من سجايا الإمام الرضا (ع)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.
أبارك لكم مولد وليّ الله، وحُجَّته على عباده، وصيّ رسول الله (ص)، والوصلةِ بين السماء والأرض، سفير الله إلى عباده، والدالِّ عليه، والمُعرِّف بأحكامه ومنهجه، أبي الحسن الإمام علي بن موسى الرِّضَا المرتضى، الذي سمَّاه الله الرضا في سمائه، وسمَّاه رسول الله (ص) الرِّضَا في أرضه. بهذه المناسبة الجليلة عند الله، وعند رسوله(ص)، وعند أوليائه، نتحدَّث حول شيءٍ من مكارم أخلاق هذا الإمام، وحول شيءٍ من سجاياه ومحامد خصاله، إلَّا أنَّنا نودُّ أولاً أن نُشير إلى تاريخ ميلاده، وبعد ذلك نتحدَّث عن شيء من مناقبه.
تاريخ مولده (ع):
ولد الإمام الرضا -عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم- في المدينة المنورَّة سنة مائة وثمانية وأربعين للهجرة النبويَّة، أي في السنة التي استُشهد فيها الإمام الصادق (ع) (148هـ)، وكان ميلاده -كما هو المعروف- في اليوم الحادي عشر من ذي القعدة، وقد بشَّر بمولده الإمام الصادق (ع)، كما أفاد ذلك الإمام موسى بن جعفر (ع) حيث ذكر أنَّ أباه جعفر بن محمد (ع) قال له أكثر من مرة: إنَّ عالم آل محمد لفي صُلبك، ليتني أدركتُه، فإنَّه سَمِيُّ أمير المؤمنين (ع)(1)، وفي رواية أخرى يرويها الشيخ الصدوق (قد)، بسند عن يزيد بن بسطام أو عن يزيد بن سليط، قال: كنا جماعةً عند أبي عبد الله بن محمد الصادق (ع)، فقلنا له: نحن ممَّن يعتقد إمامتكم، وولايتكم، وإنَّ الموت حتمٌ على كلِّ العباد، فإذا كان الذي لا نتمناه، لمن الأمر بعدك؟ قال (ع): هؤلاء وُلدي -أشار الى أبنائه-، وهذا سيّدهم -أشار إلى الإمام موسى الكاظم (ع)، وفيه العلم، والحكم، والفهم، والسخاء، والمعرفة فيما يحتاج الناس إليه، فيما اختلفوا في أمر دينهم، وفيه حُسن الخلق، وفيه حُسن الجوار، وهو بابٌ من أبواب الله -عز وجل-، ثم قال: وفيه أُخرى خيرٌ من ذلك كلِّه، قال: يُخرج اللهُ منه غوث هذه الأمة -الإمام الصادق (ع) وصف الإمام الرضا (ع) بأنَّه غوث هذه الأمة، ولهذه الكلمة الصادرة من المعصوم دلالات، لعلَّنا نقف عليها- وفيه غوث هذه الأمة، وغياثها، وعلمها، ونورها، وفهمها، وحكمها. خير مولودٍ، وخير ناشئٍ، وخير كهلٍ، يُنزل الله به القطر، قوله حكم، وصمته علم، يُبيِّن للناس ما يختلفون فيه)(2) إلى آخر الرواية الشريفة التي بشَّر بمفادها الإمام الصادق (ع) بمولد أبي الحسن على بن موسى الرضا (ع)، فوصفه بالصِّفات التي لا تُتاح إلَّا لواحدٍ من أولياء الله، الذين اصطفاهم لدينه، وارتضاهم لعلمه، وجعلهم حُججاً على عباده، وخلفاءه في أرضه.
تسميتة بالرِّضَا (ع):
وأما تسميته بالرِّضَا فهي تسميةٌ جائت من السَّماء، كما نصَّت على ذلك الرِّوايات، وليس كما يُروِّج له المخالفون من أنَّه سُمِّي بالرضا؛ لتلقيب المأمون له بذلك. ولهذا كان الإمام الجواد (ع) يقول: كذبوا والله وفجروا، الرِّضَا إنَّما سُمِّي بالرضا؛ لأنَّ الله تعالى سمَّاه الرضا في سمائه، لأنه كان رضيَّ الله -عز ّوجلّ- في سمائه، ورضاً لرسوله والأئمة من بعده في أرضه"(3)، كان الإمام الكاظم (ع) يقول: جاء الرِّضا -وهو صغير يدرج- وذهب الرضا، وحدَّثتُ الرِّضا، وقلتُ للرضا، وأين الرضا، فإذا خاطبه قال: يا أبا الحسن(4).
أمُّه الطاهرة (ع):
أما أُمُّه فهي من بلاد المغرب العربي، وتُسمَّى "تكتم"، وسمَّاها الإمام الكاظم -بعد أن أنجبت الرضا- بالطَّاهرة، وكانت من خيرة النساء زُهداً، وصلاحا، وتقوىً، وعبادة، حتَّى أنَّها قالت للإمام الكاظم (ع): "لو التمستَ مُرضِعة لعليّ؛ فإنِّي أخشى أن أُقلِّل من إرضاعه، لكثرة أورادي ونوافلي" (5)، فعزيزٌ عليها أن تُقلِّل من الأوراد العبادية من أدعية وما شابه، وعزيز عليها أيضاً أن يقلَّ إرضاعُها لرضيعها الإمام (ع)، فكانت من الصالحات العابدات.
خصال الإمام الرضا (ع):
بعد ذلك نتحدث عن بعض خصال الإمام الرضا (ع)، فإنَّه من نافلة القول أن يكون الحديث حول ذلك، ونحن إنَّما نتحدث تَيمُّناً، وتَبُّركاً، واستِدراراً لثواب الله -عزَّ اسمه وتقدَّس-.
أبو نواس -الشاعر المعروف-، مدح ومدح، فمدح الوُلاة، ومدح القادة العسكريين، والقادة السياسيين، والخلفاء، إلَّا الإمام الرضا (ع) لم يمدحه، فقالوا له: لماذا لا تمدح الإمام الرضا؟ فقال:
قيـل لي أنت أوحدُ النَّاس طُرّاً في فنون من الكلام البديه
لـك من جوهـر الكلام نظامٌ يُثَمِر الدر في يدي مُجـتنيه
فعلى ما تركتَ مدح ابن موسى والخصال التي تجمَّعـن فيه
قلتُ لا أهـتدي لمـدح إمامٍ كـان جبريلُ خـادماً لأبيـه(6)
أعلم العلماء:
نبدأ الحديث بما أُثر من علم الإمام الرضا (ع)، فهي السِّمة الأولى، والواضحة، والجليَّة -لكلِّ إمامٍ مَعْلَمٌ وسِمَةٌ خاصّة، يمتاز بها، ويُعرف بها-، والتي امتاز بها الإمام الرضا (ع) هي سمةالعلم. لذلك وصفه الإمام الصادق (ع) بعالم آل محمد (ص)(7).
وكانت هي السِّمَة التي امتاز بها في عصره؛ وذلك لخصوصيَّةٍ تحدّثنا عنها في جلساتٍ سابقة، وهي الفترة الإستثنائية التي عاشها الإمام في السنوات العشر الأولى من إمامته، فقد كانت فترةً استثنائية ترتَّب عليها أن يَظهر الكثيرُ من علمه (ع). لذلك -ولعلمكم- فإنَّ أكثر علوم أهل البيت (ع) في التفسير، وعلم الكلام، والعقيدة، والفقه، والحكم، والأخلاق، وسائر العلوم المتصلة بالشأن الديني قد وصلتنا من أربعةٍ من الأئمة -بشكل خاص- وهم: الإمام علي (ع)، ثم الإمام الباقر (ع)، ثم الإمام الصادق (ع)، ثم الإمام الرضا (ع). أكثر الروايات التي جاءت في التفسير، وفي العقيدة، وفي الفقه -رغم سعتها وتشعُّبها-، وكذلك فيما يرتبط بالسُّنة الشريفة، ومحاسن الحِكَم والأخلاق، وغيرها، وصلتنا من هؤلاء الأئمة الأربعة (ع).
يروي المؤرِّخون أنَّ الإمام (ع) كان يجلس في مسجد الرسول (ص) في المدينة المنورة قبل استشهاد والده، وبعد أن سُجن والده، وبعد أن تسنَّم واضطلع بدور الإمامة، لمدَّة عشر سنوات بعد استشهاد أبيه الإمام الكاظم (ع) كانت له جلسات عند قبر الرسول (ص)، ومن المعلوم أنَّه في تلك الفترة كان المسجد النبويّ يغصُّ بحلقات الدرس والتدريس في مختلف العلوم الدينية، بالعقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والكلام.
يقول هؤلاء العلماء: إذا استعصت مسألة -هم يعترفون-، إذا استعصت مسألةٌ على شيخٍ من شيوخ تلك الحلقات سواءً في الفقه، أو العقيدة، أو التفسير، أو الحديث، لجؤوا إلى عليّ بن موسى (ع) -وكان يجلس عند قبر الرسول-، فما توقَّف في مسألةٍ قطّ. وإذا سُئِل، كأنَّه كان قد أعدَّ الجواب!! (8) بعد أن أُقصي الإمام الرضا (ع) إلى خراسان في السنين الأخيرة من إمامته -يعني في السنوات الخمس الأخيرة-(9)، وطبعا كانت هناك مقاصد سياسية وراء إبعاد الإمام (ع) إلى خراسان، وهناك أيضاً مقاصد عقيدية -لا مجال للحديث عنها الآن-، وكان من أهداف ومقاصد المأمون هو أن يُسقط الإمام في أعين قواعده الشعبية، وذلك من خلال مجموعة من الوسائل، منها إفحامه فيما يرتبط بالشأن العلميّ، لما أُذيع عنه، وعُرف عنه في مختلف أقطار العالم الإسلامي، من تميُّزٍ علميّ، ففي بعض أيام وجوده المبارك في خراسان، جمع المأمون علماء الأديان من مختلف مناطق إيران -وإيران متميّزة بأديان متعددة-، وكانت هناك شخصيَّات متميَّزة في كلِّ علمٍ، فدعى الخليفة المأمون رئيسَ الأساقفة، ووفداً معه من الأساقفة -الأساقفة هم علماء النصارى- ودعى رأس الجالوت -هذا مصطلح يطلق على كبير اليهود-، ودعى رئيس أو رؤساء الصابئة -كما ورد في الرواية-، ودعى أيضا الهربت -كبير عبدة النار-، ودعى الزرادتشتيين، ودعى المتكلِّمين من الفرق الاسلامية، وقال لهم: نريد منكم أن تحضروا؛ لمناظرة رجل من الحجاز، وحثَّهم على أن يُعرَضوا عليه معضلات مسائلهم، فهم قد استعدوا وقبل حينٍ من هذه المناظرة.
وفي ليلة الدعوة بعث إلى الإمام الرضا (ع)، وأخبره أنَّ غداً ستكون له مناظرة مع علماء اليهود والنصارى والزرادشتيين والصابئين والمتكلمين!! حينها كان عراقيٌّ جالساً مع الإمام الرضا (ع)، فاضطرب. فالتفت له الإمام (ع) ووجد في وجهه آثار الخشية، فقال له: وتخاف عليَّ أنْ أُقطع؟، قال: نعم أخشى عليك أن تُقطع، كنتُ أعلمُ أنَّك أعلمُ أهل الأرض، ولكن هؤلاء مُغالِطون، فقد يعرضون ما يُوهِم الناس أنَّهم قد قطعوك. قال (ع): أتعرف متى سيندم المأمون؟ أتعرف أيها العراقي متى سيندم المأمون؟ قلتُ: بلى،. قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئيين بعبرانيَّتهم، وعلى أهل الهرابذة بفارسيَّتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أصحاب المقالات -علماء الكلام- بلغاتهم، فإذا قطعتُ كلَّ صنف، ودحضت كلّ حُجَّة، علِم المأمون أنَّ الموضع الذي هو بسبيله ليس بمُستَحّق، فعند ذلك تكون الندامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله(10). أصبح الصَّباح، شرب الإمام (ع) كأساً من ماء، وتناول سويقاً، وأعطى من كان معه، ثم وضع رداءه على ظهره وخرج، كان مجلس المأمون يغصُّ بالقادة، ووجوه الطالبيِّين، والهاشميين، وعلماء خراسان، ومعهم رأس الجالوت، ورأس الأساقفة، ورأس الصابئة، ورأس الزرادشتية، وكلُّ هؤلاء قد اجتمعوا. وما إنْ وصل الإمام (ع) حتى قاموا جميعاً، جلس الإمام (ع) في صدر المجلس، وكلهم قيام وهو جالس، ثم أمر المأمون الجميع بالجلوس فجلسوا -لا مجال لعرض ما كان قد وقع بينهم، ولكن سأشير إلى الأجواء التي إكتنفت تلك المناظرة ثم ننتقل عن هذا المحور- جلسوا، فقال المأمون: يابن العمّ، هؤلاء جائوا يسألونك. قال الإمام الرضا (ع): فليعرضوا أسئلتهم. بدأ اليهوديّ -رأس الجالوت-، وطرح على الإمام سؤالاً، قال (ع): إن أجبتك من التوراة، تقبل؟ قال: لا أقبل بغيرها. قال (ع) أقرأت في السِّفر رقم كذا هذه الفقرة؟، أراد أن يُنكر، وظن أنه مادام أنَّ الإمام عربيّ حجازيّ فمن أين له أن يعرف ما هو مكتوب، فقرأ الإمام الفقرة بالعبرية، ثم قال للمترجمين ترجموا حتَّى يسمع؛ حتى لا يخالف. فأخذ يُحدِّثهم وتبيَّن أنه مطلع على تفاصيل التفاصيل لما ورد في التوراة، فبُهتوا حتى قال أحدهم: إنه يقرأ التوراة خيراً من قرائتنا لها.
ثم بدأ بالإنجيل وأخذ يحتجُّ على أصحاب الإنجيل بالتوراة والانجيل، وعلى أصحاب التوراة بالتوراة والإنجيل، ويقرأ بلغاتهم، بالرومية، واذا وصل الى الزرادشتية تكلَّم بالفارسيّ، وإذا وصل الى الصقالبة تكلَّم بالصقلبيَّة، فكان يتكلم بمختلف اللُّغات، فحين رأوا الإمام يُقلِّب اللغات، انقطعوا جميعاً، وامتدت الجلسة لساعات. وليست هذه هي المناظرة الوحيدة، ولا الثانية، ولا الثالثة، كانت هناك مناظرات عديدة أرَّخ بعضَها بعضُ المؤرِّخين، وأهملوا البعض الآخر، كما أنهم نقلوا بعض تفاصيلها دون جميع التفاصيل. هذا حديثٌ حول علم الإمام (ع).
كان أعبد الناس:
نتحدَّث بعد ذلك عن شيء من عبادة الإمام (ع). أجمع كل من عاشره أو سافر معه أو تشرف بخدمته، وكذلك زوجاته، أجمع كل هؤلاء أنه كان قليل النوم، كثير السهر، يقضي جُلَّ ليله في العبادة وتلاوة القرآن، ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾(11).
هؤلاء أهل الله، أولياء الله. كان كثير الصيام، كثير الصلاة، يختم القرآن كلَّ ثلاث ليالٍ، وكان يقول: لو شئت أن أختمه فيما دون ذلك لفعلت، ولكني لا أمرُّ بآية إلَّا تأملتها(12). بعض الاخوة قد يستوحش من أنَّه كيف يتاح للإمام ذلك مع ما عليه من وظائف كثيرة؟ كيف يُتاح له أن يختم القرآن في ثلاثة أيام؟! فكرتُ قليلاً في الموضوع، القرآن ثلاثون جزءاً، وقد كُتب في600 صفحة، أو 604 صفحات، حسبتُ كلَّ جزء -مع ترتيل معتدل- فقدَّرت أنه لا تتجاوز قراءة الجزء الواحد ثلث الساعة فهذه المدة تكفي لقراءة الجزء الواحد (20 صفحة)، وكل جزء من أجزاء القرآن يعادل (20 صفحة)، إذا حسبنا ثلاثين جزءاً في عشرين دقيقة فالناتج هو عشر ساعات -عشر ساعات يُختم فيها القرآن-، وإذا وزَّعنا الساعات العشر على ثلاثة أيام، ففي كلِّ يوم نحتاج الى ثلاث ساعات وبضع دقائق كي نختم القرآن في ثلاثة أيام. وقليلٌ على القرآن أن يُخصّص له ثلاث ساعات في اليوم، فهذه السويعات لا تزاحم بقية الأعمال -خصوصاً عند من يُنظِّم وقته-، ففي وسع الإنسان إذا نظَّم وقته أن يُحصِّل الكثير، ويقضي الكثير من الحاجات، ويُحقِّق العديد من الإنجازات في هذه الـ (24 ساعة). نعم، اليوم ليس فيه متّسع ولا بركة إذا كان سيقضي (12 ساعة) في النوم، وخمس ساعات في المعاش! هكذا لن يبقى للوقت من بركة. فإذا كان الإمام يجلس قُبيل الفجر بعد النَّافلة ويقرأ شيئاً من القرآن، ثم يقرأ قليلاً منه بعد ذلك ما بين الطُّلوعين، هذا مقدار ساعة. وساعةٌ أخرى أيضا يقرأ فيها القرآن قُبيل الظّهر، أو بُعيد الظهرين. وتبقى ساعةٌ تكون لليل. ثم إنَّ الإمام (ع) كان إذا خلى بنفسه قرأ القرآن، وإذا أضطجع -كما يُخبر خَدَمه، ومن كان يسافر معه -يقرأ القرآن حتّى يغفو، فلا غرابة في أن يختم القرآن في كلِّ ثلاثة أيام. وكان -صلوات الله عليه- كثير الصيام، ويفطر في كلّ يومٍ على ما يتعارف الناس على أكله، أو بتعبير أدقّ: ما يتعارف الفقراء والمتوسِّطين من النَّاس على أكله. في بعض الأحيان الإمام يشتهي شيئاً متميزاً، في يوم من الأيام كان الإمام صائما، واشتهى أن يأكل كبدة مشوَّية -كأنَّ هذا شيٌ عزيز وغير متاح، والأموال تُجبى إليه من شرق الأرض وغربها!، وهذه حالة غريبة نادرة عند الإمام، وإلَّا فالناس في كلِّ يوم يأكلون الكبدة إن شاؤوا- وكان الخدم يُشفقون عليه؛ لقلّة طعامه، لكنَّهم ارتاحوا اليوم، لأنّ الإمام سيأكل طعاماً جيداً. فشُويت له الكبدة، وصلّى الإمام العشائين، وأيّ صلاةٍ هي صلاته؟ هي أوراد، وهي نوافل، وهي تسبيحات، حتى وصل وقت الفطور، حينئذٍ جلس الإمام (ع) فوضعت أمامه الكبدة المشويَّة، ثم قال: "لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ"(13)، وأنا أُحبُّها، ولذلك سأُنفقها، ارفعوها واذهبوا بها إلى أحد الفقراء يأكلها، ولا آكلها. وفي يوم -وهو في خراسان، بلد الفواكه- اشتهى عنباً -والعنب في بيته وفي كلِّ طريق-، وعلى نفس المنوال أراد أن يُفطر على عنبٍ فجاءه فقير، فأعطاه ذلك العنب.
كان -سلام الله عليه- إذا جيئ له بالمائدة يُؤتى بصفيحة خالية، فينتقي من الطعام الذي يُعرض عليه أجوده ويضعه في الصَّحيفة، ثم يرفعه ويقول: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ / وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ / فَكُّ رَقَبَةٍ / أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ / يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ / أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾(14)، إنَّ الله عَلِم أنَّه ليس كلُّ أحدٍ يستطيع أن يعتق رقبة، فجعل إطعام الفقير والمسكين بمنزلة عتق الرقبة: ثم يُرفع عن مائدة الطعام. وأيضاً كان الخدم، والضيوف، وحتى السَّائس، والحاجب، يجلسون مع الإمام (ع) على المائدة أيام كان في خراسان ولياً للعهد، وكان معهم -كما ورد- السُّودان، والضعفاء، والفقراء، وبعض الذين يسوسون الحيوانات، كلُّهم يجلسون. فقيل للإمام (ع): لو أفردت لهم مائدة. قال (ع): كلُّنا أبناء آدم، مالذي يُميَّزني عنهم؟! ثم يأكل قليلا ويقوم، ويقول: إذا وقفت على رؤوسكم، فلا يقومنَّ أحدكم حتَّى يشبع. يعزم عليهم أن لا يقوموا، لأنه إجلالا له إذا فرغ فرغوا، فلا يقبل إلَّا أن ينتهوا. وكان ربَّما دعا أحدَهم، فيُقال إنَّه يأكل، فيقول (ع): دعوه حتى يفرغ(15).
يوميات الإمام (ع) وسماته العامة:
الشيخ الصدق يروي رواية عن بعض أصحاب الإمام، يقول: "ما رأيت أبا الحسن الرضا (ع) جفا أحداً بكلمة قَطّ -يعني لا يتكلم بخشونة مع الناس، ولا يُعنِّف أحداً، ولا يُهين أحداً، ولا يكسر قلب أحد- ولا رأيته قطع على أحدٍ كلامه حتى يفرغ منه، وما ردَّ أحداً عن حاجةٍ يقدرُ عليها، ولا مدَّ رجليه بين يدي جليسٍ له قَطّ، ولا اتكأ بين يدي جليس قَطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قَطّ، ولا رأيته تفل، ولا رأيته يتقهقه في ضحكه قَطّ، بل كان ضحكه التبسُّم"(16).
هذا شيءٌ من سجاياه ومحاسن أخلاقة، هذه يوميَّات الإمام، ونحن إنما نَستنُّ بسنَّتهم، ونَدين بدينهم، ونقتفي أثرهم. فإن لم نتمكَّن أن نكون كما كانوا، فلنكن على طريقتهم مُتمثِّلين.
كان هذا شأنه مع الفقراء، إنه يُجالسهم ويُحادثهم ويُضاحكهم، ويؤنسهم بألين وأطيب الحديث. وأما شأنه مع كبار البلاط فلم يكن كذلك، فمثلاً ذو الرئاستين -الفضل بن سهل- هذا الشخص كان في أيام الخليفة العباسيّ هارون الرشيد سُمِّي بذي الرئاستين؛ لأنه قد أنيطت له أكثر من وزارة، وكانت كلّ الأمور بيده في الواقع، هذا الشخص يدخل على الإمام، فلا يقول له الإمام اجلس، بل يتركه واقفاً على قدميه، والإمام جالس، ولا يأذن له بالكلام. يقول بعض منرأى ذا الرئاستين: أنه إذا دخل مجلسا فكأن المأمون هو الداخل، ولكنه إذا دخل والإمام جالس فلا يقوم له! يقول: قد رأيته دخل والإمام جالس مطرق يتمتم -كعادته يُسبِّح-، فما رفع الإمام رأسه لساعة، ثم رفع رأسه إليه وقال له: ما حاجتك يا فضل؟ قال: جئت لهذه الحاجة رسولا من المأمون. قال (ع): اقرأ رسالتك. فقرأها وهو واقف، وبعد أن قرأها أراد الجواب من الإمام، وفحوى الرسالة أنّ يريد أن يُعطى الفضل مِنَحاً إذا أجاز الإمام (ع) ذلك. فقال الإمام (ع): إن اتقيتَ الله فأنت مُجاز(17). عرف الرجل أنه لم يُجزه، لأن الإمام لا يراه متقياً، وهو نفسه يعلم ذلك من نفسه، فانصرف الرجل خائباً دون أن يُمضي الإمام له ما أراد، هذه كانت معاملته مع أمثال هذا الرجل.
ونذكر مثالاً لمكارم أخلاق الإمام مع الأعداء وأختم الحديث حول هذا المحور. كان هناك رجل يسمى الجلوديّ -كان مشهورا بهذا الاسم- وكان قائداً من قادة جيش هارون الرشيد، وكان سيِّئ الخُلُق قاسياً، شديداً على أهل البيت والعلويين وشيعة آل محمد (ص)، كان قد بعثه هارون الرشيد إلى المدينة، وقال له اذهب إلى بيوتات الطالبيين، وبالخصوص بيت موسى ابن جعفر، واسلب ما عنده من حُليّ، واسلب ما عنده من متاعٍ ثم اخرج. هذا الرجل جاء المدينة وفعل ذلك -تسمعون كلام المؤرِّخين حيث نقلوا أنَّه جاءت سنين على العلويَّات، لا تُصلِّي الواحدة حتى تنتهي الأُخرى! في بعض الأيام صار حالهنّ إلى ذلك، لماذا؟ لأنه ليس لهنّ سوى مقنعة واحدة، فإذا انتهت واحدة أعطت مقنعتها الأخرى حتى تُصلِّي بها! منشأ ذلك أنَّ الجلودي وبإيعازٍ من السلطة جاء وسلب بيوتات الهاشميين -ولم يستمر ذلك طويلا والحمد لله، يعني هذه الضائقة وبهذا المستوى لم تدم، أما المستوى الأخفّ فقد استمر- وبعد أن سلب كلَّ البيوتات وصل إلى بيت الإمام الكاظم (ع)، أو بيوتاته، فأحرق أحد البيوت -الذي كان فيه الإمام موسى ابن جعفر (ع)-، فخرج الإمام من وسط النَّار، وكان يطأ النار برجله وهو يقول: أنا ابن ذبيح الله، أنا ابن خليل الله. والنار تنثال من بين يديه، حتى خرج مُغضِباً، فأراد الجلوديّ أن يدخل دار الإمام للسلب، فمنعه الإمام -وهو لم يكن مأموراً بقتل الإمام-، قال (ع): أنا آتيك بالسلب. دخل وأخذ السلب، وأعطاه إياه، خرج الجلوديّ، وكان معروفاً عند الشيعة بجرائمه، ممقوتاً عند الهاشميين، وعند العلويات. بعد ما توفى هارون الرشيد -كما يقال: الأيام دُول، صدرت من هذا الرجل خيانة للعباسيين، والعباسيون طاردوه، وأمسكوه في أيام المأمون، جاؤوا به مُكبَّلا مغلولا، وأُدخل، فرأى المأمون جالساً، وإلى جانبه الإمام الرضا (ع)! الإمام حين رآه تشفَّع له عند المأمون قال: المأمون: إذا عفوتَ عنه نعفو عنه. هذه كانت محادثةٌ بين المأمون والإمام الرضا (ع)! الإمام تشفَّع للرجل وقال للمأمون: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ"(18)!!
هذه أخلاق أهل البيت (ع)، مع أعدائهم، هكذا هم مع أعدائهم، وقد قلتُ لكم: هؤلاء سلبوا العلويّات، لم تبق إلّا مقنعة يُصلَّين بها، وقد أحرق بيت الإمام موسى بن جعفر (ع)، والإمام يقول قد عفوتُ عنه!
الجلوديّ حين رأى الإمام الرضا (ع) يُناجي المأمون، ظنَّ أنّ الإمام يُحرِّضه عليه، فقال: يا أمير المؤمنين لا تسمع كلامه فيَّ. قال المأمون: قد فعلت. هو قد تشفع فيك، وعفى عنك أيُّها الخبيث! فاذهبوا به وأضربوا عنقه.
هذه من مكارم أخلاق أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وأختمها بهذه المنقبة:
مسك الختام
منقبة للإمام أبي الحسن علي بن موسى بن جعفر الرضا (ع)، يرويها هرثمة ابن أعين، في خراسان، وهي واقعة شهدها بعض خواصّ المأمون، وممن كان في تلك الواقعة رجلٌ يُسمَّى (صبيح الديلمي)، يقول: جمع المأمون ثلاثين رجلاً من غلمانه الذين لم يكونوا -بحسب نظر المأمون- ممن يؤمن بإمامة الإمام، يقول: جمعنا ليلاً، وكان ليلُه نهاراً؛ من كثرة الشموع، وكان وجهه كقِطَع الليل المُظلم من الغضب، جمعنا وقال: لا يعرفنَّ بجمعكم هذا أحد، وإذا نما إلى علمي أنه قد أفشى أحد منكم ما يدور في هذا المجلس قتلتُه، ثم قال: يأخذ كلُّ واحدٍ منكم سيفاً، وليدخل حجرة عليّ بن موسى، فإن وجدتموه -قائماً أو قاعداً أو مضجعاًأو ساجداً أو راكعاً- فاضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ بسيوفكم، فيختلط لحمه بدمه بعظمه بمخِّه، ثم اطووا عليه البساط وارجعوا، فإن فعلتم أعطيتُ كلَّ واحد منكم عشر بِدَرٍ من الدراهم، وعشر ضياع مُنتخَبةٌ منكم، ثمَّ تكون لكم الحظوةُ عندي ما بقيت. فخرجوا بأجمعهم، وكان فيهم من يُحبُّ الإمام، ثم دخلوا فوجدوا الإمام مضجعاً، وسبابته تتحرك، وشفتاه تتحرَّكان. يقولون: فضربناه بالسيوف ضربة واحدة، فما تركنا موضعا من جسده إلَّا ومسَّه السَّيف، ثم طوينا عليه البساط، ورجعنا إلى المأمون. وفي الصباح خرج النَّاعي إلى خراسان ينعي علي بن موسى الرضا (ع)، وخرج المأمون إلى المسجد حاسر الرأس، مُحلَّل الأزرار، ينعي الإمام، ويبكي ويلطم على رأسه، لقد مات علي بن موسى، ويُهيِّئ الناس إلى جنازة رسمية. بعد ذلك قال: لنذهب إلى جثمان الإمام، لنحمله، فدخل هو والقادة، وفي دخولهم سمعوا همهمة فارتعدَ المأمون ذلك وشعر بالخوف، فأمر أحدهم بأن يتقدَّم، فوجد الإمام في محرابه يتلو القرآن! فلما تقدَّم إليه سقط على وجهه، فقال الإمام: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾(19)، "والله لا يضرُّنا كيدهم شيئا حتى يبلُغ الكتاب أجله، فإذا بلغ الكتاب أجله مكَّنهم الله منَّا"(20).
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج49 ص100.
2- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج48 ص12.
3- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج2 ص22.
4- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج2 ص22.
5- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج49 ص5.
6- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج1 ص154.
7- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج47 ص154.
8- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج49 ص100.
9- كانت مُدَّة إمامة الرضا (ع) عشرين سنة، عشرة قضاها أيام الخليفة العباسيّ هارون الرشيد، وخمسة قضاها أيام الخليفة محمد الأمين، والخمسة الباقية قضاها في أيام عبد الله المأمون، وكان أكثرها في خراسان.
10- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج10 ص299.
11- سورة الذاريات / 17.
12- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج89 ص204.
13- آل عمران / 92.
14- سورة البلد / 11-16.
15- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج1 ص170.
16- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج1 ص198.
17- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج49 ص168.
18- سورة آل عمران / 134.
19- سورة التوبة / 32.
20- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج1 ص232.