منشأ وكيفيَّة استشهاد الامام الرضا (ع)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد (ص) وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

اللهمَّ أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائنَ علومك.

نقترب من ذكرى استشهاد أبي الحسن الإمام عليِّ بن موسى الرضا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولذلك سوف نُخصِّص هذه الجلسة إنْ شاء الله تعالى للحديث بنحوٍ موجز عن كيفيَّة استشهاده عليه أفضل الصلاة والسلام.

ظروف ودوافع إشخاص الرضا (ع) إلى خراسان:

تعلمون أيُّها الأخوة أنَّ الإمام الرضا (ع) وُلِد في المدينة المنورة سنة 148 للهجرة وبقي في كنف والده الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ما يقرب من 35 سنة ثم حين رحل الإمامُ موسى بن جعفر (ع) شهيدًا مظلومًا اطَّلع الإمام الرضا (ع) بمسؤوليَّته المناطة به من قِبَل الله عزَّوجل وهي تولِّي شؤون الإمامة الإلهيَّة وامتدَّت امامته لما يقرب من الـ 20 سنة، فكان مجموع عمره الشريف -على رواية أو رواياتٍ معروفة- خمسًا وخمسين سنة، واستُشهد الإمام(ع) في دار غربةٍ في خراسان في منطقة يُقال لها طوس، في قريةٍ من قرى طوس يُقال لها سناباد، هناك استُشهد الإمام (ع)، وكان منشأ وجوده هناك رغم أنَّ بلده الحجاز وموطنه المدينة المنورة، منشأ وجوده ثم استشهاده في خراسان هو أنَّ المأمون الخليفة العباسي كان قد أشخصه قسرًا إلى هناك، إلى خراسان، وألزمه -على تفاصيل تعرَّضنا لها أو لبعضها سابقًا- بتولِّي ولاية العهد.

وكان المأمون في بداية عهده قد اتَّخذ من خراسان عاصمةً له رغم أنَّ عاصمة الدولة العباسيَّة منذُ مبدأ نشوئها أيام أبي العباس السفاح هي بغداد، وهكذا استمرَّ الخلفاء العباسيُّون على هذه الحال، فكانت عاصمتُهم بغداد إلى أنْ تولَّى وتسلَّط على خلافة المسلمين هارون الرشيد، وكان لهارون عددٌ من الأولاد: منهم المأمون، ومنهم الأمين، فجعل ولاية عهده للمأمون وللأمين ولأخٍ ثالث لهم وهو القاسم الملقَّب بالمؤتمن، وكان على التسلسل الآتي:

أولًا: يكون محمد الأمين.

ثم يكون بعده عبد الله المأمون.

ثم يكون المؤتمن العباسي بعدهما إلا أنَّه توفي في حياة المأمون فعهد إلى أخيه المعتصم.

تسلَّم الأمينُ السلطة بعد أبيه هارون الرشيد، وبقي في السلطة سنينَ محدودة تقرب من الخمس سنوات، وكان المأمون في خراسان واليًا عليها من قبل هارون حينما كان هارون حيًّا ومِن قبل الأمين بعد أنْ تولَّى هو الحكم ثمَّ إنَّ الأمين عقد العزم على أنْ ينكث ولاية العهد لأخيه ليجعلها في أحد أبنائه فوقع تنافسٌ بين الأخوين، الأمين والمأمون على السلطة، ووقعت حينذاك إرهاصات، وخلافات، ونزاعات حتى بين العباسيِّين الذين كانوا في بغداد حتى اضطر بسببها الأمين أنْ ينزل عن الحكم لفترة ثم رجع.

بعد ذلك اشتدَّ النزاع بينهما فسيَّر المأمون جيشًا من خراسان إلى بغداد فاستطاع هذا الجيش الخراساني أنْ يهزم جيش الأمين ثم حين أمسكوا بالأمين الخليفة العباسي قتلوه، وذلك بإيعازٍ من المأمون بطبيعة الحال.

فالمأمونُ جعل عاصمة الدولة العباسيَّة خراسان -بعد أنْ كانت بغداد هي عاصمتهم- إذ كان من الصعب عليه أنْ يرجع إلى بغداد وقد قتل الأمين أخاه، فالعباسيُّون كان فيهم مَن لم يكن راضيًا بما فعلَه المأمونُ بأخيه بل إنَّ الكثير من أشراف العباسيِّين ووجهائهم لم يكونوا راضين بما صنعه المأمون بأخيه الأمين، ولهذا كان المأمون يتحسَّس بل يخشى من العودة إلى بغداد رغم هيمنته عليها وهيمنته على كلِّ الحاضرة الإسلامية، فالحاضرةُ الإسلامية التي كانت تحت يد هارون أصبحتْ بعد قتل الأمين تحت يد المأمون، هذا وقد كان المأمون يُواجه العديد من الثورات في خراسان لأنَّ الكثير من أهالي قُرى وأطراف خراسان وكذلك خراسان نفسها كانوا من الشيعة ومن العلويين، فكان يُواجه العديد من الثورات، فهو بين أزمتين:

1- الأولى أزمة عائلته فلم يكن مقبولًا عند الكثير من أشراف العباسيين ووجهائهم فكان يخشى أنْ يرجع إلى بغداد قبل أنْ يُوطِّأ الأمر.

2- وكانت الأزمة الأخرى هي الثورات الكثيرة التي كانت تخرج عليه من أطراف خراسان.

أشار عليه بعضُ رجاله أنْ يُشخِصَ أوجهَ رجلٍ وأكثرهم حظوةً وأتباعًا ومحبةً في قلوب الشيعة ليحتال بوجوده معه على سوَقة الناس ويقول: إنَّ هذا الرجل الذي تُحبونه وتعشقونه وتستمعون قوله هو معي ويقبل بوجودي كخليفة على المسلمين، احتالوا لذلك، فهذا هو أهمُّ منشأ من مناشئ إشخاص الإمام (ع) قسرًا من المدينة إلى خراسان، كان مركز العاصمة العباسيَّة في خراسان منطقة يُقال لها مرو، ومرو ليست هي طوس بل هي بعيدة عن طوس، فطوس وإنْ كانت من قُرى خراسان ولكنَّها ليست هي مرو نفسها.

على أيِّ حال ألزَم المأمون الإمامَ الرضا (ع) -على تفاصيل تعرَّضنا لها فيما سبق- بأنْ يقبل بولاية العهد، وتظاهرَ للناس بأنَّه محبٌ للإمام (ع)، ومؤمنٌ بإمامته ومستعدٌ للنزول له عن السلطة، كلُّ ذلك من أجل أنْ يُخفِّف من وطأة الثورات التي كانت تخرجُ عليه من هنا وهناك، ومن أجل أنْ يُقنع ما أمكنه شيعة خراسان ليكونوا ضمن جيشه وجنوده.

بعد ذلك وبعد أنَّ وجد أنَّ الذي وقع كان على خلاف ما أراد، وأنَّه لم يتحقَّق له ما كان يرجوه من توليَّة الإمام (ع) لولاية العهد، فالمأمونُ كان يطمحُ من هذه الخطوة في الوصول للعديد من الأهداف لكنَّ شيئًا منها لم يتحقَّق وإنْ تحقَّق شيءٌ منها فهو دون المستوى الذي كان يصبو إليه بل إنَّه وجد أنَّ ما فعله من تولية الإمام (ع) لولاية العهد قد أنتج نقيضَ ما كان يرجوه وينتظرُه من هذه الخطوة، لذلك احتال لاغتيال الإمام (ع) حتى تمكَّن من ذلك.

الأدلَّة على أنَّ الرضا (ع) قُتل ولم يمت حتف أنفه:

وهنا لابدَّ من الإشارة إلى مسألةٍ وهي أنَّ بعض علمائنا تردَّد أو استظهر أنَّ الإمام الرضا (ع) لم يمت قتيلا ًشهيدًا وإنَّما مات حتف أنفه(1)، وذلك نشأ عن الغفلة عمَّا وثَّقه أكثر علمائنا المتقدمين -كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد- فإنَّ أكثرهم ذهبوا إلى أنَّ الإمام الرضا (ع) قد رحل إلى ربِّه شهيدًا مسمومًا وكان الذي دسَّ إليه السم هو المأمون، ولكنَّه حيثُ وقع بعض العلماء في هذا الاشتباه لذلك اقتضى الأمر التنويه عليه، إذ لا ريب في أنَّ الإمام الرضا (ع) قُتِل شهيدًا، ويؤكِّد ذلك العديد من النصوص الواردة عن أهل البيت (ع) مضافًا إلى النصوص التاريخيَّة، فثمة العديد من الروايات تبلغ حدَّ الاستفاضة -وفيها ما هو معتبرٌ سندًا- تُؤكِّد أنَّ الإمام (ع) قُتل مسمومًا وأنَّه رحل إلى ربِّه شهيدًا، نذكر بعض هذه الروايات المأثورة عن أهل البيت (ع) التي تُوثِّق ذلك ثم نتحدَّث عن كيفية استشهاده بإيجاز أيضًا:

الرواية الأولى: رواها الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا وفي المجالس بسندٍ معتبر ورواها في الفقيه أيضا بسندٍ معتبر عن أبي الصلت الهروي قال: "سمعت الرضا (ع) يقول: "والله ما منَّا إلا مقتول أو شهيد"، فقيل له: فمَن يقتلُك يابن رسول الله (ص)؟ قال: "شرُّ خلق الله في زماني، يقتلُني بالسم ثم يدفنُني في دار مضيعة" الضياع المزارع، "وبلاد غربة" ثم قال: "ألا فمَن زارني في غربتي كتب .." ثم ذكر الثواب الذي يترتب على زيارته وقال فيما قال: "وجُعل في الدرجات العلى من الجنة رفيقنا"(2). هذه رواية يُخبِر فيها الإمام (ع) عن الغيب في حياته وأنَّه ستكون وفاته قتلًا، وسيكون القتل بالسم، وسيكون قتله على يد شرِّ خلق الله، وسيكون مدفنه في دار غربة. هذه مغيَّبات تحدَّث عنها الإمام(ع) في حياته ثم وقعت، فقد مات في أرض غربة، ودُفن في دار غربة، وقُتل على يد شرِّ خلق الله تعالى.

الرواية الثانية: رواها الشيخ الصدوق بسندٍ معتبر عن حمزة بن حمران قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): "تقتل حفدتي بأرض خراسان في مدينة يُقال لها: طوس، من زاره إليها عارفًا بحقِّه أخذتُه بيدي يوم القيامة وأدخلتُه الجنة، وإنْ كان من أهل الكبائر. قلتُ له: جُعلت فداك، وما عرفان حقِّه؟ قال: يعلمُ أنَّه إمامٌ مفترض الطاعة، غريبٌ شهيد، من زاره عارفًا بحقِّه أعطاه اللهُ عزَّ وجل أجرَ سبعين شهيدًا ممَّن استُشهد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حقيقة"(3).

الرواية الثالثة: وهي أكثر صراحة من الرواية السابقة رواها الشيخ الصدوق بسنده عن النعمان بن سعد قال: قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام): سيُقتل رجلٌ من ولدي بأرض خراسان بالسم ظلمًا اسمُه اسمى واسمُ أبيه اسم ابن عمران موسى -الرواية صريحة، فهو عليُّ بن موسى اسمه اسم عليِّ بن أبي طالب واسم أبيه اسم نبيِّ الله موسى-(ع) ألا فمَن زاره في غربته غفر الله تعالى ذنوبه ما تقدَّم منها وما تأخَّر ولو كانت مثل عددِ النجوم(4).

الرواية الرابعة: رواها الشيخ الصدوق في الفقيه بإسنادٍ معتبر عن الحسين بن زيد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعتُه يقول: "يخرجُ ولدٌ من ابني موسى اسمُه اسم أمير المؤمنين(ع) -يعني اسمه عليٌّ ليس من أولاد موسى بن جعفر ولد باسم عليٍّ إلا علي بن موسى الرضا (ع)- إلى أرض طوس، وهي بخراسان، يُقتل فيها بالسم، فيُدفن فيها غريبًا، مَن زاره عارفًا بحقِّه أعطاه اللهُ تعالى أجرَ مَن أنفق من قَبل الفتح وقاتل"(5). يعني أجر الصحابة الذين كانوا مع النبيِّ(ص) في صدر الدعوة.

هذه مجموعة من الروايات وثمة رواياتٌ أخرى عديدة أكَّدت أنَّ الإمام عليَّ بن موسى بن جعفر الرضا (ع) مات شهيدا بالسم. وقد تصدَّت بعضُ الروايات لبيان منشأ إقدام المأمون على قتله. ولماذا أقدم المأمون على تصفية الإمام الرضا (ع)، كلُّ هذه الروايات تصلحُ دليلًا لإثبات أنَّ الإمام الرضا (ع) مات مقتولًا شهيدًا.

دوافع المأمون لاغتيال الإمام الرضا (ع):

وأمَّا منشأ إقدام المأمون على هذه الجريرة العظمى فلا نحتاج إلى المزيد من التأمُّل للوقوف على ذلك إلا أنَّه لا بأس من الإشارة إلى بعض هذه المناشئ.

سُئل أبو الصلت الهروي كيف طابت نفسُ المأمون بقتل الرضا (ع)؟ فذكر ثلاثة مناشئ دفعت بالمأمون إلى أنْ يقتل الإمام الرضا (ع)(6) وتقرير ما أفاده أبو الصلت كالآتي:

المنشأ الأول:

المنشأ الأول الذي ذكره أبو الصلت بحسب هذه الرواية أنَّه كان أحد الدوافع التي بعثت المأمون على استجلاب وإشخاص الرضا (ع) من المدينة إلى خراسان قسرًا وإظهار إكرامه ومحبته وتوليته لعهده كان أحد أهم البواعث على ذلك هو أنَّه أراد أنْ يقول للناس أنتم الذين تُوالون هذا الرجل، وتعشقونه، وتُحبونه، وتعتمدون قوله، وتتبعون أوامره، وتعتقدون بإنَّه رجلٌ قد جعله الله عزَّ وجل إمامًا، معصومًا، مفتَرَض الطاعة، وترون فيه السجايا التي كانت لرسول الله (ص)، أنتم ترون ذلك، سأُثبتُ لكم أنَّ الإمام ليس كذلك- فهو حين عُرضت عليه الدنيا -يعني ولاية العهد- قَبِلَ ولم يزهد فيها -هذا لأنَّ الناس لا يدرون أنَّ الإمام (ع) قد قبل بولاية العهد قسرًا- فحين عُرِضت عليه الدنيا قَبِلَ بالدنيا، فصار في القصور الفارهة، والفرش الناعمة، ويتقلَّب بين الخدم، والحشم، والجنود، وصارت الأموال الطائلة تحت يديه وفي تصرُّفه، حينئذٍ يضعف وجودُه في قلوب الناس، فهذا يُساهم في انصراف الناس عن الإمام الرضا (ع)، فحينما أُشخص الإمام (ع) وجيئ به إلى خراسان وأُعطي ولاية العهد. نظر الناس إلى سجايا الإمام، وإلى سلوكه، فرأوا أنَّه لم يتبدَّل شيءٌ من حميد خصاله، فوجدوا أنَّ أكثر أيامه كان صائمًا، ويتسامعون فيما بينهم من خدمه ومخالطيه أنَّ أكثر ليله كان قائمًا، تاليًا للقرآن، راكعًا، ساجدًا، ولم يروا عليه أُبهةَ الملوك، فهو لا يأكل كما يأكلُ الملوك، ولا يركب كما يركبُ الملوك، ولا يتكلَّم بما يتكلم به الملوك، وقد أبى على المأمون أن يبتَّ في شأنٍ من شؤون الدولة، وذلك هو أحد ما شرَطه على المأمون للقبول بولاية العهد، فيرونه في محافلهم ومساجدهم يتحدَّث ويُعلِّم ويعظ ويُرشد كما كان شأنه في المدينة، ويُجيب على الأسئلة المختلفة في العقائد وفي التفسير وفي الفقه وفي القيم والأخلاق، فلم يتغيَّر شيء، إلى درجة أنَّه لم يسكن في قصر، وكان قد خُصص له منزل فيه بعض الخدم يخدمون الإمام (ع) فإذا جاء وقت الغذاء جمع الخدم والعبيد كلَّهم والحاجب والذي يسوس الخيل يجمعهم دون استثناء لأحد فيجلس معهم للغذاء حين لا يكون صائمًا وإذا كان صائمًا يؤتى له بالإفطار فيشاركونه في إفطاره(7).

متى يؤتى له بالإفطار؟

يُصلِّي المغرب، ثم يجلس، فيتنفَّل، ثم يجلس حتى يأتي وقت العشاء، فيُصلي العشاء، ثم يتنفَّل ويُعقِّب طويلًا، ويقرأ القرآن، وبعد ذلك يجلس للإفطار.

وأي شيءٍ إفطاره؟

رُوي أنَّه في أحد أيامه أشتهى كبدة مشويَّة، وذلك عجيب، فالدنيا كانت تحت يده وفي تصرُّفه، وتندر منه الرغبة في تناول كبدة مشوية وذلك ما يُعبِّر عن قلَّة تناوله للحم والشِواء بحيث أنَّه رغب في يومٍ من الأيام كبدةً مشوية وكأنَّما هي عزيزة الوجود ، نعم هي عزيزة ونادرة في طعام الإمام (ع)، رغم أنَّها مبتذلة عند عموم الناس فضلًا عن الملوك والأمراء والكبراء، يقول الراوي: فاستبشرنا لأنَّ الإمام (ع) سوف يُفطر على طعامٍ جيد، لكنَّه حين انتهى من نوافله وتلاوته للقرآن وأحضرنا له الكبدة، جلس ينظر إليها ثم قال: ارفعوها إلى أحد فقراء البلد، فقالوا: نرفع لهم غيرها، قال: لا، ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾(8)، نظرت إليها، فأحببتُها، وقد قال الله: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، هذا هو الإمام الرضا (ع)، الذي كانت خراسان وغير خراسان تحت يده، لم يكن يأكلُ الكبدة، ولمَّا أراد أنْ يأكل أعرضَ عنها وقال: أرسلوها إلى أحد الفقراء.

هذا بعض ما تراه الناس من خصال الإمام (ع) -بطبيعة الحال الإمام أصبح تحت المجهر، فالناس كلُّها تُراقب سجاياه، فرأوا أنَّه لم يتغيَّر شيءٌ من أحواله، فأُسقط في يدِ المأمون، حين وجد أنَّ الناس قد ازدادت في الإمام حبًّا وعشقًا وارتباطًا، لِما وجدوه في خصاله ومكارم أخلاقه وكذلك لِما ظهر على يديه من الأعاجيب والكرامات.

فحين أقحط الناس -وبلادهم كانت زراعيَّة وتعتمد على الأمطار- اتَّجهوا أولًا لحفر الآبار إلا أنَّ مياه الآبار لم تكن كافية، فخرجوا للاستسقاء ولكن دون جدوى لذلك اضطر المأمون أن يدعو الإمام الرضا (ع) للاستسقاء بمرأىً من الناس، والناس في الاستسقاء يخرجون للصحراء كما هي السُنَّة، ويخرج معهم الأطفال والشيوخ والنساء ويصطحبون معهم الأنعام، فأكثر الناس على اختلاف أقدارهم وأسنانهم يخرجون للاستسقاء، هذه هي السُنَّة في الاستسقاء، فكان الإمام بمرأىً من كلِّ هؤلاء الناس، وقد نُصب له منبرٌ هناك في الصحراء، فصلَّى الإمام بالناس صلاة الاستسقاء، ثم جلس على المنبر، وبشَّرهم بالغيث بشارة الواثق يقول الرواة: ونحن جالسون إذ أقبلت سحابةٌ سوداء فاستبشرنا، فقال الإمام (ع): هذه ليست لكم، ستنصرف إلى منطقة كذا، ثم تأتي الثانية، فقال هذه أيضًا ليست لكم، استغربوا -كيف يعلم بمسار السحاب وأين ستُمطر وأيُّ سحابةٍ ستُمطر خراسان- ثم أقبلت سحابة فقال: هذه لكم، ولكن أسأل الله عزوجل ألا تُمطركم حتى تعودوا إلى بيوتكم كي لا تبتلَّ ثيابُكم ومواشيكم وأطفالكم، فعودوا فإذا ما وصلتم بيوتاتكم أمطرتكم، وهذا ما وقع. هم يرون كلَّ ذلك بأمِّ أعينِهم فيزدادون إكبارًا وإعجابًا وحبًّا للإمام (ع)، لذلك أُسقط في يد المأمون، فكأنَّه يُحدِّث نفسه بأنَّ ما أردناه من هجران الناس له وإستصغارهم له بعد إكبارهم له قد وقع نقيضه فقد أصبحوا بعد نزوله خراسان أشدَّ اجلالًا وإكبارًا له من ذي قبل، فقد تجلَّى لهم زهدُه وانصرافه عن الدنيا أكثر من ذي قبل، يقول أبو الصلت: فهذا ما أوغر صدر المأمون عليه. هذا هو المنشأ الأول الذي ذكره أبو الصلت بتوضيحٍ منا(9).

المنشأ الثاني:

بحسب ما أفاده ابو الصلت هو أنَّ الناس تعتقد أنَّ الرضا (ع) أعلمُ خلق الله تعالى، وأنَّه ليس في المسلمين مثلُه في العلم والمعرفة، فأراد المأمون أنْ يُثبت للناس أنَّه ليس كما يعتقدون وبذلك يَنقص قدره عند الناس.

فماذا صنع المأمون؟

عقد للإمام (ع) الكثير من المناظرات مع مختلف شرائح العلماء وطبقاتهم ومذاهبهم وأديانهم، فلم يدع من اليهود ولا من النصارى ولا من الزرادشتيين وكذلك من علماء الفرَق والملل إلا ودعاهم لمناظرته، فعقد مع الكثير من هؤلاء العديد من المناظرات، وفي كلِّ مناظرةٍ يخرج منها الإمام(ع) متألقًا منتصرًا، وقد عرضنا فيما سبق بعض هذه المناظرات. فنتج عن ذلك أنْ زاد إعجاب الناس بالإمام (ع)، فشعر المأمون أنَّه قد ورَّط نفسه بالإمام(ع)، فهذا هو بعضُ ما دفعه لاغتياله(10)، هذا هو المنشأ الثاني الذي ذكره أبو الصلت الهروي، وأبو الصلت معاصر يتكلَّم عن رؤيا عين.

المنشأ الثالث:

قال: وقد كان الإمام الرضا (ع) كثير التقريع للمأمون، والوعظ له، والملوك لا يقبلون الوعظ الجدِّي والتقريع من أحد، هم يبحثون عن حاشيةٍ وبطانةٍ تُمالئهم وتُثني عليهم، فلذلك وجد نفسه غير قادرٍ على تحمُّل وجود الإمام (ع) فهو بعد كلِّ ما رآه وسمعه من وعظ الإمام(ع) وتقريعه أصبح لا يُطيق بقاءه(11)، هذا هو المنشأ الثالث الذي ذكره أبو الصلت الهروي.

فمن تلك المواقف التي أوغرت صدر المأمون هو انَّ الإمام (ع) دخل يومًا فرأى غلامًا يصبُّ على يدي المأمون الماء للوضوء فقال له: لا تُشرك بربِّك أحدًا في عبادتك، فهذا الوضوء لله تعالى فتولَّى أنت فعله بيدك فقال المأمون للغلام: انصرف، وأخذ يتوضأ بنفسه، لكنَّ ذلك حزَّ في قلب المأمون وكان له وقعٌ شديدٌ على نفسه فهو الجبَّار المتكبِّر الذي لا يُحاولُ ولا يُطاول فكيف يُواجَه بمثل هذا التبكيت، هكذا ورد في مضمون الرواية(12).

ومن تلك المواقف ما ورد في الروايات أنَّ رجلًا من الصوفية اُتُّهم بالسرقة، وكان المأمون يجلس يومي الاثنين والخميس أو يوم الاثنين ينظر بنفسه في الخصومات والجنايات، ويباشر عمليَّة القضاة بنفسه، فكان الإمام (ع) جالسًا عنده وكان قد شرط عيه أن لا يتدخل في شأنٍ من شؤون الدولة مهما كان حقيرًا، فبينا هو جالسٌ مع المأمون إذ أدخلوا ذلك الصوفي المتَّهم بالسرقة، فقال المأمون: ما شأنُ هذا الرجل فإنَّ عليه سيماء الصالحين وفيه سجادة في جبهته؟ فقالوا: هذا قد سرق، فقال للصوفي: أما تستحي وعليك سيماء الصالحين أنْ تسرق؟ فأجابه الصوفي: منعتني حقِّي فسرقت، أنا مستحق للعطاء، فأنا من أبناء السبيل، مسافر، ومنقطع، ومسكين، وقد أمر القرآن وأمر الرسول (ص) أن أُعطى من حقِّ الفقراء ومن بيت المال ولكنَّك حرمتني، وأنا من حملة القرآن، فأنا أحفظ القرآن، فقال له المأمون: دعني من أساطيرك، فلن نعطِّل حدًا من حدود الله لأساطيرك، لابدَّ من تطهيرك -يعني لابدَّ من إقامة حدِّ القطع عليك- فقال الصوفي: ليس لك حقٌ في تطهيري لأنَّ من شرائط ذلك أن يكون المُقيم للحدِّ طاهرًا ليس عليه حدٌّ، وأنت لستَ طاهرًا حتى تُطهرني، فغضب المأمون غضبًا شديدًا ولكنَّه تظاهر بالحلم وسعة الصدر والتفت إلى الإمام الرضا (ع) ينتظر منه أنْ ينتصر له، إلا أنَّ الإمام الرضا (ع) ظلَّ ساكتًا وحين طلب منه المأمون أن يُبدي رأيه قال له: إنَّ الرجل قال اتَّهمك فأجبه إنْ شئت، يعني إنَّ الإمام (ع) أبى أنْ ينتصر للمأمون، ثم أنَّ الصوفي واجه المأمون بأشدَّ من الأولى فقال: يا أمير المؤمنين كيف تُطهرني وأنت عبدٌ لي؟! قال: وكيف أكون عبدًا لك وأنا أمير المؤمنين، فقال له: إنَّ أباك اشترى أمَّك من بيت مال المسلمين، فأنت عبدٌ لمسلمي الشرق والغرب، ثم قال له: وانَّ الخبيث لا يُطهِّر خبيثًا مثله، إنَّما يطهره طاهر، والحدُّ لا يقيمه إلا من هو طاهر، ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(13)، التفت المأمون إلى الرضا قال له: ما ترى في أمره؟ فقال له (ع): إنَّ الله جلَّ جلاله قال لمحمد (ص) ﴿فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾(14) وهي التي تبلغ الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه، هذا جاهل ولكن علم الحجَّة، كأنَّما أراد الإمام (ع) أن يقول له: إنَّ الرجل صادق أساسًا فيما قال، فلم يكتفِ الإمام (ع) بعدم الانتصار للمأمون بل أثنى على كلام الرجل، وذلك ما أوغرَ صدر المأمون وزاد من حنقِه عليه، هذه هي إحدى المواقف التي حفَّزت المأمون على الإقدام على اغتيال الإمام الرضا (ع)(15).

هناك مناشئ أخرى لم يذكرها أبو الصلت الهروي، منها: أنَّ المأمون أراد أن يرتِّب وضعه في بغداد لأنَّه أراد أنْ يرجع إلى بغداد ويجعلها عاصمةً له كما كانت لآبائه فلابدَّ من استرضاء العباسيين الذين في بغداد، فهو يعلمُ أنَّهم غاضبون من تعيينه الإمام الرضا (ع) وليًّا لعهده، فلابدَّ إذن من تصفية الإمام(ع) ليكون ذلك ثمنًا لقبولهم ورضاهم عنه لذلك أقدم على تصفية الإمام (ع) في طوس، وطوس ليست هي مرو -كما قلنا في بداية الحديث- فهو قد خرج إلى طوس بصحبة الإمام (ع) لتكون هي طريقهم للعودة إلى بغداد، فطوس كانت منزلًا من منازل طريق العودة مكث فيها برهة من الزمن قبل أن يعود إلى بغداد، وهناك تمَّ إغتيال الإمام الرضا (ع) لأنَّه لا يستطيع أنْ يذهب به إلى بغداد لأنَّ العباسيين لن يقبلوا بالإمام الرضا(ع)، هذا منشأ رابع.

المنشأ خامس:

إنَّ بطانة المأمون كانت كثيرا ًما تُلحُّ على المأمون أنْ يبحث له عن مخرجٍ يخرج به من هذه الورطة التي ورَّط بها نفسه، فوجود الإمام وليًّا للعهد يُعدُّ ورطة للدولة العباسية فلابد إذن من اغتياله، إذ من الصعب المجاهرة بقتله لأنَّ ذلك سوف يفتح عليه أبواب جهنم من قبل شيعة الإمام (ع) وقد كثروا عندما ذهب الإمام (ع) إلى خراسان كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق، هذا أحد المناشىء أيضًا لاغتيال الإمام(16).

كيفية استشهاد الإمام الرضا (ع):

وذلك هو ما وقع فقد تمَّ اغتيال الإمام (ع) بصورةٍ فاجرة وخبيثة من قِبل هذا الرجل الطاغي حيثُ دسَّ إليه سمًا في عنب أو أنَّه دسَّ إليه سمًّا في رمان أو أنَّه دسَّ إليه سمًّا في رمانٍ وعنب، وتذكر بعض الروايات انّه غرز في أقماع العنب إبرًا مسمومة وقدَّم العنب للإمام (ع) بعد أنْ أبقاه مدةً إلى أن تشبَّعت حباتُ العنب بالسم، ثمَّ ألحَّ على الإمام (ع) أنْ يتناول شيئًا منه، فتناول الإمام (ع) منه ثلاث حبَّات، واعتلَّ ثلاثة أيام أو أقل من ذلك كما في بعض الروايات وبعدها استُشهد الإمام (ع) من أثر ذلك السم(17)، فلا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم، أكتفي بهذا المقدار.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- نُسب ذلك للسيِّد علي بن طاووس والأربلي في كشف الغمة، لاحظ بحار الأنوار للمجلسي ج 49 ص 311.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 14 ص 568. الأمالي للصدوق ص 120، عيون أخبار الرضا (ع) ج 2 ص 219.

3- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 183. عيون أخبار الرضا(ع) ج 2 ص 390، من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 584.

4- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 2 ص 289. الأمالي للصدوق ص 183، من لا يحضره الفقيه للصدوق ج 2 ص 584.

5- الأمالي للصدوق ص 180، عيون أخبار الرضا (ع) ج2 ص 286، من لا يحضره الفقيه للصدوق ج 2 ص583، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 49 ص 286.

6- عيون أخبار الرضا (ع) ج2 ص 265.

7- الكافي للكليني ج8 ص 230، عيون أخبار الرضا(ع) ص 194- 198، إعلام الورى للطبرسي ج 2 ص 63، كشف الغمة ج3 ص 110.

8- سورة آل عمران / 92.

9- عيون أخبار الرضا (ع) ج2 ص 179.

10- عيون أخبار الرضا(ع) ج1 ص139- 157 ج2 ص 265، التوحيد للصدوق ص 417، إعلام الورى للطبرسي ج 2 ص 64، الإحتجاج للطبرسي ج2 ص 199، دلائل الإمامة للطبري ص 380.

11- الإرشاد للشيخ المفيد ج2 ص 269، إعلام الورى للطبرسي ج 2 ص 80

12- الإرشاد للشيخ المفيد ص 269، إعلام الورى للطبرسي ج 2 ص 80 .

13- سورة البقرة / 44.

14- سورة الأنعام / 149.

15- عيون أخبار الرضا (ع) ج 2 ص 264، علل الشرائع للصدوق ج1 ص 241، مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب ج3 ص 477.

16- الإرشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 269، إعلام الورى للطبرسي ج 2 ص 80

17- عيون أخبار الرضا ج1 ص 29، ج 2 ص 265، الإرشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 270، إعلام الورى للطبرسي ج 2 ص80، 81، روضة الواعظين للفتال السيوري ص230.