إشكالان حول العذاب في البرزخ

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾(1) إذا كانت لهم حياةٌ بعد الموت وقبل يوم القيامة وكانوا قد شاهدوا الأهوالَ ووقع عليهم العذابُ في البرزخ فكيف يقولونَ: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾؟! ألا تدلُّ هذه الآيةُ على نفي العذاب في القبر وعالمِ البرزخ؟

الجواب:

﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ .. هل ينفي حياة البرزخ:

ليس في الآية دلالةٌ على ذلك، إذ أنَّ منشأ توهُّم دلالة الآيةِ على نفي الحياة البرزخيَّة ونفي جود العذابِ في القبر هو فرضيَّة امتداد الحياة البرزخيَّة والعذابِ في القبر إلى يومِ البعث من الأجداث، حينئذٍ قد يُقال إذا كانوا رقودًا وأمواتًا بمقتضى الآية إلى يوم البعث فأين هي الحياة البرزخيَّة؟!

ولكنَّ الجواب عن ذلك هو أنَّ البناء على وجود الحياة البرزخيَّة والعذاب في القبر لا يستلزمً البناءَ على امتداد ذلك إلى يوم البعث فيُمكن الإلتزام بوجود الحياة البرزخيَّة ثم انقطاعها بالموت التام لمطلق الأحياء، وبعد ما يشاءُ اللهُ من وقتٍ يبعثُ الأمواتَ ليوم القيامة. حينذاك يُمكن لنا تعقُّل أنْ يصدرَ هذا التساؤلُ من المبعوثين من الأجداث ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ إذ انَّهم كانوا واقعًا غارقين في كتم الموت برهةً لا يَعلمُ مداها إلا اللهُ فحين بُعثوا أصابهم الذعرُ لهولِ ما يجدونه فأذهلَهم ذلك عمَّا كانوا قد وجدوه في البرزخ وعمَّا كانوا قد تلقَّوه في الدنيا مِن وعد الأنبياء فتساءلوا: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ ثم ما لبِثوا أنْ استوعبوا المشهدَ فقالوا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾.

ولعلَّ ما يشهدُ على ذلك قولُه تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾(2) فثمة نفختان في الصور بحسب مفاد هذه الآية وآياتٍ أخرى، الأولى منهما يموتُ عندها كلُّ الأحياء في السماواتِ والأرض إلا مَن شاء الله، والثانيةُ يقعُ عندها البعثُ للناس.

وقد أكَّدت بعضُ الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) وكذلك من طريق العامَّة أنَّ ثمة نفختين وأنَّ بينهما أمدًا لا يعلمُ مداهُ إلا الله، يموتُ في الأولى كلُّ الأحياء ويُبعثُ في الثانية كلُّ الأموات.

فمن ذلك: ما ورد في تفسير عليِّ بن إبراهيم عند قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ قال: حدَّثني أبي، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن النعمان الأحول، عن سلام بن المستنير، عن ثوير بن أبي فاختة، عن عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) قال: سُئل عن النفختين كم بينهما؟ قال: ما شاء الله، فقِيل له: فأخبرني يا بن رسول الله كيف يُنفخ فيه؟ فقال: أمَّا النفخةُ الأولى فإنَّ الله يأمرُ إسرافيل فيهبط إلى الدنيا ..، قال: فإذا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبط إلى الدنيا ومعه الصور قالوا: قد أذِن الله في موت أهل الأرض وفي موتِ أهل السماء، قال: فيهبطُ إسرافيل .. فلا يبقى في الأرض ذو روح إلا صعِق ومات قال: فيقولُ الله لإسرافيل: يا إسرافيل مُت، فيموتُ إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء الله، ثم يأمرُ اللهُ السماوات فتمور، ويأمرُ الجبال فتسير، وهو قوله: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا مورا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ..﴾(3) ثم تحدَّثت الرواية عن النفخة الثانية ووقوع الحشر ليوم القيامة(4).

ومن ذلك: ما ورد في كتاب الاحتجاج للطبرسي (رحمه الله) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديثٍ طويل، وفيه قال السائل: أفتتلاشى الروحُ بعد خروجه عن قالبه أم هو باقٍ؟ قال (ع): بل هو باقٍ إلى وقتِ يُنفخ في الصور، فعند ذلك تبطلُ الأشياء، وتفنى فلا حسٌّ ولا محسوس، ثم أُعيدت الأشياء كما بدأها مدبِّرُها ..، وذلك بين النفختين"(5).

فإذا ثبت أنَّ ثمة نفختين وأنَّه يتحقَّق عند النفخة الأولى الموتُ التام للأحياء -بقطع النظر عن طبيعة الحياة- فعندئذٍ لا غرابة في أنْ يتساءلَ الكافرون بعد يقظتِهم وبعثِهم ليوم القيامة، لا غرابة في أنْ يتساءلوا: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ فقد كانوا أمواتًا بعد النفخة الأولى وإنْ كانت لهم أو لبعضهم نحو حياةٍ قبلها في عالم البرزخ. فإنَّ حياة البرزخ قد تعقَّبها موتٌ مطلق امتدَّ إلى ما شاءَ اللهُ تعالى، فأيُّ محذورٍ يَمنع من تعقُّل ذهولِهم عمَّا كانوا قد عاينوه في عالم البرزخ، فإنَّ القرآن يتحدَّثُ عن أهوالٍ تقعُ عند البعث والنشور تطيشُ منها العقول فلا غرابةَ في أنْ يتساءلَ الكافرون عمَّن بعثَهم مِن مرقدِهم وإنْ كانوا قد أبصروا شيئًا من الحقيقة عند الموت وفي حياة البرزخ ثم إنَّهم لن يلبثوا إلإ يسيرًا وعندها يثوبُ إليهم رشدُهم ويستوعبون المشهدَ ويُدركون أنَّ ذلك هو ما وعد به الرحمنُ وصدق المرسلون.

وخلاصةُ ماذكرناه: إنَّ قول الكافرين حين بعثِهم ﴿يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ لا ينفي حياة البرزخ وذلك لأنَّ الكافرين قبل بعثهم كانوا رقودًا، وحياة البرزخ مرحلة سبقت الموت الذي وقع بعد النفخة الأولى وقبل النفخة الثانية.

وقد يُتوهَّم أنَّ قولَه تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(6) يقتضي امتداد البرزخ إلى يوم يُبعثون، وعليه كيف يستقيمُ ذلك مع دعوى تحقُّق الموتُ التام بعد النفخة الأولى وقبل قيام الساعة؟

والجواب أنَّ الآية لم تُثبت ولم تَنفِ امتداد الحياة في البرزخ، وإنَّما أفادت أنَّ ثمة برزخًا وفاصلًا يقعُ بين النشأتين الدنيا والآخرة، فالبرزخُ الذي يمتدُّ إلى يوم القيامة مسكوتٌ عن شأنه في هذه الآية من جهةِ أنَّ فيه حياة أولا؟ وإذا كان فيه حياة هل هي ممتدَّة إلى يوم البعث أو منقطعة؟ فلا منافاة بين هذه الآية وبين دعوى أنَّ ثمة نفختين يموتُ عند الأولى كلُّ الأحياء كما هو المُستظهَر من قولِه تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾.

وبما ذكرناه يتَّضح أنَّه لا موجب لإنكار الحياة في البرزخ وعذاب القبر بعد تواتر الروايات المقتضية لثبوت ذلك في الجملة، وآية ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ لا تنفي ذلك بعد اتَّضاح أنَّ حياة البرزخ لا تمتدُّ إلى يوم البعث.

عذاب القبر ألا ينافي أنَّ الحساب يوم الحساب:

بقي إشكالٌ يتمسَّكُ به المُنكرون لعذابِ القبر نذكرُه بالمناسبة وهو أنَّ دعوى وجود العذاب في القبر لبعض الكافرين والعصاة يتنافي مع ما دلَّ من الآيات على أنَّ الحساب إنَّما يكون في يوم الحساب، فإيقاعُ العذاب في البرزخ على الكافرين يقتضي أنْ يتقدَّم حسابُهم على يوم القيامة، وهذا يُنافي ما ثبتَ من أنَّ الحساب إنَّما يكون في يوم القيامة.

والجواب:

هو أنَّ يوم القيامة هو يومُ الحساب الأكبر، ففيه يُحاسب الناسُ على أفعالِهم الخطيرِ منها والحقير قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(7) وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(8) لكنَّه ليس في الآياتِ ولا في الروايات ما يدلُّ على انحصار الجزاء على العمل بالآخرة بل إنَّ الكثير من الآيات- وكذلك الروايات- صريحةٌ أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه الحَسَنِ أو السَيءِ في الدنيا أو عند الموت أو ما بعد الموت وقبل قيام الساعة.

فمن الآيات التي دلَّت على وقوع العذاب والعقوبة في الدنيا جزاءً على سوء العمل قولُه تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ / لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾(9).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(10).

ومنها: قوله تعالى: ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(11).

ومنها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم﴾(12).

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾(13).

والآيات في ذلك كثيرةٌ جدًّا، وهي صريحةٌ في أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه السيء في الدنيا قبل يوم الحساب في الآخرة، وفي عرض هذه الآيات ثمة آياتٌ تدلُّ على أنَّ الإنسان قد يُجازى على حُسن صنيعه في الدنيا وله في الآخرى جزاءُ الضعف.

فمِن تلك الآيات قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(14) لهم نصيبٌ ممَّا كسبوا في الدنيا وأمَّا في الآخرة فيُوفِّيهم أُجورهم.

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾(15).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾(16).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(17) فهذه الآية تدلُّ على جزاء التقوى وجزاء التكذيب في الدنيا.

ومن الآيات التي دلَّت على أنَّ الإنسان قد يلقى جزاءَ صنيعه عند الموت قولُه تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾(18).

فهذه الآيةُ واضحةُ الدلالة في أنَّ مثل هؤلاء الظالمين يسوؤهم ما يجدونه في غمراتِ الموت من ملائكة العذاب، يتوعَّدونهم بالنكال وعذاب الهوان بل الآيةُ ظاهرةٌ في أنَّهم يتلقَّون العذاب لحظةَ انتقالهم من عالم الدنيا، وهو ما يقتضي أنَّ لهم نحوَ حياةٍ بعد الموت يتلقَّون فيها عذابَ الهَوان كما هو مقتضى مفاد قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾.

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾(19).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾(20).

فالكافرون بمقتضى مفاد الآيتين يتلقَّون جزاء كفرهم وجحودهم الضربَ على الوجوه والأدبار عند النزع أو بعد انتقال أرواحِهم من عالم الدنيا.

وبهذه الآيات ومثلها يتبيَّن أنَّ كون القيامة هي يوم الحساب لا يعني أنَّ الإنسان لا يلقى قبلها شيئًا من جزاء عمله الحَسَن أو السَيء، وبذلك تسقطُ دعوى الإنكار لعذابِ القبر استنادًا إلى أنَّ الحساب والجزاءَ مؤجَّلٌ إلى يوم القيامة، فإنَّ هذا المُستند يُناقضُ الكثيرَ من الآيات التي دلَّت على أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه في الدنيا وعند الموت وكذلك بعد الموت وقبل يوم القيامة كما هو مقتضى مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(21).

فإنَّ هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الشهداء يتلقَّون شيئًا من جزاء عملِهم قبل يوم القيامة فهم: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.

وكذلك فإنَّ قولَه تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(22) يدلُّ بوضوحٍ على أنَّ آلَ فرعون يَحيق بهم ويحوطهم العذابُ قبل يوم القيامة، فهم يُعرضون على النار صباحَ مساء ثم إذا قامت الساعة أُمر بهم فأُدخلوا أشدَّ العذاب.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة يس / 51.

2- سورة الزمر / 68.

3- سورة الطور / 9-10.

4- تفسير القمّي -علي بن إبراهيم القمي- ج2 / ص252.

5- الاحتجاج -الشّيخ الطّبرسي- ج2 / ص97.

6- سورة المؤمنون / 99.

7- سورة الأنبياء / 47.

8- سورة الزلزلة / 7-8.

9- سورة الرعد / 33-34.

10- سورة البقرة / 114.

11- سورة الزمر / 25-26.

12- سورة المائدة / 41.

13- سورة فصلت / 16.

14- سورة البقرة / 201-202.

15- سورة نوح / 10-12.

16- سورة الطلاق / 2-3.

17- سورة الأعراف / 96.

18- سورة الأنعام / 93.

19- سورة محمد / 27.

20- سورة الأنفال / 50.

21- سورة آل عمران / 169-171.

22- سورة غافر / 45-46.