الوجهُ في نفي كفَّارةِ الجمع

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو الوجهُ الذي اعتمدَه بعضُ الفقهاء (حفظه الله) في مخالفةِ المشهور والبناءِ على عدم وجوب كفَّارةِ الجمع على مَن أفطرَ على محرَّم، وافتائِه بأنَّ ما يجبُ عليه هو الكفَّارة المخيَّرة كما هو الواجب على مَن أفطرَ على محلَّل؟

الجواب:

إنَّ وجوبَ كفَّارةِ الجمع على مَن أفطر على محرَّم ليس هو مذهبُ المشهور بين القدماء بل لم يُنسب القولُ بوجوبِ كفَّارة الجمع لأحدٍ من القدماء إلا للشيخ الصدوق (رحمه الله) حيثُ صرَّح بذلك في كتابه مَن لا يحضره الفقيه، نعم ذهبَ إلى القول بوجوب كفَّارة الجمع على مَن أفطر على محرَّم العلامةُ الحلِّي وتبِعه على ذلك عددٌ من المتأخِّرين، فالبناءُ على وجوبِ كفَّارة الجمع حدَثَ -كما أفاد السيِّدُ الخوئي (رحمه الله)- بعد العلَّامةِ الحلِّي (رحمه الله) وإلا فمذهبُ الفقهاء أو مشهورُهم قبلَ العلَّامة هو التخييرُ بين خصالِ الكفَّارة استناداً إلى اطلاق الروايات التي أفادت أنَّ مَن أفطر متعمِّداً في نهار شهر رمضان لزِمه أنْ يُكفِّر عن ذلك إمَّا بعتقِ رقبةٍ أو بصيامِ شهرين متتابعين أو باطعام ستينَ مسكيناً، فلم تُفصِّل هذه الرواياتُ بين الإفطار على محلَّلٍ والإفطار ِعلى محرَّم.

فمِن تلك الروايات صحيحةُ عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله الصادق (ع) في رجلٍ أفطرَ من شهر رمضان متعمِّداً يوماً واحداً من غير عُذر، قال (ع): "يُعتِقُ نسَمة، أو يصومُ شهرين متتابعين، أو يُطعمُ ستينَ مسكيناً، فإنْ لم يقدر تصدَّقَ بما يُطيق"(1).

فالروايةُ ظاهرةٌ في الإطلاق، إذ لم يستفصلِ الإمام (ع) بين الإفطارِ على محلَّل أو محرَّم.

ومِن الروايات في ذلك ما رواه الشيخُ الطوسي بسندٍ موثَّقٍ عن سماعة قال: سألتُه عن رجلٍ أتى أهله في شهر رمضان متعمِّداً؟ قال (ع): عليه عتقُ رقبةٍ أو إطعاُم ستينَ مسكيناً أو صومُ شهرين متتابعين وقضاءُ ذلك اليوم، ومِن أينَ له مثلُ ذلك اليوم"(2).

وهذه الرواية ظاهرةٌ في الإطلاق أيضاً، إذ أنَّ إتيان الأهل قد يكون محرَّماً كما لو كانت حائضاً أو نفساء، فعدمُ الإستفصال والتفصيل يقتضي الظهور في الإطلاق.

وأمَّا منشأُ القولِ بوجوب كفَّارة الجمع فعمدتُه روايتان:

الأولى: ما أوردَه الشيخُ الصدوق في كتابه مَن لا يحضره الفقيه قال: "وأمَّا الخبرُ الذي رُوي فيمَن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمِّداً أنَّ عليه ثلاثَ كفَّارات، فإنِّي أُفتي به فيمَن أفطر بجماعٍ محرَّمٍ عليه أو بطعامٍ محرَّمٍ عليه لوجود ذلك في روايات أبي الحسين الأسدي (رضي الله عنه) فيما ورد عليه من الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري (قدس اللهُ روحه)"(3).

وقد أَورد بعضُهم على الشيخ الصدوق -رحمه الله- بأنَّ الرواية التي اعتمدَها في إيجاب كفَّارة الجمع على مَن أفطر على محرَّم مقطوعة، إذ أنَّها منسوبة للشيخ العمري ولم يُسندها الشيخُ العمري للإمام (ع) إلا أنَّ هذا الإيراد غيرُ تام، فإنَّ الظاهرَ من اعتماد الشيخ الصدوق هو احرازُه أنَّ ما ورد على أبي الحسين الأسدي من الشيخ أبي جعفر العمري -والذي هو السفيرُ الثاني للإمام الحجَّة (ع)-هو من كلام الإمام (ع) إذ من المستبَعَد غايتَه أنْ يعتمِدَ الشيخُ الصدوق في ذلك على اجتهاد العمري وغيره، فمن المطمئن به أنَّ الشيخ الصدوق كان محرِزاً أنَّ ما ورد عن العمري كان رواية لكلام الإمام (ع).

نعم الإشكال الذي يردُ على هذه الرواية هو أنَّ الشيخ الصدوق رواها عن أبي الحسين الأسدي ولم يذكر طريقَه له، فهي إذن في حكم المرسَلة، فتكون ساقطةً عن الاعتبار خصوصاً وأنَّه لم يعمل بها ظاهراً أحدٌ من قدماءِ الفقهاء سوى الشيخ الصدوق رحمه الله تعالى.

الرواية الثانية: أوردها الشيخ الصدوقُ أيضاً في كتابه مَن لا يحضره الفقيه باسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي -أبو الصلت- قال: "قلتُ للرضا (عليه السلام): يا بنَ رسول الله قد رُوي عن آبائك (عليهم السلام) فيمَن جامع في شهر رمضان أو أفطر فيه، ثلاثُ كفَّارات ورُوي عنهم أيضاً كفَّارة واحدة فبأيِّ الحديثين نأخذ؟ قال: بهما جميعاً، متى جامع الرجلُ حراماً أو أفطر على حرامٍ في شهر رمضان فعليه ثلاثُ كفارات: عتقُ رقبةٍ وصيامُ شهرين متتابعين، وإطعامُ ستين مسكيناً وقضاءُ ذلك اليوم، وإنْ كان نكَحَ حلالاً أو أفطر على حلالٍ فعليه كفارةٌ واحدة .."(4).

وهذه الرواية صريحةٌ في وجوب كفَّارة الجمع على مَن أفطر على محرَّم حيث ورد فيها أنَّ الامام الرضا (ع) قد قال: "متى جامع الرجلُ حراماً أو أفطر على حرامٍ في شهر رمضان فعليه ثلاثُ كفارات: عتقُ رقبة وصيامُ شهرين متتابعين، وإطعامُ ستين مسكيناً وقضاءُ ذلك اليوم"، إلا أنَّه أُشكل على سندالرواية من جهة اشتماله على عليِّ بن محمد بن قتيبة نظراً لكونه -بحسب الدعوى- مجهول الحال، فلم يُذكر بتضعيفٍ ولا توثيق، فالروايةُ بناءً على ذلك تكونُ ضعيفةَ السند وساقطةً عن الاعتبار إلا أنَّ الصحيح هو أنَّ الرواية معتبرةٌ سنداً، فعليِّ بن محمد بن قتيبة معتمَدٌ، نعم يرد على الاستدلال بالرواية أنَّ مشهور القدماء أعرضوا عن العمل بمضمونِها، لذلك كان المتعيَّن هو البناءُ على التخيير بين خصالِ الكفَّارة حتى على مَن أفطر على محرَّم استناداً لإطلاق مثل صحيحة عبدالله بن سنان وموثَّقة سماعة.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- الكافي -الشيخ الكليني- ج4 / ص101.

2- تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج4 / ص208.

3- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج2 / ص118.

4- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج3 / ص378.