ما هو دور بني عقيل في قرار الثورة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة: 

هل كان لبني عقيل دورٌ في قرار الحرب؟

 

الجواب:

لم يكن لبني عقيلٍ (رضوانُ الله عليهم) أيُّ دورٍ في قرار الحرب، ومنشأُ هذا الاستفهام هو ما نقلَه بعضُ المؤرِّخين من أنَّ الإمام الحسين (ع) لمَّا بلَغَه في "زرود" مقتلَ مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة قال: "قال عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل الأسديان: ننشدُك الله يا ابن رسول الله (ص) إلاَّ انصرفتَ مِن مكانِك هذا، فإنَّه ليس لك بالكوفة ناصر". فقام آلُ عقيل وقالوا: لا نبرح حتى نُدرك ثأرنا أو نذوقَ ما ذاق أخونا، فنظرَ إليهم الحسين (ع) وقال: لا خيرَ في العيش بعد هؤلاء"(1).

هذا الحدث -كما توهَّم البعض- هو منشأُ القرار باستمرار السير إلى الكوفة بعد أنْ لم يكن مِن مبرِّرٍ لذلك نظرًا لانكشاف خُذلان أهل الكوفة للحسين (ع).

إلاَّ أنَّه نقول إنَّ هذا الخبر مضافاً إلى عدم قابليَّته للإثبات التأريخي لتفرُّد هذين الرجلين المجهولين بنقلِه فإنَّه لو تجاوزنا ذلك فإنَّ هذا الخبر لا يُعبِّر عن أنَّ قرار استمرار المسير إلى الكوفة كان لغرض الانتقام لمقتل مسلم بن عقيل، وذلك يتَّضحُ من ملاحظة ما سبَق هذا الحدث مِن أحداثٍ ومواقف وملاحظة ما لحقتْه من أحداثٍ ومواقف.

فالحسينُ (ع) قد بلَغه خُذلانُ أهل الكوفة قبل أنْ يبلغَه مقتل ابن عقيل ومع ذلك استمرَّ في عزمِه على المسير إلى الكوفة، فقد بلغه في "الصفاح" أنَّ قلوبَ الناس معه وأنَّ سيوفَهم مع بني أميَّة، أخبره بذلك الفرزدق ثمَّ أنَّه لمَّا بلغ "ذات عرق" لقيه بشر بن غالب فسألَه الإمام (ع) عن أهل الكوفة فقال له: "السيوف مع بني أميَّة والقلوبُ معك" فعلَّق الإمام (ع) على ذلك بقوله: "صدقت"(2).

ونقل ابنُ كثير في البداية والنهاية عن محمَّد بن سعيد قال حدَّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدَّثنا جعفر بن سليمان عن يزيد الرشك قال: حدَّثني مَن شافه الحسين قال: "رأيتُ أخبيةً مضروبةً بفلاة مِن الأرض فقلتُ: لمَن هذه؟ قالوا: هذه لحسين، قال: فأتيتُه فإذا شيخ يقرأُ القرآن والدموع تسيل على خدَّيه ولحيته، قال: قلتُ بأبي وأمِّي يا ابن بنت رسول الله (ص) ما أنزلك هذه الفلاة التي ليس بها أحد؟ فقال: هذه كتبُ أهل الكوفة إليَّ ولا أراهم إلا قاتلي(3).

هذه بعض النصوص المؤكِّدة على أنَّ الحسين (ع) قد بلَغه خُذلانُ أهل الكوفة أو عدم قدرتهم على مؤازته ورغم ذلك استمرَّ في مسيره إليهم وهو ما يُعبِّر عن أنَّ المسير إليهم لم يكن لغرض الانتقام لمقتل مسلم بن عقيل لأنّه لم يُقتل بعدُ حينذاك، فلا بدَّ إذن مِن البحث عن المبرِّر الحقيقي لاستمرار الحسين (ع) في السير إلى أهل الكوفة رغم معرفته بخذلانهم أو عجزِهم عن مؤازرتِه ومناصرته.

هذا أوّلاً وثانيًا:

إنَّ ملاحظة المواقف والمحاورات والخطابات التي ألقاها الإمامُ الحسين (ع) في طريقه بعد "زرود" وفي كربلاء تؤكِّد أنَّ مقتل مسلم بن عقيل لم يكن له أيُّ دورٍ في قرار الاستمرار في المسير إلى العراق ومواجهة بني أميّة.

فلم يكن مِنْ أثَرٍ أو ذكرٍ لهذا الغرض في جميع المحاورات والخطابات التي نقلَها المؤرِّخون والرواة، فلو كان الانتقام وأخذُ الثأر لمسلم هو الدافع للحسين(ع) وأهل بيته على مواصلة السير إلى الكوفة أو كان هذا الغرض هو أحد الدوافع لظهَر ذلك على لسان الإمام الحسين (ع) ولو بنحوٍ مقتضَب في حين أنَّ المؤرِّخين لم ينقلوا لنا شيئًا مِن ذلك في حين أنّهم نقلوا لنا الكثير مِن كلمات الإمام الحسين (ع) المعبِّرة عن أهدافه مِن متابعة المسير إلى الكوفة وليس فيها ما يدلُّ ولو بنحو الإشارة على أنَّ الانتقام لمسلمٍ هو أحد الدوافع.

ولتوثيق ما ذكرناه ننقلُ لك بعض النصوص الموضِّحة لأهداف النهضة ومتابعة المسير إلى الكوفة.

النصُّ الأوّل: ذكر المؤرِّخون أنَّ الحسين (ع) لمّا التقى بجيش الحرِّ بن يزيد الرياحيّ استقبلهم بعدما سقاهم فحمِد الله وأثنى عليه وقال: "إنَّها معذرةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ وإليكم وإنّي لم آتِكم حتّى أتتني كتبُكم وقدِمتْ بها عليَّ رسلُكم أنْ أقدِم علينا فإنَّه ليس لنا إمام، ولعلَّ اللهَ أنْ يجعلنا بك على الهدى، فإنْ كنتم على ذلك فقد جئتُكم فأعطوني ما أطمئنُّ به مِن عهودكم ومواثيقكم وإنْ كنتم لمقدمي كارهين انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي جئتُ مِنه إليكم".

ثمَّ أذَّن المؤذِّن لصلاة الظهر فصلّى بهم الحسين (ع) صلاة الظهر وبعد أنْ فرغ مِن الصلاة قام فيهم خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه وصلَّى على النبيِّ محمّد (ص) وقال: "أيُّها الناس إنَّكم إنْ تتَّقوا الله وتعرفوا الحقَّ لأهله يكن أرضى لله، ونحنُ أهل بيت محمَّدٍ (ص) أولى بولاية هذا الأمر مِن هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم والسائرين بالجور والعدوان، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهيَّة لنا والجهل بحقِّنا وكان رأيُكم على غير ما أتتني به كتبُكم انصرفتُ عنكم".

قال الحرُّ: "ما أدري ما هذه الكتب التي تذكرها"، فأمر الحسينُ عقبةَ بن سمعان فأخرج خرجَيْن مملوءَيْن كتبًا.

فقال الحرُّ: إنّي لستُ مِن هؤلاء وإنّي أُمرتُ أنْ لا أفارقك إذا التقيتُ بك حتّى أُقدمك الكوفة على ابن زياد.

فقال الحسين: "الموتُ أدنى لك"(4).

هذا النصُّ يكشف لنا عن دوافع المسير إلى الكوفة وعن دوافع النهضة والخروج على بني أميّة.

أمّا دوافع اختيار المصير إلى الكوفة دون غيرها مِن الأمصار فهي دعوة أهل الكوفة له وتأكيدُهم له بواسطة رسلِهم ورسائلِهم أنّهم على استعداد تامٍّ لمؤازرته والوقوف معه في وجه النظام الأمويِّ وأنّه جاء ليعتذرَ إلى الله عزَّ وجلّ بعد تماميَّة الحجَّة لوجود الناصر حيث إنَّ الإمام مسئولٌ أمام الله عزَّ وجلَّ عن مقارعة الظلم والفساد والسعي لاجتثاث أصوله عندما يتهيَّأ مَنْ بهم الكفاية لمؤازرتِه ومناصرته، فهو إنَّما جاء لأداء وظيفته الإلهيَّة، وهذا هو معنى قوله "معذرةً إلى الله عزّ وجلّ".

على أنَّ ثمّة غرضاً آخر لمجيء الإمام إلى أهل الكوفة وهو الاعتذار للأمّة والتاريخ، إذ لو لم يستجب لدعوات أهل الكوفة وكتبِهم لأدانته الأمّة ولاتَّهمه التاريخ بالتقاعس عن مسئوليَّته الإلهيَّة، فحتّى لو كان الحسين(ع) معذورًا عند الله عزَّ وجلَّ إلاّ أنَّ الأمّة لن تقبلَ له عذرًا بعد أنْ تواترتْ عليه الكتب تلحُّ عليه بالنهوض لمواجهة الانحراف الخطير الذي داهم الأمّة نتيجة ما أحدثه النظامُ الأمويُّ مِن عظائم الأمور، ولأنَّه أراد أنْ يؤكِّد لهم مشروعيَّة النهوض وضرورته سعى إليهم رغم ما يُدركه مِن واقع حال أهل الكوفة، فلقد أفاد في موضعٍ عندما نصحه عمرو بن لوذان بالرجوع إلى المدينة لأنَّ أهل الكوفة أهل غدرٍ وخيانة قال (ع): "ليس يخفى عليَّ الرأيُ وأنَّ الله لا يُغلب على أمره"(5).

فالحسينُ (ع) رغم معرفته بواقع حالهم ورغم ما بلَغه مِن أخبارهم إلاّ أنَّه أصرَّ على إتمام الحُجَّة لنفسه أمام الله تعالىوأمام الأمَّة والتاريخ، وهذا هو معنى قوله: "إنَّها معذرةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ وإليكم". وبعد أنْ تمّت له الحجَّةُ عليهم أفاد (ع): "إنْ كنتم لمقدمي كارهين انصرفتُ عنكم". وذلك لا يعني الانصراف عن أصل المواجهة لبني أميّة وإنَّما يعني استبدال هذا الخيار -وهو الإنتصار بأهل الكوفة- إلى خيارٍ آخر.

وأمَّا دوافع النهضة فهي السياسةُ التي اعتمدتها بنو أميَّة في الأمّة، حيث كانت تعتمدُ الجور والعدوان وسيلةً للهيمنة على رقاب الأمَّة ومقدَّراتها، وذلك يفرض على الأمَّة مسئوليّة السعي مِن أجل القضاء على هذه الطُغمة الفاسدة والعابثة بحقوق العباد ومصائرهم.

ثمّ إنَّ الإمام (ع) في هذا الخطاب يُؤكِّد أنَّ حقَّ الولاية والإمامة ثابتٌ لأهل بيت محمَّدٍ (ص) وأنَّ ذلك يُعرف عندما تلتزمُ الأمّة طريق الاستقامة والتقوى وتتحرَّى مواطنَ الرضوان الإلهي وأنَّ الأمّة عندما تتنكّب هذا الطريق تكونُ قد انحرفت عن مسار التقوى وتجاهلتْ حقًّا كان قد جعله الله عزّ وجلّ لأهل هذا البيت الطاهر، فلو كان للأمّة أنْ تعتذر عن تجاهلها لهذا الحقِّ بأنَّها لم تكن تُدركُ خطورة ما سيئول إليه الأمر نظرًا لما كان عليه القادة قبل بني أميّة مِن ظاهر الصلاح فإنَّ العُذر بعد أنِ استبدَّ بنو أميَّة بالحكم قد انقطع، والرُشد قد أصبح بيِّنًا فلم يبقَ عذرٌ يُعتذَر به عن السعي لإعادة الأمور إلى نصابها.

بهذا الخطاب يكون الإمامُ الحسين (ع) قد أوضح دوافع نهضته وأنّها تستهدفُ التصحيح لمسار الأمَّة بالنحو الذي أراده الإسلام وأنَّ على الأمَّة أنْ تقف معه في هذا السبيل.

النصُّ الثاني: ذكر المؤرِّخون أنَّ الإمام الحسين (ع) خطبَ في أصحاب الحرِّ في منطقة البيضة فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: "أيُّها الناس إنَّ رسول الله (ص) قال: مَنْ رأى سلطانًا جائرًا مستحلَّاً لحرام الله ناكثًا عهده مخالفًا لسنَّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يُغيِّر عليه بعملٍ ولا قول كان حقًّا على الله أن يُدخله مدخله، ألا وإنَّ هؤلاء قد لزِموا الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلَّوا حرام الله وحرَّموا حلالَه، وأنا أحقُّ مَنْ غيَّر، وقد أتتني كتبُكم وقدمتْ عليَّ رسلُكم ببيعتِكم إنَّكم لا تُسلموني ولا تخذلوني، فإنْ أتممتم عليَّ بيعتكم تُصيبوا رشدكم فأنا الحسين بن عليٍّ وابن فاطمة بنت رسول الله نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، ولكم فيَّ أسوة، وإنْ لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتي مِن أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، فالمغرور مَن اغترَّ بكم فحظَّكم أخطأتم ونصيبَكم ضيَّعتم، ومَن نكث فإنّما ينكثُ على نفسه وسيُغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"(6).

في هذا الخطاب أوضح الإمامُ الحسين (ع) ما كان أجمله في خطابه الأوّل وأنَّ خروجه على بني أميّة لم يكن استجابةً لدعوات الكوفة وإنّما هو امتثال لأمر الله ورسوله (ص)، ولذلك استشهد بقول رسول الله (ص) ثمَّ طبَّق الفرضيّة التي جاءت في حديث رسول الله (ص) على واقع الأمَّة، وأفاد بأنَّه أجدر الناس بامتثال ما جاء في كلام رسول الله (ص) مِن الأمر بالتصدّي للتغيير.

إذن هذا هو ما استهدفه الإمامُ الحسين (ع) حين عقد العزم على مواجهة بني أميّة، فلم يكن خروجه على بني أميّة استجابةً لدعوات أهل الكوفة نعم خيار المصير إلى أهل الكوفة دون غيرهم كان نتيجةً لدعوتهم إيَّاه وزعمهم له أنَّهم على استعدادٍ لمؤازرته ومناصرته ولهذا قصدهم وألحَّ في المسير إليهم لِيُتمَّ لنفسه الحجَّة عليهم وليعتذر لنفسه أمام الله عزَّ وجلَّ وأمام الأمَّة والتاريخ، وبعدئذٍ يختطُّ لنفسه طريقًا لم يكن سواه سبيلاً لتصحيح مسار الأمَّة ألا وهو الاستشهاد.

وبهذا النصِّ والذي قبله ونصوصٍ أخرى كثيرة صدرت بعده تُبيِّن دوافع النهضة ودوافع المصير إلى أهل الكوفة، وتُلاحظون أنّه ليس فيما بيَّنه الإمامُ مِن دوافع أيُّ أثرٍ أو ذكرلما توهّمه البعض مِن أنَّ منشأ إصراره على المصير إلى أهل الكوفة هو الانتقام لمقتل مسلم بن عقيل.

وحتّى تتوثَّق مِن صحّة ما ذكرناه يمكن مراجعة جميع الخطب التي ألقاها الإمام الحسين (ع) قُبيل يوم العاشر وفي اليوم العاشر ولولا خشيةُ الإطالة لاستعرضناها بكاملها. هذا ثانيًا.

وأمّا ثالثًا: فمِن السفاهة بمكان توهُّم هذا الأمر، حيث هو يُعبِّر عن الجهل بسموِّ نفسيَّة الإمامالحسين(ع) وحصافةِ عقله والذي هو مورد وفاقٍ بين الأمّة، وإذا كان الأمرُ كذلك فهل يُتعقَّل أنْ يسفك الحسينُ دمَه ودمَ أولاده وإخوته وبني عمومته ويُعرِّض نساءه وبناته لكلِّ هذه الصعوبات ثمّ يكون غرضه مِن كلِّ ذلك الانتقام لمقتل مسلم بن عقيل، فهل فقَد الحسين(ع) صوابه!! والعياذ باللهأم لم يكن متشرِّعًا وعارفًا بحرمة إلقاء النفس في التهلكة؟! ألم تكن الإخبارات الكثيرة التي بلغته بخُذلان أهل الكوفة له أو بعجزِهم عن مناصرته كافية ليصدَّه عن المصير إليهم لو لم يكن ثمّة هدفٌ سامٍ دفَع بالحسين(ع) نحو تعريض نفسه وعيالاته للموت، وقد صرَّح الحسينُ أنَّ الأمر لم يكن ليخفى عليه إلاّ أنّه: "لم يعتد مَن كان الحقُّ نيَّته والتقوى سريرته"(7).

ثمّ إنّه وبعد أنْ تبيَّن فساد ما توهَّمه البعض مِن أنَّ منشأ الإصرار على المسير إلى الكوفة هو الانتقام لمقتل مسلم بن عقيل نرى مِن المناسب الوقوف قليلاً مع النصِّ التاريخي الذي كان هو منشأ التوهّم المذكور فنقول:

إنّ الشيء الذي لا ريب فيه هو أنَّ بني عقيل حينما خرجوا مع الحسين (ع) إلى الكوفة كانت غايتُهم واقعة في صراط الغايات التي مِن أجلها خرج الحسين (ع) وإلاّ لما كانوا قد خرجوا معه، فبنو هاشم كانوا كثيرين إلاّ أنَّهم لم يخرجوا مع الحسين (ع) وتخلَّفوا عنه في مكّة والمدينة بعذرٍ وبغير عذر، فالذين رحلوا مع الحسين (ع) مِن بني هاشم كانوا على يقينٍ بسلامة موقف الحسين، فلم يجعلوا لأنفسهم خيارًا في مقابل الخيار الذي اختاره لهم الحسينُ (ع) فهم طَوعُ أمرِه ورهنُ إشارته.

هكذا كان بنو هاشم وهكذا كان بنو عقيل، وأمّا قيامُهم عند سماعهم بمقتل أخيهم وقولهم أنَّهم لا يبرحون حتّى يأخذوا بثأره أو يذوقون الموت دون ذلك فهو -لو صحَّ- قد نشأ عن شدّة تأثّرهم بالخبر، فقد كان مفاجئًا بالنسبة لهم ومُفجعًا ومهولاً حيث بلَغهم أنَّ جسده قد رُمي به مِن أعلى القصر ثمّ طافوا به في الأسواق وبعد ذلك احتزَّ بنو أميّة رأسَه وبعثوا به إلى الشام.

ولهذا كان وقعُ الخبر على قلوبِهم شديدًا فقد ارتجَّت له مشاعرهم وتحرَّكتبه حميَّتُهم، وذلك هو الذي أنتج ردَّة الفعل الجامحة التي عبَّر عنها بنو عقيل بهذه الكلمات، ولم يكن مِن المناسب في مثل هذه اللحظة القاسية سوى تسليتِهم والتعبيرِ عن مواساتهم بالنحو الذي يتناسبُ وحجم الغيظ الذي انتابهم، مِن هنا جاءت كلمات الإمام الحسين(ع) متناغمة ومستوى الشعور الذي تملَّكهم وأفاد "أنَّه لا خير في العيش بعد هؤلاء".

فما أفاده الحسين (ع) كان لغرض التعبير عن موقع بني عقيل مِن قلبِه وأنّهم لُحْمتُه وخاصَّتُه، وأنّ دمَهم مِن دمِه فهو لا يشحُّ به عليهم، وبذلك سكنتْ خواطرُهم، إذ هم أحوجُ ما يكون في تلك اللحظة إلى هذه المؤازرة والمشاطرة مِن شيخِهم ومصدرِ عزِّهم.

هذا كلُّ ما في الأمر وظلَّ الهدفُ مِن الخروج على بني أميّة وإلى أهل الكوفة بعد الخبر -بعد خبر مسلم- هو عينه الهدف الذي مِن أجله خرج الحسين (ع) إلى العراق، ولهذا لا تجد اختلافًا في خطابات الحسين(ع) المتصدِّية لبيان أهداف النهضة والمتصدِّية لبيان أهداف المصير إلى العراق، فهي على نسَقٍ واحد منذُ أنْ خرج مِن مكّة وإلى أنْ وصل كربلاء وهي بمرأى ومسمع مِن بني عقيل فلم يستدرك عليه أحد ليذكِّره بأنَّ واحدًا مِن دوافع المصير إلى الكوفة هو الانتقام لمسلم ممّا يُعبِّر عن أنَّ ذلك لم يكن غرضهم فضلاً عن كونه غرضًا للحسين (ع) فلم يكن موقفهم حينذاك إلاّ انسياقًا مع مقتضيات العاطفة والشعور بالألم.

ويمكن تأكيد ذلك بنصٍّ ذكره المؤرِّخون(8) وهو أنَّ الحسين في ليلة العاشر أذِن لبني عقيل بالانصراف وقال لهم: حسبكم مِن القتل بمسلم، فلم يكن جوابُهم أنّنا لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا أو نذوقَ الموت دون ذلك بل كان جوابُهم معبِّرًا عن انقيادهم لشيخِهم وسيِّدهم ولم يكن لقضيَّة مسلم أيُّ ذكرٍ في كلامهم، وكلُّ ما أفادوه هو أنّهم على استعدادٍ للتضحية بأرواحهم وأموالهم وأهليهم وأنّهم يطمحون في أنْ يردوا مورده ثمّ قالوا قبَّح اللهُ العيش بعدك.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: تساؤلات حول النهضة الحسينية

الشيخ محمد صنقور


1- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص75، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص447، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص300، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص42، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص178.

2- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص165، الأمالي الخميسية -الشجري الجرجاني- ج1 / ص219، الأغاني -أبي الفرج الأصفهاني- ج21 / ص257، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج44 / ص367، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص180.

3- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص183، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص306، ترجمة الإمام الحسين -ابن عساكر- ص308، ترجمة الإمام الحسين في طبقات ابن سعد ص64 قال: فإذا فعلوا ذلك لم يدَعوا لله حرمةً إلا انتهكوها، فيُسلِّط اللهُ عليهم من يُذلُّهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة -يعني مقنعتها.

4- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص80، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص303، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص47، إعلام الوري -الطبرسي- ج1 / ص449، بحار الأنوار -المجلسي- ج44 / ص377 البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص186.

5- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص76، تاريخ الطبري -الطبري- ج 4 / ص301، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج44 / ص375، مقتل الحسين -أبي مخنف- ص80.

6- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص304، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص48، مقتل الحسين -أبي مخنف- ص86، الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص81، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج44 / ص382.

7- الإرشاد -للشيخ المفيد- ج2 / ص67، تاريخ الطبري -الطبري- ج 4 / ص290، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص40، 62.

8- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص92، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص318، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص58، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص455، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص183، مقتل الحسين -أبي مخنف- ص109، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج44 / ص393.