الأدعية المطوَّلة تلقَّاها الرواة مدوَّنةً

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

نقرأ الكثير من الأدعية والأحاديث الواردة عن النبيِّ (ص) وأهل البيت (ع) وهي طويلة جداً وعلى سبيل المثال دعاء الجوشن الكبير ودعاء أبي حمزة الثمالي المروي عن زين العابدين (ع) وغيرها من الأدعية .. فكيف كان ينقل أصحاب المعصومين (ع) والرواة هذه الأحاديث والأدعية؟ هل يحفظونها مباشرة أم يكتبونها؟

الجواب:

الأدعية المطوَّلة -وكذلك الروايات ذات المضامين الأخرى- تلقَّاها الرواة عن الرسول (ص) وأهل بيتِه (ع) سماعاً فدوَّنوها أو هي مدوَّنة فنسخوها وحفظها بعضُهم بعد تدوينها ورواها آخرون قراءةً أو إجازةً، ولتوثيق ذلك نذكر لكم بعضَ النماذج:

النموذج الأول: دعاء الجوشن الصغير:

وهو المنسوب للإمام الكاظم (ع)، أورده ابنُ طاووس في مهج الدعوات بسندٍ متصل إلى أبي الوضاح محمد بن عبد الله بن زيد النهشلي عن أبيه عبد الله بن زيد الذي كان من أصحاب الإمام الكاظم (ع) قال عبد الله بن زيد: "إنَّه كان جماعة من خاصَّة أبي الحسن الكاظم (ع) من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال، فإذا نطق بكلمةٍ أو أفتى في نازلة أثبت القومُ ما سمعوه منه في ذلك"، قال عبد الله: "فسمعناه وهو يقول في دعائه -ثم أورد الدعاء-، .." إلى آخر ما كتبوه من دعاء الجوشن الصغير(1).

النموذج الثاني: دعاء السمات:

قال الشيخ المجلسي: ووجدتُ بخط الشيخ الأجل شمس الدين محمد بن علي الجبعي جد شيخنا العلامة البهائي ما هذا لفظه: دعاء السمات وهو المعروف بدعاء الشبور، ويستحب الدعاء به في آخر نهار الجمعة رواه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عياش الجوهري. ثم ذكر سنده إلى الحسين الصباح قال: حضرتُ مجلس الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري السفير الثاني ..، قالوا: فنحبُّ ان تُملي علينا دعاء السمات الذي هو للشبور حتى ندعو به على ظالمنا ومضطهدنا والمخاتلين لنا والمتعزِّزين علينا، قال: حدثني أبو عمر عثمان بن سعيد العمري -السفير الأول- ..، ثم قال: هذا من مكنون العلم ومخزون المسائل عند الله: "بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إني أسألك باسمك العظيم الأعظم .."(2).

النموذج الثالث: دعاء المشلول:

ذكر ابن طاووس في مهج الدعوات قال: روى عن جماعة يُسندون الحديث إلى الحسين بن علي (ع) عن أمير المؤمنين (ع): ".. ثم قال -الإمام علي (ع)-: آتني بدواة وبياض واكتب ما أُمليه عليك ففعلت: قال: اللهمَّ إنِّي أسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، يا مَن لا يعلم ما هو ولا كيف هو ولا أين هو ولا حيث هو إلا هو .."(3).

النموذج الرابع: الصحيفة السجادية:

وورد في بعض أسانيدها المتصلة إلى متوكِّل بن هارون قال: لقيت يحيى بن زيد بن علي (ع) وهو متوجِّه إلى خراسان فسلَّمتُ عليه، فقال لي: من أين أقبلت؟ قلتُ: من الحج، فسألني عن أهله وبني عمِّه بالمدينة وأحفى السؤال عن جعفر بن محمد (ع)، فأخبرتُه بخبره وخبرهم وحزنِهم على أبيه زيد بن علي .. ثم قال: أكتبتَ من ابن عمي شيئاً، قلت: نعم، قال: أرنيه، فأخرجتُ إليه وجوهاً من العلم، وأخرجتُ إليه دعاءً أملاه عليَّ أبو عبد الله (ع) وحدَّثني أنَّ أباه محمد بن علي أملاه عليه، وأخبره أنَّه من دعاء أبيه عليِّ بن الحسين (ع) من دعاء الصحيفة الكاملة، فنظر فيه يحيى حتى أتى على آخره وقال لي: أتأذن لي في نسخه، فقلتُ: يا ابن رسول الله اُستأذن فيما هو عنكم، فقال: أما إنِّي لأخرجنَّ إليك صحيفة من الدعاء الكامل ممَّا حفظه أبي عن أبيه، وإنَّ أبي أوصاني بصونها ومنعها عن غير أهلها ..".

ثم إنَّ يحيى بن زيد دعا بعيبةٍ فاستخرج منها صحيفة مقفلة مختومة فنظر إلى الخاتم وقبَّله وبكى ثم فضَّه وفتح القفل ثم نشر الصحيفة ووضعها ثم قال: فاقبضها .. فهي أمانة لي عندك حتى توصلها .. فقبضتُ الصحيفة، فلما قُتل يحيى بن زيد صرتُ إلى المدينة فلقيتُ أبا عبد الله (ع) فحدَّثته الحديث، قال (ع): ".. وأين الصحيفة؟"، فقلتُ: ها هي، ففتحها وقال (ع): "هذا والله خطُّ عمي زيد ودعاءُ جدِّي عليِّ بن الحسين (ع)"، ثم قال الصادق (ع) لابنه: "قم يا إسماعيل فأتني بالدعاء الذي أمرتُك بحفظه وصونه"، فقام إسماعيل فأخرج صحيفةً كأنَّها الصحيفة التي دفعها إليَّ يحيى بن زيد، فقبَّلها أبو عبد الله (ع) ووضعها على عينه وقال: "هذا خطُّ أبي وإملاء جدي عليهما السلام بمشهدٍ مني، فقلتُ يا بن رسول الله إنْ رأيتَ أنْ أعرضها مع صحيفة زيد ويحيى فأذن لي .. فنظرت فإذا هما أمرٌ واحد ولم أجد حرفاً منها يُخالف ما في الصحيفة الأخرى .."(4).

وثمة نماذج أخرى يقف عليها المتتبع أعرضنا عن ذكرها رعاية للاختصار، على أنَّ ثمة روايات عديدة مفادها أنَّ أصحاب الأئمة (ع) كانوا حريصين على تدوين كلِّ ما يسمعون من علم أهل البيت (ع) وكان أهلُ البيت (ع) يحثُّونهم على التدوين والكتابة.

قال الشيخ البهائي في مشرق الشمسين: "قد بلغنا عن مشايخنا (قدس سرهم) أنَّه كان دأب أصحاب الأصول أنَّهم إذا سمعوا من أحد الأئمة (ع) حديثاً بادروا إلى إثباته في أُصولِهم لئلا يعرض لهم نسيانٌ لبعضِه أو كلِّه بتمادي الأيام"(5).

ولتوثيق ذلك نذكر لك بعض الروايات:

الأولى: روى السيد ابن طاووس في كتابه فلاح السائل بسنده عن سعد بن عبد الله الأشعري قال: عرض أحمد بن خانبه كتابه على مولانا أبي محمد الحسن بن علي بن محمد صاحب العسكر فقرأه وقال: "صحيح فاعملوا به"(6).

الثانية: روى الكليني في الكافي عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (ع) قال: "احتفظوا بكتبِكم فإنَّكم سوف تحتاجون إليها"(7).

الثالثة: روى الكليني بسنده عن عبد الله سنان قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع) يجيئني القوم فيستمعون منِّي حديثكم فأضجر ولا أقوى، قال (ع): "فأقرأ عليهم من أوله حديثاً ومن وسطه حديثاً ومن آخره"(8).

الرابعة: عن أحمد بن عمر الحلال قال: قلتُ لأبي الحسن الرضا (ع) الرجل من أصحابنا يُعطيني الكتاب ولا يقول: اروِه عني يجوز لي أنْ أرويه عنه قال: فقال (ع): "إذا علمتَ أنَّ الكتاب له فاروِه عنه"(9).

الخامسة: روى الكليني بسنده عن أبي بصير قال: سمعتُ أبا عبد الله (ع) يقول: "اكتبوا فإنَّكم لا تحفظون حتى تكتبوا"(10).

السادسة: ما رواه ابن طاووس بسنده عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (ع): "اكتب وبثَّ علمك في إخوانك فإنْ متَّ فوِّرث كتبك بنيك فإنَّه يأتي على الناس زمان هرج ما يأنسون إلا بكتبِهم"(11).

السابعة: ما رواه سبط الشيخ الطبرسي في مشكاة الأنوار عن أبي بصير قال: دخلتُ على أبي عبد الله (ع) فقال: "ما يمنعُكم من الكتابة؟ إنَّكم لن تحفظوا حتى تكتبوا، إنَّه خرج من عندي رهطٌ من أهل البصرة، سألوني عن أشياء فكتبوها"(12).

الثامنة: وروى الشيخ المفيد في الأمالي والكليني في الكافي بسنده عن أبي حمزة الثمالي قال: كان عليُّ بن الحسين (ع) إذا تكلَّم في الزهد ووعظ أبكى من بحضرته قال: أبو حمزة: فقرأتُ صحيفةً فيها كلام زهدٍ من كلام عليِّ بن الحسين (ع) وكتبتُ ما فيها وأتيتُه فعرضتُه عليه فعرفه وصحَّحه(13).

التاسعة: روى محمد بن الحسن الصفار في البصائر بسنده عن حمزة بن عبد المطلب الجعفي قال: دخلتُ على الرضا (ع) ومعي صحيفةٌ أو قرطاس فيه عن جعفر (ع): "إنَّ الدنيا .."، فقال (ع): "يا حمزة: ذا والله حقٌّ فانقلوه إلى أديم"(14).

العاشرة: روى سبط الشيخ الطبرسي عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال: "لكاتب كتبه أنْ يصنع هذه الدفاتر كراريس"، وقال (ع): "وجدنا كتب عليٍّ (ع) مُدرجة"(15).

هذه مجموعة من الروايات مدلولاتها مختلفة ولكنَّها جميعاً تعبِّر عن شديد الاهتمام بتدوين الأحاديث.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- مهج الدعوات -السيد ابن طاووس- ص219، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج91 / ص320.

2- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج87 / ص96.

3- مهج الدعوات -السيد ابن طاووس- ص153، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج92 / ص398.

4- الصحيفة السجادية ص10، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين (ع) -السدي علي خان المدني الشيرازي- ج1 / ص53.

5- مشرق الشمسين -البهائي العاملي- ص274.

6- فلاح السائل -السيد ابن طاووس- ص183، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج83 / ص14.

7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص81.

8- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص80.

9- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص80-81.

10- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص81.

11- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص81-82.

12- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج17 / ص292-293.

13- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج16 / ص11.

14- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج17 / ص297.

15- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج17 / ص293.