"أمَّا السبُّ فسبُّوني وأمَّا البراءةُ فلا تتبرأوا منِّي"

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

يقول الإمامُ عليُّ بنُ أبي طالب (ع): "إذا دُعيتم لسبِّي فسبُّوني وإذا دُعيتم للبراءةِ منِّي فلا تتبرأوا منِّي"(1).

ما الفرق بين السبِّ والبراءة وكلاهما لفظان غير قلبيين؟ ولماذا التبرؤ من الإمام عليٍّ (ع) لا يجوز بينما التبرؤ من النبيِّ (ص) ومن الإسلام جائزٌ كما هي الحادثة المشهورة لآل ياسر ومنهم عمَّار؟

الجواب:

لا يختلفُ أحدٌ من الفقهاء في أنَّ التلفُّظ بالبراءةِ من عليٍّ (ع) تقيةً وحفاظاً على النفس أو العِرض جائزٌ شرعاً، وأمَّا ما ورد من التفصيل بين السبِّ والبراءة فلا عبرةَ به بعد أنْ أفاد الإمامُ الصادق (ع) في موثَّقة مسعدة بن صدقة أنَّه قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع): إنَّ الناس يروون أنَّ عليَّاً (ع) قال على منبر الكوفة: "أيُّها الناس إنَّكم ستُدعون إلى البراءةِ منِّي فلا تتبرأوا مني"، فقال (ع): "ما أكثر ما يكذبُ الناس على عليٍّ (ع)" ثم قال: إنَّما قال: "إنَّكم ستُدعون إلى سبِّي فسبُّوني ثم تُدعون إلى البراءةِ مني وإنِّي على دينِ محمَّدٍ (ص)، ولم يقلْ: ولا تتبرأوا منِّي"، فقال السائل: أرأيت إنْ اختار القتلَ دون البراءة؟ فقال (ع): "والله ما ذلك عليه، وما لَه إلا ما مضى عليه عمَّارُ بن ياسر"(2).

ويمكنُ تأييدُها بما وردَ في كتاب الاحتجاج عن الإمام عليٍّ (ع) قال: "وقد أذنتُ لكم في تفضيل أعدائنا إنْ ألجأك الخوفُ إليه وفي إظهار البراءةِ إنْ حمَلَك الوجلُ عليه -إلى أنْ قال-: وإنَّ إظهارَك براءتَك منَّا عند تقيتِك لا يقدحُ فينا ولا يُنقصنا -إلى أنْ قال- وإيَّاك ثم إياك أنْ تتركَ التقيَّة التي أمرتُك بها .. فإنَّك إنْ خالفتَ وصيَّتي كان ضررُك على إخوانِك ونفسِك أشدَّ من ضررِ الناصبِ لنا .."(3).

هذا مضافاً إلى أنَّ رواياتِ النهي عن إظهار البراءة مخالفةٌ بحسب ظهورِها الاُولي لصريح القرآن القائل ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ﴾(4) وللرواياتِ المتواترة الناهية عن مخالفة التقيَّة الإكراهيَّة كما أنَّها منافيةٌ لما هو المدرك بالفطرة من لزوم التحفُّظ على النفس من ايقاعِها في التهلكة، لذلك لابدَّ من طرح هذه الروايات لو استحكم ظهورُها في حرمة التلفُّظ بالبراءة بل لا يبعدُ سقوطُها حتى لو كانت ظاهرةً في الجواز بناءً على أنَّ الأمر بمدِّ الأعناق عند العرض على البراءةِ أو النهيَ عن إظهارِ البراءة إنَّما هما أمرٌ ونهيٌ مسوقان في مقام توهُّم الحظر، فلا يدلَّان على اللزوم وإنَّما يدلَّان على الجواز.

وأمَّا ما وردَ من أنَّ ميثم التمَّار (رحمه الله) أبى أنْ يتلفَّظ بالبراءة فقُتل فكان شهيداً ومستحقَّاً للجنَّة فهي قضيةٌ في واقعة، فلا يصحُّ التمسُّك بمثل ذلك لإثبات وجوب الإمتناع من إظهار البراءة، إذ لعلَّ امتناعَه نشأ عن علمِه بأنَّ عبيد الله بن زياد سوف يقتلُه على أيِّ تقدير فأختارَ الامتناعَ من البراءة، لأنَّ موضوعَ التقيَّةِ منتفٍ في حقِّه أو لعل منشأ ذلك هو أنَّه شخَّص أنَّ التقية من مثله وفي ظرفه ينتهي في المآل إلى طمس الحقِّ واندثار معالمه وفي مثل هذا الفرض لا تُشرع التقية بل يتعيَّن الجأر بالحقَّ وإن أودى ذلك بالنفس، ولعل هذا أيضاً هو منشأ ما نقلَه المؤرِّخون من أحوال بعض أصحاب الإمام عليٍّ (ع) ممَّن عُرضَت عليهم البراءة فامتنعوا من إظهارِها.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج16 / ص228.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج16 / ص225.

3- الاحتجاج -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص355.

4- سورة البقرة / 195.