السيرة الذاتيَّة للإمام الحسن العسكري (ع)

 

الإمام أبو محمد الحسن بن عليٍّ العسكري (ع) هو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع) كما دلَّت على ذلك الرواياتُ الكثيرة والمعتبرة الصادرة عن الرسول الكريم (ص) وأهل بيته (ع)، هذا بالإضافة إلى الأدلَّة العامَّة الموجبةِ لإثباِت إمامة الأئمة الاثني عشر المعصومين (عليهم السلام).

 

تاريخ مولده واستشهاده:

وُلد الإمامُ (ع) يوم الجمعة في الثامنِ من شهر ربيع الثاني سنة 232هـ وقيل قبل ذلك، وقيل بعد ذلك بسنة، وكان مولدُه في المدينة المنورة، وقد بقي في كنف أبيه الإمام الهادي (ع) اثنين وعشرين سنة، وبعد استشهاد والده اطَّلع بمهامِّ الإمامة والتي استمرَّت ستُّ سنوات وبعدها اغتاله الخليفةُ العباسي المسمَّى بالمعتمد، وذلك سنة 260هـ، في الثامن من شهر ربيع الأول، وقد كان استشهادُه في مدينة سامراء ودُفن بها في البيت الذي دُفن فيه والدُه الإمامُ الهادي (ع)، ولم يُخلِّف الإمامُ العسكريُّ (ع) من الأولاد سوى الإمامِ المنتظر (عج)، وقد أخفى ولادتَه عن عامَّة الناس حتى لا يقعَ في يد السلطة العباسيَّة، إذ كانت تنتظرُ مولدَه حيث بلغها أنَّ الذي سوف يُقوِّض عروش الظالمين هو الإمامُ الثاني عشر من أئمة أهل البيت (ع)، ولذلك وضعت الرصَد على بيتِ الإمام العسكريِّ (ع) ودسَّت العيونَ حتى على نسائه، وقد كُبست دارُ الإمام مرَّاتٍ عديدة، وفي كلِّ مرَّةٍ لا يجدون في داره مَن يبحثونَ عنه. من هنا لم يكن يسعُ الإمامُ (ع) إظهار ولادةِ الإمام المهدي (ع) إلى عموم الناس إلا أنَّه لم يُـخفِ ولادتَه عن خواصِّ شيعتِه وأعيانِهم الموثوقِ بصدقهم عند عموم الشيعة.

 

الأدوار التي مارسها (ع):

نهَضَ الإمامُ العسكريُّ(ع) بأعباء الإمامة بعد استشهاد والده (ع) فقد تصدَّى لإيضاح معاني القرآن، وقد نَقلت عنه الرواةُ الكثير من ذلك، وقد كانت له إيضاحاتٌ وبياناتٌ وخطاباتٌ في مختلفِ المعارفِ الإسلامية، هذا بالإضافة لتصدِّيه إلى الشبهات التي كانت تُثيرُها التياراتُ الفكريَّة والعقديَّة، فقد فنَّد ما كانت عليه الثنويَّةُ والمفوِّضةُ والصوفيَّةُ وغيرُها من التيارات والمذاهب التي كانت رائجةً آنذاك، وقد كان يرصُدُ النشاطاتِ العلميَّة والفكريَّة ويُمارس معها دورَ التقويمِ أو التفنيد لو كانت منافيةً للعقيدة الإسلامية، ويتَّضحُ ذلك من ملاحظةِ الأسلوبِ الذي اعتمده مع الفيلسوف الكندي والذي كتبَ في متناقضاتِ القرآن، فما كان من هذا الفيلسوف إلا الإذعان والإقرار بفشل مشروعه ممَّا حدا به إلى إحراق ما كتبه بالنار مُعترفاً بأنَّه قد غفل عمَّا أثارَه الإمام (ع) ونبَّهه عليه.

 

والدور الآخر الذي اطلَّع به الإمامُ (ع) هو رعايةُ الجماهير المشايعة له والذين كان يمتدُّ وجودُهم في مختلف الأقطار الإسلامية مثل العراق والأهواز وقم والري ونيشابور وخراسان ومصر والحجاز وغيرها، فقد مارس معهم الإمامُ (ع) دور التوعية والتربية من خلال مكاتباته ووكلائه المنتشرين في الأقطار التي يوجد فيها شيعة لأهل البيت (ع)، وقد تركَّزت نشاطاتُه في هذا الصدد على أمور نذكر منها:

 

1- الإجابة عن الاسئلة والتي كانت تصله غالباً عن طريق المكاتبات، وهي كثيراً ما تكونُ متَّصلة بما يستجدُّ من أمورٍ مرتبطةٍ بالشؤون الشرعيَّة والسياسيَّة وما يُثارُ من شبهات عقَدية.

2- قضاء حوائج المؤمنين إمَّا مباشرةً أو بواسطة وكلائه.

 

3- التحذير من الانخراط في الفتن والاضطرابات السياسية، حيثُ كانت الدولة الإسلامية يلفُّها آنذاك الكثيرُ من التمُّوجات نتيجة أمورٍ لا مجال لعرضها.

4- إيضاح الموقف الديني تجاه كلِّ التيارات والمذاهبِ الفكريَّة والعقديَّة المنتشرةِ في تلك الحقبة من الزمن.

 

5- وصاياه الكثيرة والعامَّة والتي كانت تتركَّز حول تهذيب النفس، والتحلِّي بالأخلاق الفاضلة، والتحذير من الاغترار بالدنيا، والتأكيد على لزوم اتِّصاف الشيعة بسجايا ومزايا تُعبِّر عن سموِّ أخلاق روَّادِهم وقادتهم.

 

إثبات ولادة المهدي الموعود والإعداد لغيبته:

وهذا الدور الذي اطلَّع به الإمامُ (ع) كان من أصعب الأدوار التي ناءَ بها الإمامُ (ع)، فهو في الوقت الذي يحرصُ فيه على حماية الإمام المهدي (عج) من السلطة العباسيَّة كان مضطراً لإثبات ولادتِه. فالإمامُ (ع) وإنْ لم يجدْ صعوبةً في إثبات الفكرة المهدويَّة بعد وضوحها نتيجة الروايات والبشارات الكثيرة التي رواها المحدِّثون من الشيعة والسنة إلا أنَّ الصعوبة كانت تكمنُ في إثبات إنَّ الإمامَ الموعود قد وُلد، وأنَّ فصلاً جديداً يُوشك أنْ يبدأ. وهنا نشيرُ إلى بعض الأساليب التي اعتمدها الإمامُ (ع) لإثبات ولادة المهدي (عج):

 

الأسلوب الأول: عرض الإمام المهدي (ع) على خواصِّ شيعته وإبراز بعض كرماته لهم حتى يُذعِنوا بإمامته، فمِن ذلك ما وقع بعد ولادة الإمام بثلاثة أيام حيث دخل عليه جمعٌ من كبار الشيعة أمثال عليِّ بن بلال، ومحمد بن معاوية بن حكيم، والحسن بن أيوب بن نوح، وأحمد بن إسحاق، فعرض عليهم الإمام، فسأله أحمدُ بن إسحاق عن العلامة، فنطق الإمام المهدي (عج) وهو رضيع مضى على ولادته ثلاثة أيام فقال: "أنا بقيَّةُ الله في أرضه والمنتقِم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق"(1).

 

ومن ذلك ما ذكره الثقاة من الرواة أنَّ وفداً ضمَّ أربعين رجلاً من شيعة أهل البيت (ع) حضروا مجلس الإمام العسكري(ع)، وكان مِن بينهم السفير الأول عثمان بن سعيد العمري فسألوه -بعد ما استقرَّوا- عن الإمام المهدي (عج) فخرج عليهم الإمام (ع) كأنَّه قطعة قمر أشبه الناس بأبي محمد العسكري، فقال الإمام العسكري(ع): "هذا إمامكم بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرقوا .."(2).

 

الأسلوب الثاني: الإخبار بولادته وبيان بعض شمائله، وأنَّه تكون له غيبتان الأولى أقصر من الثانية.

 

هذا وقد مهَّد الإمامُ العسكري (ع) للغيبة من خلال خطاباته ومكاتباته، ومن خلال إرجاع الناس لوكلائه المنتشرين في الأقطار الإسلامية، وأعلن الإمام العسكري (ع) عن عهدٍ جديد -وحثَّ جماهير الشيعة على أنْ تتعاطى معه- وهو أنَّ المرجعية الدينيَّة في زمن الغيبة خصوصاً الكبرى منها تكونُ للفقهاءِ الأمناء على الدين والدنيا،فمن ذلك ما أفاده (ع) في خطاب عامٍّ أنَّه: "مَن كان مِنَ الفقهاءِ صائناً لنفْسِه حافِظاً لدينِه مُخالفاً لهواهُ مُطيعاً لأمرِ مَوْلاهُ فللعوامِّ أنْ يُقلِّدوه"(3).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

8 / ربيع الأول / 1424هـ


1- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص 384.

2- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص357.

3- "من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه" وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص131.