوهَّمه من أحد، فمعنى أنَّ هذا الكتاب التأريخي أو ذاك معتبر هو أنَّه من المصادر التأريخيَّة التي يصحُّ للباحث مراجعتها في مقام التثبُّت من قضيَّةٍ تأريخية وذلك في مقابل الكتب غير المعتبرة التي لا يصحُّ أنْ تدخل في دائرة البحث كالكتب المنحولة أو التي يكثر فيها الخلط بحيث تكون هي السمة الغالبة عليه، فهذا هو الفرق بين الكتب التأريخية المعتبرة والكتب غير المعتبرة، فكون الكتاب معتبرًا لا يعني أنَّ كلَّ خبرٍ يرد فيه يكون معتبرًا وصالحًا للإثبات بل إنَّ اعتبار أيِّ خبرٍ تأريخي وصلاحيته للإثبات يخضعُ لعدد من المعايير فإذا لم يتوفر عليها يكون ساقطًا عن الاعتبار بقطع النظر عن الكتاب الذي أورده، نعم يختلف العلماء والباحثون في بعض المعايير وفي تطبيقاتها ولكنَّهم متَّفقون على أنَّ مجرَّد وجود الخبر في أحد كتب التأريخ أيًّا كان هذا الكتاب لا يُصحِّح وصفه بالمُعتبر ولا يصح الاستناد إليه دون التثبُّت من واجديته للمعايير المعتمدة.

 

وعليه فالتمسك بهذا الخبر لمجرَّد أنَّ البلاذري قد أورده في كتابه ينبغي أنْ يُعدَّ من الغرائب خصوصًا وأنَّ الخبر مرسل ولا سند له كما أنَّه لا قرائن تعضده فهو ساقط عن الاعتبار على جميع المباني فحتى لو لم تقم القرائن على كذبه فهو في نفسه ساقطٌ عن الاعتبار.

 

وأما من حيث المتن فالروايةُ غير قابلةٍ للتصديق أيضًا؛ إذ ما هو منشأ إعلان الإمام الحسين (ع) عن كراهيته للصلح؟ هل يبتغي من ذلك نقض الصلح فهو يستميل بإعلانه الكارهين للصلح ليجمعهم حول نفسه فينتصر بهم على نقض الصلح، هل هذه هي غايتُه من الإعلان عن كراهته وإنكاره للصلح بعد وقوعه كما تفترضه الرواية؟

 

إنَّ هذا الإحتمال غير واردٍ قطعًا، إذ لا ريب في التزام الإمام الحسين (ع) بإمامة الإمام الحسن (ع) ولزوم طاعته وعدم جواز نقض ما يُبرم، على أنَّ الروايات المستفيضة ومنها هذه الرواية تُؤكِّد على امتناعه القطعي عن نقض الصلح وردِّه كلَّ الدعوات المتكررة لنقض الصلح من قبل الكارهين له، بل إنَّه (ع) التزم بالصلح حتى بعد استشهاد الإمام الحسن (ع) وصيرورة الإمامة إليه.

 

إذن فالغاية من إعلانه -المزعوم– عن كراهته وإنكاره للصلح ليس له تفسير سوى النأي بنفسه عن هذا القرار والتعبير عن أنَّ هذا القرار خطأ يتحمَّل وزره وتبعاته الإمامُ الحسن (ع) وحده، وفي ذلك إعلانٌ للطعن على الإمام الحسن (ع) وإدخال الشين والأذى على قلبه بل في ذلك توهينٌ لإمامة أخيه والتي يعتقد أنَّها إمامة إلهيَّة.

 

فالإمامُ الحسن (ع) حين يسأله أويعترضُ عليه أحد كان يتصدَّى لتبرير قرار الصلح وأنَّ الظروف والخيانات المتتالية من الأعيان ورغبة أكثر الناس في العافية وتبطاؤهم بل ونكولهم عن الاستجابة للتعبئة قد ألجأته لاتخاذ هذا القرار الصعب ثم يأتي الحسين (ع) فيقول إنَّ هذه المبرِّرات ليست مقنعة ولا تصلحُ مبرِّرًا للصلح وأنَّ اتخاذ قرار الصلح كان من الخطأ في التقدير!! أليس ذلك من أجلى صور التوهين لإمامٍ مفترض الطاعة ولا زالت إمامته فعليَّة وقائمة، فلو صدر ذلك من بعض أعيان الشيعة بل من بعض عوامِّهم لكان من التوهين فكيف لو افتُرض صدوره من سبط الرسول (ص) وسيِّد شباب أهل الجنة والذي هو في موقع الخليفة لأخيه.

 

ثم إنَّ الإمام الحسن (ع) كان يُعبِّر عن شعوره بالأذى من تبكيت وتلويم بعض المتجاسرين من شيعته(17)، فهل كان الحسين (ع) يتقصَّد من إعلانه الإنكار والكراهة للصلح الإمعان في إدخال الأذى على قلب أخيه وهو يعلم أنَّ ذلك يُؤذيه؟! ألم يكن من المناسب لمقتضى اللياقة الأدبية السكوت عن ذلك –لو كان كارهًا كما تزعم الرواية- خصوصًا وأنَّ الصلح قد وقع –كما هو مفروض الرواية- ولم يكن المخاطبون قد سألوه عن رأيه كما هو الواضح من الرواية، وإذا كان يبتغي تسلية خواطرهم فإنَّ بإمكانه أن يقول إنَّه وأخاه كانا كارهين لمهادنة معاوية ولكنَّ الظروف قد ألجأتْ أخي لاتِّخاذ هذا القرار الصعب حرصًا على المصلحة العامَّة، فما الذي يدفعه لتأكيد وقاحة المعارضين والاصطفاف معهم؟ هل يبتغي بذلك التحريض على أخيه والتوهين لمقامه وإدخال الأذى على قلبِه وتأكيد شكوك المرتابين في صوابية موقفه لجهلهم بأبعاده، هل يصحُّ التصديق بصدور كلِّ هذه التجاوزات من الإمام الحسين (ع) في حقِّ أخيه؟!

 

كلُّ هذه المحاذير واللوازم الفاسدة التي تستلزمُها الرواية لا تدعُ مجالًا للشك في أنَّها مكذوبةٌ على أبي عبد الله الحسين (ع) والذي هو أسمى خُلقًا ونبلًا ومروءة وأرفعُ شأنًا من أنْ يصدر منه ما يُوجب دخول الوهن أو الأذى على وليٍّ من أولياء الله فضلًا عن إمام مفترض الطاعة من قبل الله تعالى هذا بقطع النظر عن عصمته المانعة من صدور هذا الذنب وهذا التجاوز في حقِّ أخيه والمانعة كذلك من صدور الخطأ من الإمام الحسن (ع).

 

هذه هي عمدة الروايات التي تشبَّث بها البعض لإثارة شبهة أنَّ الإمام الحسين (ع) كان كارهًا للصلح الذي أبرمه الإمامُ الحسن (ع)، وبقيت رواياتٌ أخرى قليلة ومتناثرة لا يبعد أنَّها متَّحدة مع بعض هذه الروايات، وإنْ لم تكن متَّحدة فالجواب عليها -مضافًا إلى ضعفها جميعًا- يتَّضح ممَّا بيَّناه في مقام الإثبات لاختلاق هذه الروايات وأنَّها مكذوبةٌ على الإمامين الحسن والحسين (ع).

 

على أنَّه يمكن إثبات كذب هذه الروايات من طريقٍ آخر وهو منافاتها لما ثبت عندنا نحن الإمامية من أنَّ كلَّ موقفٍ يتَّخذه الإمام من أئمة أهل البيت (ع) فهو عن وصيةٍ وعهدٍ معهودٍ إليه عن الله بواسطة رسوله (ص) وحيث كان الأمرُ كذلك فإنَّ دعوى إنكار الإمام الحسين (ع) وكراهته لصلح الإمام الحسن (ع) معناه الإنكار والكراهة لوصيةِ الله وعهدِ رسوله (ص) وهذا ما لا يجسرُ مؤمنٌ يخشى الله تعالى أنْ يُحدِّث نفسه باحتمال صدوره عن الإمام الحسين (ع).

 

وهنا نشير إلى بعض الروايات التي نصَّت مباشرةً على ذلك وإلا فالروايات التي يُمكن الإستدلال بها على أنَّ الأئمة (ع) لا يصدرون فيما يتَّخذونه في ظرف امامتهم من مواقف إلا عن عهدٍ معهود تفوقُ حد التواتر:

 

الرواية الأولى: أوردها الكليني في الكافي عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى والْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (ع) قَالَ: "إِنَّ الْوَصِيَّةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى مُحَمَّدٍ كِتَابًا لَمْ يُنْزَلْ عَلَى مُحَمَّدٍ (ص) كِتَابٌ مَخْتُومٌ إِلَّا الْوَصِيَّةُ، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ (ع) يَا مُحَمَّدُ هَذِه وَصِيَّتُكَ فِي أُمَّتِكَ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتِكَ .. قَالَ: وكَانَ عَلَيْهَا خَوَاتِيمُ قَالَ: فَفَتَحَ عَلِيٌّ (ع) الْخَاتَمَ الأَوَّلَ ومَضَى لِمَا فِيهَا، ثُمَّ فَتَحَ الْحَسَنُ (ع) الْخَاتَمَ الثَّانِيَ ومَضَى لِمَا أُمِرَ بِه فِيهَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ ومَضَى فَتَحَ الْحُسَيْنُ (ع) الْخَاتَمَ الثَّالِثَ فَوَجَدَ فِيهَا أَنْ قَاتِلْ .. فَفَعَلَ فَلَمَّا مَضَى دَفَعَهَا إلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (ع) قَبْلَ ذَلِكَ فَفَتَحَ الْخَاتَمَ الرَّابِعَ فَوَجَدَ فِيهَا أَنِ اصْمُتْ .. فَلَمَّا تُوُفِّيَ ومَضَى دَفَعَهَا إلى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) فَفَتَحَ الْخَاتَمَ الْخَامِسَ فَوَجَدَ فِيهَا أَنْ فَسِّرْ كِتَابَ الله تَعَالَى وصَدِّقْ أَبَاكَ ووَرِّثِ ابْنَكَ واصْطَنِعِ الأُمَّةَ وقُمْ بِحَقِّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ وقُلِ الْحَقَّ فِي الْخَوْفِ والأَمْنِ ولَا تَخْشَ إِلَّا الله فَفَعَلَ ثُمَّ دَفَعَهَا إلى الَّذِي يَلِيه .."(18).

 

فالسياسة العامة التي اتَّخذها كلُّ إمامٍ في ظرف إمامته كانت عن وصيةٍ مرسومةٍ وعهدٍ من السماء معهود كما هو صريح هذه الرواية.

 

الرواية الثانية: أوردها الكليني في الكافي عن أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ومُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكِنَانِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ نَجِيحٍ الْكِنْدِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّه الْعُمَرِيِّ عَنْ أَبِيه عَنْ جَدِّه عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (ع) قَالَ: إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّه (ص) كِتَابًا قَبْلَ وَفَاتِه فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذِه وَصِيَّتُكَ إلى النُّجَبَةِ مِنْ أَهْلِكَ قَالَ: ومَا النُّجَبَةُ يَا جَبْرَئِيلُ؟ فَقَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ووُلْدُه (ع) .. فَدَفَعَه النَّبِيُّ (ص) إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وأَمَرَه أَنْ يَفُكَّ خَاتَمًا مِنْه ويَعْمَلَ بِمَا فِيه، فَفَكَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) خَاتَمًا وعَمِلَ بِمَا فِيه ثُمَّ دَفَعَه إلى ابْنِه الْحَسَنِ (ع) فَفَكَّ خَاتَمًا وعَمِلَ بِمَا فِيه ثُمَّ دَفَعَه إلى الْحُسَيْنِ (ع) فَفَكَّ خَاتَمًا فَوَجَدَ فِيه أَنِ اخْرُجْ بِقَوْمٍ إلى الشَّهَادَةِ .. ثُمَّ دَفَعَه إلى ابْنِه مُوسَى (ع) وكَذَلِكَ يَدْفَعُه مُوسَى إلى الَّذِي بَعْدَه ثُمَّ كَذَلِكَ إلى قِيَامِ الْمَهْدِيِّ صَلَّى الله عَلَيْه"(19).

 

وأوردها الشيخ الصدوق من طريقٍ آخر في كمال الدين قال: حدثنا محمد بن الحسن رضي الله عنه قال: حدثنا الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن الحسن الكناني، عن جده، عن أبي عبد الله (عليه السلام)(20).

 

الرواية الثالثة: أوردها الكليني في الكافي عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنِ ابْنِ رِئَابٍ عَنْ ضُرَيْسٍ الْكُنَاسِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ قَالَ لَه حُمْرَانُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أرَأَيْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عَلِيٍّ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ (ع) وخُرُوجِهِمْ وقِيَامِهِمْ بِدِينِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ ومَا أُصِيبُوا مِنْ قَتْلِ الطَّوَاغِيتِ إِيَّاهُمْ والظَّفَرِ بِهِمْ حَتَّى قُتِلُوا وغُلِبُوا فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): يَا حُمْرَانُ إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى قَدْ كَانَ قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وقَضَاه وأَمْضَاه وحَتَمَه ثُمَّ أَجْرَاه فَبِتَقَدُّمِ عِلْمِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّه قَامَ عَلِيٌّ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ وبِعِلْمٍ صَمَتَ مَنْ صَمَتَ مِنَّا"(21).

 

فالقيام والصمت كلاهما قد تلقوه عن علمٍ مأثور عن النبيِّ الكريم (ص) وكان يلزمهم الجري على وِفقه.

 

الرواية الرابعة: أوردها الكليني في الكافي عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَصَمِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الْبَزَّازِ عَنْ حَرِيزٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا أَقَلَّ بَقَاءَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وأَقْرَبَ آجَالَكُمْ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْكُمْ فَقَالَ: إِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا صَحِيفَةً فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْه أَنْ يَعْمَلَ بِه فِي مُدَّتِه فَإِذَا انْقَضَى مَا فِيهَا مِمَّا أُمِرَ بِه عَرَفَ أَنَّ أَجَلَه قَدْ حَضَرَ فَأَتَاه النَّبِيُّ (ص) يَنْعَى إِلَيْه نَفْسَه وأَخْبَرَه بِمَا لَه عِنْدَ الله .."(22).

 

وقد أوردها الشيخ جعفر بن قولويه من طريقٍ آخر في كامل الزيارات قال: وحدَّثني محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن علي بن محمد بن سالم، عن محمد بن خالد، عن عبد الله بن حماد البصري، عن عبد الله بن عبد الرحمان الأصم، قال: حدثنا أبو عبيدة البزاز، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله(23).

 

الرواية الخامسة: أوردها الشيخ الصدوق في علل الشرائع قال: -حدثنا-: أبى رحمه الله قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبي القاسم الهاشمي، عن عبيد بن قيس الأنصاري قال: حدَّثنا الحسن بن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله بصحيفة من السماء لم ينزل الله عز وجل كتابًا قبله ولا بعده، فيه خواتيم من الذهب، فقال له: يا محمد هذه وصيتك إلى النجيب من أهلك، فقال له: يا جبرئيل من النجيب من أهلي؟ قال: عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، إذا توفيت أنْ يفك خاتمًا ويعمل بما فيه، فلمَّا قُبض رسولُ الله صلى الله عليه وآله فكَّ عليٌّ خاتمًا ثم عمل بما فيه وما تعدَّاه، ثم دفعها إلى الحسن بن علي (عليه السلام) ففك خاتمًا وعمل به ما تقدم، ثم دفعها إلى الحسين بن علي (عليه السلام) ففكَّ خاتما فوجد فيه: أخرج بقوم إلى الشهادة لهم معك، واشرِ نفسك لله فعمل بما فيه ما تعداه .. ويدفعها من بعده إلى من بعده إلى يوم قيام المهدي ويوم القيامة"(24).

 

وقد أوردها في كمال الدين من طريق آخر قال: حدثنا محمد بن الحسن رضي الله عنه قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، وسعد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر الحميري، جميعا قالوا: حدثنا محمد بن عيسى بن عبيد قال: حدثنا أبو القاسم الهاشمي قال: حدثني عبيد بن نفيس الأنصاري قال: أخبرنا الحسن بن سماعة، عن جعفر بن سماعة(25).

 

الرواية السادسة: أوردها الشيخ الطوسي في كتابه الغيبة الشيخ قال: -حدَّثنا- جماعة، عن التلعكبري، عن أحمد بن علي المعروف بابن الخضيب، عن بعض أصحابنا، عن حنظلة بن زكريا التميمي، عن أحمد بن يحيى الطوسي، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) بصحيفةٍ من عند الله عزَّ وجل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيها اثنا عشر خاتمًا من ذهب، فقال له: إنَّ الله تعالى يقرأ عليك السلام ويأمرك أنْ تدفع هذه الصحيفة إلى النجيب من أهلك بعدك، يفك منها أول خاتمٍ ويعمل بما فيها، فإذا مضى دفعها إلى وصيِّه بعده، وكذلك الأول يدفعها إلى الآخر واحدًا بعد واحد، ففعل النبيُّ صلى الله عليه وآله ما أُمر به، ففكَّ عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) أولها وعمل بما فيها، ثم دفعها إلى الحسن (عليه السلام) ففكَّ خاتمه وعمل بما فيها، ثم دفعها إلى الحسين (عليه السلام) ثم دفعها الحسينُ إلى عليِّ بن الحسين (عليه السلام)، ثم واحدًا بعد واحد حتى ينتهي إلى آخرهم عليهم السلام"(26).

 

الرواية السابعة: أوردها النعماني في كتاب الغيبة عن علي بن أحمد، عن عبيد الله بن موسى، عن محمد بن أحمد القلانسي، عن محمد بن الوليد، عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: دفع رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) إلى عليٍّ (عليه السلام) صحيفةً مختومة باثني عشرة خاتمًا، وقال له: فضَّ الأول واعمل به، وادفع إلى الحسن (عليه السلام) يفضُّ الثاني ويعمل به، ويدفع إلى الحسين (عليه السلام) يفضُّ الثالث ويعملُ بما فيه، ثم إلى واحدٍ واحد من ولد الحسين (عليه السلام)"(27).

 

الرواية الثامنة: أوردها النعماني في كتاب الغيبة عن عليِّ بن أحمد، عن عبيد الله بن موسى، عن علي بن إبراهيم، عن البرقي، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي جميلة، عن أبي عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنَّ الله جلَّ اسمه نزل من السماء إلى كلِّ إمام عهده وما يعمل به، وعليه خاتم فيفضُّه ويعملُ بما فيه"(28).

 

الرواية التاسعة: أوردها الكليني في الكافي عن الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَشْعَرِيُّ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُسْتَفَادِ أَبِي مُوسَى الضَّرِيرِ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (ع) عن أبي عبد الله (ع) قال: .. ولَكِنْ حِينَ نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّه (ص) الأَمْرُ نَزَلَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ عِنْدِ اللَّه كِتَابًا مُسَجَّلًا نَزَلَ بِه جَبْرَئِيلُ مَعَ أُمَنَاءِ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ جَبْرَئِيلُ يَا مُحَمَّدُ مُرْ بِإِخْرَاجِ مَنْ عِنْدَكَ إِلَّا وَصِيَّكَ لِيَقْبِضَهَا مِنَّا وتُشْهِدَنَا بِدَفْعِكَ إِيَّاهَا إِلَيْه ضَامِنًا لَهَا يَعْنِي عَلِيًّا (ع) فَأَمَرَ النَّبِيُّ (ص) بِإِخْرَاجِ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مَا خَلَا عَلِيًّا (ع) وفَاطِمَةُ فِيمَا بَيْنَ السِّتْرِ والْبَابِ فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: يَا مُحَمَّدُ رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ ويَقُولُ: هَذَا كِتَابُ مَا كُنْتُ عَهِدْتُ إِلَيْكَ وشَرَطْتُ عَلَيْكَ وشَهِدْتُ بِه عَلَيْكَ وأَشْهَدْتُ بِه عَلَيْكَ مَلَائِكَتِي وكَفَى بِي يَا مُحَمَّدُ شَهِيدًا قَالَ: فَارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُ النَّبِيِّ (ص) فَقَالَ: يَا جَبْرَئِيلُ رَبِّي هُوَ السَّلَامُ ومِنْه السَّلَامُ وإِلَيْه يَعُودُ السَّلَامُ صَدَقَ عَزَّ وجَلَّ وبَرَّ هَاتِ الْكِتَابَ فَدَفَعَه إِلَيْه وأَمَرَه بِدَفْعِه إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فَقَالَ لَه: اقْرَأْه فَقَرَأَه حَرْفًا حَرْفًا فَقَالَ: يَا عَلِيُّ هَذَا عَهْدُ رَبِّي تَبَارَكَ وتَعَالَى إِلَيَّ وشَرْطُه عَلَيَّ وأَمَانَتُه وقَدْ بَلَّغْتُ ونَصَحْتُ وأَدَّيْتُ فَقَالَ عَلِيٌّ (ع) وأَنَا أَشْهَدُ لَكَ بِأَبِي وأُمِّي أَنْتَ بِالْبَلَاغِ والنَّصِيحَةِ والتَّصْدِيقِ عَلَى مَا قُلْتَ - ويَشْهَدُ لَكَ بِه سَمْعِي وبَصَرِي ولَحْمِي ودَمِي فَقَالَ جَبْرَئِيلُ (ع) وأَنَا لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): يَا عَلِيُّ أَخَذْتَ وَصِيَّتِي وعَرَفْتَهَا وضَمِنْتَ لِلَّه ولِيَ الْوَفَاءَ بِمَا فِيهَا فَقَالَ عَلِيٌّ ع نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي عَلَيَّ ضَمَانُهَا وعَلَى اللَّه عَوْنِي وتَوْفِيقِي عَلَى أَدَائِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): يَا عَلِيُّ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشْهِدَ عَلَيْكَ بِمُوَافَاتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ (ع): نَعَمْ أَشْهِدْ فَقَالَ النَّبِيُّ (ص): إِنَّ جَبْرَئِيلَ ومِيكَائِيلَ فِيمَا بَيْنِي وبَيْنَكَ الآنَ وهُمَا حَاضِرَانِ مَعَهُمَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ لأُشْهِدَهُمْ عَلَيْكَ فَقَالَ: نَعَمْ لِيَشْهَدُوا وأَنَا بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي أُشْهِدُهُمْ فَأَشْهَدَهُمْ رَسُولُ اللَّه (ص) وكَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ عَلَيْه النَّبِيُّ بِأَمْرِ جَبْرَئِيلَ (ع) فِيمَا أَمَرَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ .. عَلَى الصَّبْرِ مِنْكَ وعَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وعَلَى ذَهَابِ حَقِّي وغَصْبِ خُمُسِكَ وانْتِهَاكِ حُرْمَتِكَ فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّه .. ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّه (ص) فَاطِمَةَ والْحَسَنَ والْحُسَيْنَ وأَعْلَمَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْلَمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِه فَخُتِمَتِ الْوَصِيَّةُ بِخَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ لَمْ تَمَسَّه النَّارُ ودُفِعَتْ إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) .."(29).

 

هذه الروايات شديدة الظهور في أنَّ ما يفعله الأئمة (ع) وما يتَّخذونه من مواقف في ظرف إمامتهم إنَّما يصدرون في ذلك عن وصيةٍ من الله تعالى وعهدٍ معهودٍ إليهم بواسطة الرسول (ص) وهي كما تُلاحظون مستفيضة ومتعاضدة وفيها ما هو معتبرٌ سندًا، وثمة روايات أخرى -فيها ما هو معتبرٌ سندا- لم نذكرها لأنَّها وإنْ كانت ظاهرة في هذا المعنى إلا أنَّها ليست في الظهور كهذه الروايات، هذا فيما يدلُّ على المعنى المذكور مباشرة، وإلا فالروايات التي يمكن بيسرٍ الاستدلال بها على أنَّ أئمة أهل البيت (ع) لا يصدرون فيما يتَّخذونه من مواقف إلا عن عهدٍ وعلم مأثور تفوق حدَّ التواتر بل تشقُّ على الإحصاء وعليه كيف يمكن توهُّم أنْ يكون الإمامُ اللاحق كارهًا لما اتَّخذه الإمامُ السابق من مواقف في ظرف إمامته وهو يعلم أنَّه إنَّما كان يجري في ذلك وفق ما رسمته إليه الوصية عن الله تعالى بواسطة رسوله (ص).

 

فليكن هذا طريق آخر لإثبات كذب الأخبار التي زعمت أنَّ الإمام الحسين (ع) كان كارها لصلح الإمام الحسن (ع) وثمة طرقٌ أخرى لإثبات ذلك لا أرى موجبًا لاستعراضها.

 

ومن ذلك يتَّضح أنَّ ردَّ هذه الأخبار المدَّعية لكراهة الإمام الحسين (ع) لصلح الإمام الحسن (ع) وإثبات أنَّها مكذوبة لا يتوقف -كما توهَّم مثير الشبهة- على إثبات عصمة الأئمة (ع) في الموضوعات فحتى لو قطعنا النظر عن ذلك فإنَّ من الميسور – كما اتَّضح- إثبات أنَّ هذه الأخبار موضوعة وغير قابلة للتصديق، على أنَّ ثبوت عصمة الأئمة (ع) في الموضوعات خصوصًا الخطير منها والمتصل بدور الإمامة وإدارة شؤون الأمة ثبوت عصمتهم في ذلك هو مِن أجلى مقتضيات أدلَّة العصمة النقلية والعقليَّة للنبيِّ (ص) وأهل بيته (ع)، وقد بيَّنَّا ذلك في مقالات مستقلة.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: تساؤلات حول النهضة الحسينية

الشيخ محمد صنقور

30 / محرم الحرام / 1440ه

10 / أكتوبر / 2018م

 

1- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص 51.

2- الخرائج والجرائح -للراوندي- ج2 / ص574-575، مقاتل الطالبيين  ص39، أعلام الدين -للديلمي- ص293. الكامل في التاريخ ج 3 ص 406، تاريخ مدينة دمشق ج 13 ص 268، أسد الغابة لابت الأثير ج 2 ص 14، تاريخ ابن خلدون ج2 ص 187 .

3- الخرائج والجرائح -للراوندي- ج2 / ص576، مقاتل الطالبيين ص42، الفتوح -لابن أعثم- ج4 / ص289، علل الشرائع -ج1- ص221، شرح نهج البلاغة -لابن أبي الحديد- ج16 / ص22. الإرشاد للمفيد ج 2 ص 13، مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب ج 3 ص 195

4- الاحتجاج -للطبرسي- ج2 / ص10، علل الشرائع -للصدوق- ج1 / ص221، الإرشاد -للشيخ المفيد- ج2 / ص 12، مناقب آل أبي طالب -لابن شهراشوب- ج3 / ص195. كشف الغمة ج2 / ص 138.

5- الإرشاد -للشيخ المفيد- ج2 / ص9، مقاتل الطالبيين -لأبي الفرج الأصفهاني- ص 22، المستجاد -للعلامة الحلي- ص146. مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 195

6- قال (ع): "والله ما سلمتُ الأمر إليه إلا أنِّي لم أجد أنصارا، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكني عرفتُ أهل الكوفة، وبلوتُهم، ولا يصلحُ لي منهم من كان فاسداً، إنَّهم لا وفاء لهم" الاحتجاج -للطبرسي- ج20 / ص12. الكامل في التأريخ  ج3 / ص406. تاريخ مدينة دمشق -لابن عساكر- ج13 / ص268.

7- علل الشرائع -للصدوق- ج1 ص 211، الأمالي -للشيخ الطوسي- ص 559، الخرائج والجرائح -للراوندي- ج2 / ص574، ج3 / ص 574- 576، شرح نهج البلاغة -لابن أبي الحديد- / ج16 ص45، مقاتل الطالبيين -لأبي الفرج الأصفهاني- ص35، الاحتجاج -للطبرسي- ج1 / ص415- 420، ج2 ص12.

8- الاحتجاج -للطبرسي- ج1 / ص250-251، شرح نهج البلاغة -لابن أبي الحديد- ج4 / ص 95.

9- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج13 / ص 267.

10- مشاهير علماء الأمصار -لابن حبان- ص137، تذكرة الحفاظ -للذهبي- ج1 / ص113.

11- من لا يحضره الفقيه ج4 / ص381، مسند أحمد- ج1 / ص131، المصنف -لابن أبي شيبة- ج7 / ص737.

12- الخصال -للشيخ الصدوق- ص145، عيون أخبار الرضا (ع) ج2 / ص66، المستدرك -للحاكم النيسابوري- ج3 / ص139، الاستيعاب -لابن عبد البر- ج3 / ص1117، المعجم الكبير -للطبراني- ج4 / ص172، السنة -لابن أبي عاصم- ص425، مسند ابن أبي يعلى ج1 / ص397، ج3 / ص195، أسد الغابة -لابن الأثير- ج4 / ص33، البداية والنهاية -لابن كثير- ج7 / ص138.

13- شرح نهج البلاغة -ابنُ أبي الحديد- ج 16 / ص16.

14- سورة النساء / 19.

15- سورة البقرة / 216.

16- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص149.

17- الفتوح -لابن أعثم- ج4 / ص295، مناقب آل أبي طالب -لابن شهراشوب- ج3 / ص197، الأخبار الطوال -للدينوري- ص220- 221.

18- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص 280.

19- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص 281.

20- كمال الدين -الشيخ الصدوق- ص669.

21- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص 262.

22- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص 283.

23- كامل الزيارات -الشيخ جعفر بن قولويه- ص 178.

24- علل الشرائع -الشيخ الصدوق- ج1 / ص 172.

25- كمال الدين -الشيخ الصدوق- ص232.

26- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص135.

27- الغيبة -النعماني-61.

28- الغيبة -النعماني- ص 62.

29- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص 283.