اللحوم في أسواق المسلمين والأثر التكويني

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

كيف يجوز لنا أكلُ اللحوم الموجودة في أسواق المسلمين وينهانا اللهُ تعالى عن التأكُّد من تذكيتها حتى لو ساوَرنا الشكُّ، ومن جهةٍ أُخرى لو تناولنا لحماً غير مذكَّى حسب الشريعة جهلاً يبتلينا اللهُ تعالى بالآثار التكوينيَّة السيئة للميتة؟ أليس هذا قبيحاً عقليَّاً وظلماً من الله عزَّ وجل وحاشا لوجهه الكريم أنْ يظلم؟

 

الجواب:

لو حكم الشارع بحرمة اللحوم غير المعلومة التذكية والموجودة في أسواق المسلمين لوقع الناس في المشقَّة والحرج، لأنَّ أكثر الناس لا يتَّفق لهم الاِطلاع على كيفيَّة الذبح وأنَّه وفق الضوابط الشرعيَّة أو لا.

 

فلو كان اللازمُ العلم بكون هذه اللُّحوم مذكاة لتعسَّر على الناس ذلك، لأنَّ عليهم مشاهدة القصَّابين حين التذكية أو أنْ يشهد لهم على كلِّ ذبيحة عددٌ من العدول أنَّها قد ذُبحت وفق الضوابط الشرعيَّة، وأمَّا إخبار القصَّاب بذلك فهو خبرُ آحاد لا يُفيد العلم حتى ولو كان المخبِر ثقةً، لأنَّ قول الثقة إنَّما يُوجب الظنَّ وليس العلم، على أنَّ تحصيل الثقاة في القصَّابين غير متاحٍ دائماً ولو أُتيح فإنَّ اللحم لا يبقى في يد الذابح بل ينتقل إلى غير القصَّابين من المطاعم والمطابخ والمنازل وغيرها، فلو أخبرك صاحبُ المطعم فهو يُخبرُك عن بائعِ اللحم، والبائع يُخبرُك عن القصَّاب فوصول الخبر بالتذكية يتمُّ غالباً عبْرَ وسائط عديدة وهو ما يمنعُ من حصول العلم.

 

ولهذا فالحكم بحليَّة ما في سوق المسلمين رغم عدم ايجابه العلم بالتذكية نشأ عن موازنة الشارع بين التحفُّظ على التسهيل وعدم إيقاع المكلَّفين في المشقَّة والحرج وبين اتِّفاق وقوع بعضهم في أكل الميتة جهلاً، ولمَّا كان مِلاك التحفُّظ على التسهيل أهمُّ بنظر الشارع لذلك حكم بالحليَّة رغم أنَّه قد يتَّفق من ذلك وقوع المكلَّف في محذور أكلِ الميتة.

 

فالحكم بالحلِّيِّة نشأ -بتعبيرٍ آخر- عن تزاحم الملاكات المقتضي لتقديم الأهمِّ ملاكاً على المُهم، ويُمكن التقريب لذلك بما لو علِقتْ يدُ طفلٍ في تحفةٍ ثمينة ولم يكن من الممكن إخراج يده منها إلا بكسرها، فهنا يقع التزاحم بين التحفُّظ على يد الطفل من التلف وبين التحفُّظ على التحفة، وحيث أنَّ الأول أهمُّ ملاكاً لذلك يتعيَّن كسرُ التحفة حفاظاً على المِلاك الأهم وهو حماية يد الطفل من التلف.

 

فلا يُقال إنَّ كسر التُحفة ظلمٌ لمالكِها لأنَّ كسرها نشأ عن مبرِّرٍ عقلائي وهي أولويَّة التحفُّظ على يد الطفل من التلف.

 

فالأمرُ في المقام قريبٌ من هذا المثال، إذ لو حكم الشارع بوجوب تحصيل العلم بالتذكية لأوجب ذلك وقوع العباد في المشقَّة وعدم الوقوع في المشقَّة أهمُ ملاكاً من اتَّفاق الأكل للميتة في حالات محدودة.

 

ثم إنَّ المقصود من الآثار التكوينيَّة المترتِّبة على أكل الميتة هي الضرر الجسدي وليس المقصود منها الآثار المعنويَّة السيئة كقسوة القلب، فإنَّ ترتُّب ذلك غير محرَزٍ في ظرف الجهل، نعم يترتَّب مثل هذا الأثر المعنوي السيئ لو كان التناول للميتة نشأ عن التهاون بالمعصية كما في ظرف العلم التفصيلي أو حتى الإجمالي، وأمَّا إذا كان المكلَّف معذوراً في أكل الميتة كما في حالات الجهل فإنَّ من غير المُحرَز ترتُّب هذا الأثر أعني قسوة القلب مثلاً.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور