معنى قوله (ع): "دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيري"

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما معنى قولِ الإمام عليٍّ (ع) حينَ عرضوا عليه الخلافة: "دَعُونِي والْتَمِسُوا غيري، ولعلِّي أسمعُكم وأطوعُكم لمَن ولَّيتُموه أمرَكم، ولَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وأَطْوَعُكُمْ، لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً"(1)، ألا يُنافي ذلك ما وردَ من النّصّ عليه من قِبَل الله تعالى؟

 

الجواب:

مصدر الرواية وحال راويها:

نبدأ الجواب أولاً بإيضاحِ أمرٍ لعلَّه خافٍ عليكم وهو أنَّنا نحن الإماميَّة لا نقولُ بصحَّةِ جميعِ ما ورَد في كتاب نهج البلاغة، ذلك لأنَّ كتابَ نهج البلاغة عبارة عن مجموعةٍ من الخُطب والرسائل والحِكَم المنسوبة لأمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (ع) جمَعَها السيِّدُ الشريفُ الرضيُّ رحمه الله مِن مجموعة من المصادر.

 

وعليه لا بدّ في مقام الاحتجاج بأيِّ خطبةٍ أو رسالة من مراجعةِ مصدرِها فإنْ كان مُعتبراً صحَّ الاحتجاجُ بها وإلا لم يكن الاحتجاجُ بها تامًّا، ولهذا فالروايةُ المذكورة وإن كانت واردةً في نهج البلاغة إلا أنَّها غير معتبرةٍ نظرًا لضعفِ مصدرها، إذ أنَّ الشّريف الرّضيّ رفعها إلى عليّ (ع) دون أنْ يذكر لها مصدراً و كذلك نقلَها ابنُ شهر آشوب في مناقبِ آل أبي طالب دون أن يذكرَ مصدرَه لها"(2) ولم أجد هذه الرواية في مصدرٍ آخر من مصادرِنا، فالمرجَّح أنَّ كلاً من السيِّدِ الشريف وابنِ شهراشوب قد أخذا الروايةَ المذكورة من غير مصادرنا، وبعد التتبُّع تبيَّن أنَّ مصدر الخطبة المذكورة هو سيفُ بن عمر الضبَّي حيث أوردَها في كتابه (الفتنة ووقعة الجمل) وهذا الرجل في غايةِ الضعفِ عند علماء الجرحِ والتعديلِ من أهل السُنَّة، فقد ذكره النسائي في كتاب الضعفاء والمتروكين وقال: "سيفُ بن عمر الضبِّي ضعيفٌ"(3)، وذكرَه العقيلي في كتابه ضعفاء العقيلي وقال: "حدَّثنا محمد بن عيسى قال: حدَّثنا العبَّاس بن محمد قال: سمعتُ عيسى يقول: سيفُ بن عمر الضبِّي يُحدِّث عن البخاري هو ضعيف .."(4).

 

وذكر الرازي في كتابه الجرح والتعديل: ".. عن ابن معين أنَّه قال: سيف بن عمر الضبِّي الذي يُحدِّث عنه المحاربي ضعيفٌ الحديث. حدَّثنا عبدُ الرحمن قال: سُئل أبي عن سيفِ بن عمر الضبِّي قال: متروكُ الحديث .."(5).

 

وذكر ابن حبَّان في كتاب المجروحين قال: "سيفُ بن عمر الضبِّي الأسيدي من أهل البصرة اتُّهِم بالزندقة، يروي عن عبيد الله بن عمر، روى عنه المحاربي كان أصلُه من الكوفة يروي الموضوعاتِ عن الأثبات، حدَّثنا محمَّدُ بن عبد الله بن عبد السلام ببيرون سمعتُ جعفر بن أبَان يقول: سمعتُ ابن نُمير يقول: سيف الضبِّي تميميٌّ، وكان جميع يقول: "حدَّثني رجلٌ من بني تميم، وكان سيف يضعُ الحديث، وقد اتُّهم بالزندقة"(6).

 

فإذا كان هذا هو حال مَن أورد الرواية فكيف يصحُّ اعتمادها والاحتجاج بها؟!

 

هذا وقد أورد الروايةَ الطبريُّ في تاريخه إلا أنَّه اعتمد في نقلِها على سيف بن عمر الضبِّي، وأمَّا ابنُ الأثير في الكامل فلم يذكر سندًا للرواية ولعلَّه اعتمد على الطبريِّ كما هو الغالب.

 

وعليه فالرواية ساقطةٌ عن الاعتبار والحجيَّة حتى بناءً على مباني علماءِ السُنَّة.

 

الغرض من الامتناع ابتداءً:

ثانيًا: لو تنَزَّلنا جدَلاً وسلَّمنا بصدور هذه الرواية فإنَّها لا تدلُّ على نفي استحقاق الإمام عليٍّ (ع) للخلافة بالنصِّ، وذلك لظهورِها في أنَّ امتناعَ عليٍّ (ع) عن قبول البيعة كان لغرض إملائه لشرطِه عليهم، إذ أنَّ عدم قبولِهم بشرطه يقتضي عدم صحّة قبولِه لبيعتِهم. وذلك يتَّضح من ملاحظة تمامِ الرواية: "دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي، فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ، لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، ولَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ، رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ، وإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ، ولَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وأَطْوَعُكُمْ، لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً"

 

فالواضحُ من مساق الخطبة بتمامِها أنَّ امتناعَ الإمام (ع) عن قبول البيعة ابتداءً كان لغرض أخذ الحَيطة لنفسِه منهم، فقد جاءُوه مندفعين بعد مقتلِ عثمان، وفيهم من شارَكَ في قتلِه، وفيهم من ألَّبَ على عثمان ولم يكنْ يرتضي سياستَه، ويطمحُ في أنْ يتَّخذَ الخليفةُ الذي يليه السياسةَ التي يرتضيها هو، وفيهم مَن يأملُ أن يسيرَ فيهم بسياسة الشيخين، على أنَّ المسلمين حينذاك كانوا في وضعٍ استثنائيٍّ، فلم يكن معهودًا قتلُ خليفةِ المسلمين بعد حصارٍ دام زمنًا ليس بالقصير نسبيَّاً، وكان الثوَّارُ الذين قادوا الثورة على عثمان خليطًا، فمنهم مَن كانَ من العراق، ومنهم مَن كان مِن مصر، ومنهم مَن كان مِن الحجاز، وفيهم عددٌ الصحابة، وهؤلاءِ جميعاً يتفاوتون من حيثُ الوعي والطموح والميول، فلم يكن مِن المناسب القبولُ ببيعتِهم بمجردَّ عرضِهم إيَّاها عليه دون أنْ يأخذَ لنفسِه الحيطةَ منهم فيُلزِمَهم بشروطِه.

 

فكانَ حاصلُ شرطِه أنْ يكونَ هو القائد فعلاً وواقعًا لا أنْ يكون مَعبَرًا يُمرَّرون به خياراتِهم وسياساتِهم فيكون في واقع الأمر تابعًا، ويكونون هم القادة، وهذا هو معنى قوله (ع): "واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ، رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ"(7).

 

فالإمامُ (ع) قد برَّر امتناعَه عن قبول البيعة ابتداءً بقوله:"إِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ، لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، ولَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ"(8).

 

فمفادُ حديثِه (ع) أنَّ الأيامَ المُقبِلة زاخرةٌ بفتنٍ وأحداثٍ مُتلوَّنةِ الوجوهِ والمعالم، يختلطُ الحقُّ فيها بالباطل، لذلك تختلفُ العقولُ في تشخيصِها كما تختلفُ فيما ينبغي اتِّخاذُه من موقفٍ تجاه كلِّ مُعضلةٍ تنشأُ عنها، كما أنَّ القلوب لن تصمُدَ أمام مِحنٍ هي بحجم هذه المِحنِ التي تنتظرُ الأمَّة، فقد يعروها الوهنُ وتبتلي بالإعياء وتُصابُ بالخَوار، فلا تصبرُ على مجالدةِ الباطل وتطمحُ في الخلود إلى الدِّعةِ والراحة. وحينئذٍ لا تكونُ في مستوى المسئوليَّةِ المُناطةِ بها.

 

ثم أفاد الإمامُ (ع) إنَّ هذه الفتن التي أُنذرُكم بوقوعِها لا يفصلُكم عنها زمنٌ بل إنَّكم قد ولجتُم فيها، وهذا هو معنى قوله: "وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ".

 

وبهذا العَرْض لواقعِ ما عليه الأُمَّةُ بعد مقتل عثمان وواقعِ ما ينتظرُها برَّر الإمامُ (ع) امتناعَه عن القبول الابتدائي للبيعة، وبه مهَّد للشرط الذي أراد أنْ يشترطَه عليهم حتى يقبلَ ببيعتِهم، وهو قوله: "واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ، رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ" فإنْ لم يقبلوا به لم يكن من التعقّل القبولُ ببيعتِهم، وذلك هو ما يُعفيه من المسئوليَّة الشرعيَّة، إذ لا يصحُّ عقلاً ولا شرعًا القبولُ بولايةٍ يكون معها في موقعِ التابع فيَفرض عليه الثوَّارُ وذووا النفوذ خياراتِهم خصوصاً وهو يرى أنَّ عقولَهم لن ترقى لمستوى القدرة على تشخيص الحقِّ من الباطل، ذلك لأنَّ الآفاق قد أغامت والمحجَّةَ قد تنكَّرتْ كما أفاد (ع) وهم كذلك بنظرِه غيرُ واجدين للأهليَّة التي تمنحُهم القدرةَ على سلوك الطريقِ الجادِّ والصائب، وهذا هو معنى قوله: "لا تقومُ له القلوبُ ولا تثبتُ عليه العقول".

 

وحينئذٍ كيف يصحُّ له أنْ يقبل بولايةٍ يكونُ مثلُ هؤلاءِ فيها هم الساسةَ والقادةَ، ولهذا فرضَ عليهم هذا الشرط فحينما قبِلوا به قَبِل بيعتَهم، ولو لم يقبلوا لكان لهم وزيرًا ناصحًا مُرشداً فلا يتحمَّل حينئٍذ تبعاتِ ما يتَّخذونه من قرارات، وهذا هو معنى قوله "وأنا لكم وزيرًا خيرٌ لكم منِّي أميراً".

 

ثم إنَّه لو قبِل ابتداءً ببيعتِهم -في ظلِّ هذه الأجواء المُتلبَّدة بالفتنِ وسوءِ الظن وما آل إليه أمرُ بعض الصحابة- لتوهَّم بعضُهم أنَّ عليَّاً (ع) حريصٌ على الدنيا ولظنَّ آخرون أنَّه كان قد ساهم في التدبير لقتلِ عثمان ليصفوَ له الأمرُ بعده، فلم يكن المسلمون جميعًا على معرفةٍ بما انطوتْ عليه سريرةُ عليٍّ (ع) من نُبلٍ وسموِّ نفسٍ ومِن زهدٍ وعزوفٍ عن الدنيا.

 

ورغم أنَّه قد اشترط عليهم هذا الشرط إلا أنَّ بعضَهم طمعَ في أنْ يستجيبَ الإمام عليٌّ (ع) لرغبتِه، فدخل عليه طلحةُ والزبيرُ بعد البيعةِ، أحدُهما يطمحُ في ولايةِ البصرة والآخر يُمنِّي نفسه بولاية الكوفة، فحينما خاب سعيُهم وأبى الإمام عليهما ذلك وأبدى لهما ما يُعبِّرُ عن عدم أهليَّتِهما لهذا الموقع نكثا بيعتَه، ودخل عليه المغيرةُ بنُ شعبة واقترح عليه الإبقاء على معاويةِ وعدم عزلِه عن ولاية الشام فأبى عليه الإمامُ (ع) ذلك فلحِق بمعاوية وآزرَه على حربِه، وطلب منه آخرون أنْ يُخلِّي بينهم وبين ما أقطعَه إيَّاهم عثمانُ من أموالٍ وضياع فحينما رفض نقمِوا عليه.

 

فلم ترُقْ لهم السياسة التي قرَّر اعتمادَها وأعلنَ عنها في أول خطبةٍ خطبَها بعد البيعة حيث أفاد (ع): "ألا وإنَّ كلَّ قطيعة أقطعَها عثمان وكلَّ مالٍ أعطاه من مالِ الله فهو مردودٌ في بيت المال، فإنَّ الحقَّ لا يُبطلُه شيء ولو وجدتُ قد تُزوِّج به النساء ومُلِكَ به الإماء وفُرِّق في البلدان لرددتُه، فإنَّ في العدل سعةً، ومَن ضاق عليه الحقُّ فالجورُ عليه أضيق"(9).

 

هذا وقد كان لتمنِّع عليٍّ (ع) عن القبول بالبيعة ابتداءً والشرطِ الذي اشترطه عليهم كان له سعة في أنْ يحتجَّ عليهم كلَّما ابدوا ممانعةً عن القبول بسياستِه. لذلك تكرَّر منه التذكيرُ لهم بتمنُّعِه وشرطِه وإصرارِهم عليه بالقبول.

 

فقال كما ورد في نهج البلاغة: "وبَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا ومَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا، ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكَّ الإِبِلِ الْهِيمِ عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، حَتَّى انْقَطَعَتِ النَّعْلُ، وسَقَطَ الرِّدَاءُ ووُطِئَ الضَّعِيفُ، وبَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّايَ أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِيرُ وهَدَجَ إِلَيْهَا الْكَبِيرُ وتَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِيلُ وحَسَرَتْ إِلَيْهَا الْكِعَاب"(10).

 

وقال في خُطبتِه الشهيرة المعروفةِ بالشقشقيَّة: "فَمَا رَاعَنِي إِلَّا والنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ، فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، ومَرَقَتْ أُخْرَى وقَسَطَ آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ حَيْثُ يَقُولُ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(11) بَلَى! واللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا ووَعَوْهَا، ولَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ ورَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا، أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، ومَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ"(12).

 

امتناعه ابتداءً لا ينافي استحقاقه الشرعي:

والمُتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ الرواية المذكوره لا تنفي استحقاقَ الإمام عليٍّ (ع) للخلافة بالنصِّ عليه من قِبَلِ الله تعالى ورسولِه (ص) إذ أنَّ استحقاقَه الشرعيَّ لا يقتضي عدمَ التدبير لنفسِه لإحكام ولايتِه الظاهريَّة، فلم يكن المندفعونَ لبيعتِه يُقرُّون جميعاً بالنصِّ عليه بعد أنْ جحد به مَن سبَقهم. ورغم ذلك فقد احتجَّ عليهم بعد البيعة في مواردَ عديدة بالنصِّ عليه، فأقرَّ له بذلك جمعٌ من الصحابة وتنكَّر آخرون.

 

ونحن هنا نذكر مورداً من تلك الموارد رواه الهيثمي في مجمع الزوائد عن الصحابيِّ أبي الطُفيل قال: "جمَعَ عليٌّ (ع) الناس في الرحبة ثم قال لهم: أُنشدُ بالله كلَّ امرئٍ مسلمٍ سمع رسولَ الله (ص) يقولُ يومَ غديرِ خم ما قال لَما قام، فقامَ إليه ثلاثونَ من الناس، قال أبو نعيم: فقامَ ناس كثيرٌ فشهِدوا حيثُ أخذَ بيدِه فقال: أتعلمون إنِّي أولى بالمؤمنين من أنفسِهم قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال (ص): مَنْ كنتُ مولاه فهذا مولاه اللهمَّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه، قال: فخرجتُ كأنَّ في نفسي شيئاً فلقيتُ زيدَ بن أرقم فقلتُ له: إنِّي سمعتُ عليَّاً يقول: كذا وكذا، قال: فما تُنكِر، قد سمعتُ رسولَ الله (ص) يقولُ ذلك".

 

قال الهيثميُّ: رواهُ أحمد ورجالُه رجالُ الصحيح غير فطرِ بن خليفة وهو ثقة.

 

ثمّ ذكر روايةً عن سعيد بن وهب بنفس المضمون وعلَّق عليها بقوله: رواه أحمد ورجالُه رجال الصحيح.

 

وذكر روايةً قريبةً من هذا المضمون عن سعيد بن وهب وعن زيد بن بثيع وعلَّق عليها بقوله: رواه البزازُ ورجالُه رجالُ الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة، وذكر روايةً رابعةً قريبةَ المضمونِ من الرواياتِ السابقة وعلَّق عليها بقولِه: رواهُ أبو يعلى ورجالُه وُثِّقوا(13).

 

والحمد لله ربّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص181.

2- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج1 / ص378.

3- كتاب الضعفاء والمتروكين -النسائي- ص187.

4- ضعفاء العقيلي -العقيلي- ج2 / ص175.

5- الجرح والتعديل -الرازي- ج4 / ص278.

6- كتاب المجروحين -ابن حبان- ج1 / ص345.

7- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص181.

8- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص181.

9- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج1 / ص269.

10- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج2 / ص222.

11- سورة القصص/ 83.

12- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص36.

13- مجمع زوائد -الهيثمي- ج9 / ص104.