اختلاف عدد الملائكة اللذين تحدَّثوا إلى مريم

شبهة مسيحي:

ذكر القرآن في سورة آل عمران أنَّ جمعاً من الملائكة تحدَّثوا إلى مريم العذراء ولكنَّه في سورة مريم ذكر أنَّ الذي تحدَّث إليها كان ملاكاً واحداً: ﴿رُوحَنَا﴾.

ففي سورة آل عمران يقول القرآن: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾(1) ويقول أيضاً في نفس السورة: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾(2) ولكنَّه يقول في سورة مريم: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾(3) ويقولُ أيضاً في نفس السورة: ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾(4). 

وقد أجاب المسلمون عن ذلك أنَّه ربَّما كانت هناك مناسبتان لحديث الملائكة مع مريم، وإجابة ذلك هي أنَّ البشارة بشيءٍ تتمُّ مرَّة واحدة، وفي المرَّة الأخرى تُصبح البشارة قديمة أي لا تُسمَّى بشارة.

الجواب:

الجواب على وجهين:

الوجه الأول: على فرض أنَّها حادثة واحدة:

لو كانت المحادثة التي وقعتْ لمريم (ع) مع الملائكة واحدة وأنَّه لم يتم التبشير لها بإنجاب السيِّد المسيح إلا مرَّةً واحدة فإنَّ ذلك لا يُفضي إلى توهُّم أنَّ القرآن قد اختلف نقلُه لهذه الواقعة لمجرَّد أنَّه أفاد في سورة آل عمران أنَّ الذي بشَّر مريم كانوا جمعاً من الملائكة، وأفاد أنَّ الذي بشَّرها بالسيِّد المسيح في سورة مريم كان ملَكاً واحداً، فإنَّ مثل ذلك ليس من الإختلاف في النقل كما توهَّم صاحبُ الشبهة، وذلك لوضوح أنَّه حين يُبعث وفدٌ إلى أحدٍ لتبليغه رسالةً محدَّدة من قِبَل السلطان مثلاً فإنَّ الذي يتصدَّى لتبليغ الرسالة واحدٌ من الوفد، ويكون ذلك عادةً في محضر مجموعِ الوفد، وبعدئذٍ يُقال في مقام الإخبار عن هذه الواقعة: نقل الوفد رسالةَ السلطان إلى فلان في حين أنَّ الذي بلَّغ رسالة السلطان كان واحداً من الوفد وليس مجموع الوفد إلا أنَّ المصحِّح لنسبة النقل والتبليغ للمجموع هو أنَّهم إنَّما ذهبوا وحضروا مجلس المرسَل إليه لهذه الغاية، فهم جميعاً مكلَّفون بحمل هذه الرسالة من السلطان إليه، غايته أنَّ طبيعة الحال تقتضي أنْ يكون المتصدِّي لتبليغ الرسالة واحداً منهم لا جميعهم.

فقولُه تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾(5) ليس معناه أنَّ الملائكة بشَّروا السيدة مريم بصوتٍ واحد فإنَّ ذلك خلاف الظاهر جدَّاً، وكذلك فإنَّ تبليغهم لذات الرسالة والبشارة واحداً بعد واحد في مجلسٍ واحد خلافُ الظاهر، فإنَّه من اللغو الذي لايتَّفق وقوعُه من العقلاء في مثل هذا الفرض، فهم وإنْ كانوا قد جاؤوا جميعاً لتبليغ الرسالة من عند الله تعالى إليها إلا أنَّ الغرض من بعثهم جميعاً هو التكريم للسيِّدة مريم والتنويه على أنَّها ذات مقامٍ وحظوةٍ عند ربِّها كما هو ديدن العقلاء عندما يروم أحدُهم من ذوي الوجاهة أنْ يبعثَ برسالةٍ إلى رجلٍ محظيٍّ عنده أو صاحب وجاهةٍ ومقام فإنَّه يبعث الرسلة إليه ضمن وفدٍ من خاصَّته، وقد يبعثُ لهذه الغاية عدداً من أبنائه تعبيراً عن إجلاله للمرسَل إليه، وقد يكون الغرضُ هو بعث الاطمئنان في نفس المرسَل إليه، وقد يكون الغرضُ هو التعبير عن أهميَّة المضمون الذي اشتملتْ عليه الرسالة.

فإنفاذُ الرسالة ضِمن وفدٍ رغم أنَّ الذي يتصدَّى لتبليغها واحدٌ منهم تُبرِّره العديدُ من الغايات العقلائيَّة، وتلك الغايات هي منشأ ما نجدُه من جريان سيرتِهم على ذلك في مختلف الأعصار، فلذلك نجدُ في وقتنا الراهن ما عليه سيرةُ الرؤساء والملوك، فهم يبعثون وفداً يصفونه بأنَّه رفيعُ المستوى ويترأس هذا الوفد رجلٌ هو أعلاهم منصباً، ويكون هو المتصدِّي لتبليغ الرسالة إلى رئيس تلك الدولة، ونجدُ أنَّ نقَلة الأخبار في مقام النقل لخبر تبليغ الرسالة ينسبون تبليغها تارةً لمجموع الوفد فيقولون مثلاً: إنَّ الوفد قد بلَّغ الرئيس رسالة الملك، وتارةً ينسبون تبليغ الرسالة إلى مسئول الوفد فيقولون: إنَّ فلاناً وهو رئيس الوفد قد بلَّغ رسالة الملك، فرغم أنَّ الخبرين متصدِّيان لنقل واقعةٍ واحدة إلا أنَّنا لا نجدُ بينهما اختلافاً وتهافتاً مع أنَّ الخبر الأول نسب تبليغ الرسالة إلى مجموع الوفد، ونسبها الخبرُ الثاني إلى واحدٍ من الوفد، فكلا الخبرين صادقان، وذلك لأنَّ نسبة التبليغ إلى مجموع الوفد في الخبر الأول كان باعتبار أنَّ مجموع الوفد مكلَّفون بهذه المهمَّة، وقد جاؤوا وحضروا لهذه الغاية، وأمَّا نسبةُ التبليغ لواحدٍ من الوفد في الخبر الآخر كان باعتباره المتصدِّي للمشافهة أو التسليم للرسالة.

ولهذا فإنَّ ماورد في سورة مريم من نسبة الحديث مع مريم إلى ملَكٍ واحد لا ينافي ماورد في سورة آل عمرآن من نسبة الحديث إلى مجموع الملائكة المرسَلين إلى مريم (ع) فإنَّ نسبة الحديث إلى الروح جبرئيل في سورة مريم كان باعتبار أنَّه المتصدِّي لنقل البشارة إلى مريم، وأمَّا نسبة الحديث إلى مجموع الملائكة في سورة آل عمران فكان بلحاظ أنَّ المجموع كانوا مكلَّفين بالنزول إلى مريم (ع) وحمل البشارة إليها بالسيِّد المسيح (ع).

والذي يُؤيِّد أنَّ الذي تحدَّث إلى مريم كان ملَكاً واحداً وليس مجموع الملائكة اللذين نزلوا بالبشارة إليها، الذي يُؤيِّد ذلك أنَّ الآيات من سورة آل عمران بعد أنْ نسبت الحديث بالبشارة إلى مجموع الملائكة: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ﴾ عادت فنسبت المحادثة إلى واحدٍ من الملائكة، فهي حين بلَّغتها البشارة: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ (6) فأجابها الملك: ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ فنسبت الآية القول إلى المفرد ولم تنسبه إلى مجموع الملائكة.

النتيجة:

وبذلك يتَّضح أنَّ المحادثة التي أخبرت عنها سورةُ آل عمران لو كانت هي عينُها التي أخبرت عنها سورةُ مريم (ع) فإنَّه لا يكون ثمة تنافٍ بين نسبة الحديث تارةً للملائكة كما في سورة آل عمران ونسبته تارةً أخرى لملَكٍ واحدٍ من الملائكة كما في سورة مريم (ع).

الوجه الثاني: افتراض أنَّها حادثتان:

على انَّه لا يتعَّين إتِّحاد الواقعة في السورتين، فمِن المحتمل قويَّاً أنَّ محادثة الملائكة لمريم التي أخبرت عنها سورةُ آل عمران هي غير ما وقع للسيِّدة مريم من حديثٍ مع الأمين جبرئيل الذي أخبرت عنه سورةُ مريم.

تكرُّر البشارة:

وأمَّا ما ذكرَه صاحبُ الشبهة من أنَّ البشارة إذا تكرَّرت فإنَّها لا تكونُ في المرَّة الثانية بشارة فهو غريب، إذ أنَّ البشارة لم تُذكر إلا في سورة آل عمران، ففيها قالت الملائكةُ لمريم (ع): ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ وأمَّا في سورة مريم فلم يرد لفظ البشارة ولا ما يرادفه وأنَّ الذي ورد في سورة مريم هو أنَّ روح الله جبرئيل (ع) تمثَّل لها على صورة إنسان وبلَّغها أنَّه رسولٌ من الله تعالى ومكلَّفٌ بأنْ يهب لمريم غلاماً زكيَّا قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا / فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا / قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا / قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا / قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا / قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا / فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾(7).

فلم يرد لفظ البشارة أو ما يُرادفه في سورة مريم (ع)، على أنَّه لا يُعتبر في صدق البشارة لغةً أنْ لا يكون مضمونُها قد تمَّ الإخبار به في وقتٍ سابق، فإنَّ هذا القيد لم يُؤخذ في صدق مفهوم البشارة لغةً ولا عرفاً وإنْ كان كثيراً ما يستعمل لفظ البشارة في ذلك ولكنَّه يستعمل كثيراً أيضاً في مطلق الإخبار بما يسرُّ ويُفرِح أو الإخبار بما فيه نفعٌ للمخبَر له سواءً كان الإخبار بهذا الأمر المُفرِح أو النافع قد سمعه متلقِّي الخبر سابقاً أو لم يكن قد سمِعه، ولهذا وصف القرآن الأنبياء بالمبشِّرين يعني أنَّهم يبشِّرون العباد بالجنَّة والمغفرة والرضوان، ويتكرر ذلك منهم كثيراً، وفي كلِّ مرَّة يعِدون العباد بالمغفرة مثلاً يكون ذلك من التبشير بالمغفرة .

وعليه فمِن غير المُستبعَد أنْ تكون الواقعة المحكيَّة في سورة مريم هي غير التي أخبرت عنها سورةُ آل عمران، فتكون الملائكة قد بشَّرت السيِّدة مريم بالسيِّد المسيح ثم بعد زمنٍ قصيرٍ أو طويل حان الوقت الذي شاء اللهُ تعالى فيه إنجاز وعدَه لها فهبط عليها جبرئيل وأنبأها بالمهمَّة التي كُلِّف بها ثم نفخ فيها من روح الله تعالى فحبَلتْ بعيسى (ع).

لا مانع من تعدُّد الواقعة:

وأمَّا تقارب جواب السيدة مريم بعد تبشير الملائكة لها مع جوابها بعد أنْ أخبرها الأمينُ جبرئيل بما هو مكلَّفٌ به فلا يمنع من تعدُّد الواقعة، إذ أنَّ مفاد الخبر الذي حملته الملائكة لمريم متَّحد من حيث المضمون مع الخبر الذي جاء به الأمينُ جبرئيل لذلك فمِن المناسب اتَّحاد الجواب أو تقاربه خصوصاً وأنَّ مفاد الخبر مستوحَش وغير مألوف، وهو كذلك مُوجِب للتهمة التي كان الواضح من جوابها التوجُّس منها، فكانت ترى نفسها مُنساقةً إلى التعبير عن استيحاشها وخشيتها من الأثر المترتِّب على حملها دون زواج.

ولعلَّه لذلك تمَّ الإعداد والتهيئة لنفسيتها قبل إبرام الأمر بواسطة إخبارها أولاً بكيفيَّةٍ تبعثُ على الاطمئنان حيث هبط عليها عددٌ من الملائكة وأخبروها أولاً أنَّ الله تعالى قد طهَّرها واصطفاها على نساء العالمين ثم أمروها بأنْ تقنت وتخضع لأمر ربِّها وتُقيم على طاعته وعبادته، وبعدئذٍ بشَّروها بالسيِّد المسيح وأخذوا يتَّحدثون إليها عن مقامه السامي عند ربِّه وأنَّه سيكون وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين ويكلِّم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين، كلُّ ذلك لغرض بعث الأنس والاطمئنان والسكينة قي قلب مريم (ع) وحين أجابت عن ذلك بأنَّه كيف يقعُ منها حبْلٌ دون مسِّ بشر ذكَّروها بقدرة الله تعالى على كلِّ شيء وأنَّه إذا أراد شيئاً فإنَّما يقولُ له كن فيكون ثم عادوا بعد الجواب عن استيحاشها فأخذوا في توصيف السيِّد المسيح بالمزيد من الصفات المعبِّرة عن مقامه السامي وأنَّ الله تعالى سوف يُعلِّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وسوف يجعل منه رسولاً إلى بني إسرائيل، قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ / يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ / ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ / إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ / وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ / قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ / وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ / وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ..﴾(8).

فكان في هبوط عددٍ من الملائكة وتبشيرهم لمريم (ع) بالنحو الذي أفادته الآيات من سورة آل عمران تثبيتٌ لفؤادها وإعدادٌ لنفسيتها كونها سوف تنوء بمسئوليَّة مُضنية وغير مسبوقة. فالاعتبار العلائي ولحْنُ الآيات من سورة آل عمران يُساعد على تأكُّد احتمال تعدُّد الواقعة وأنَّ الذي وقع لمريم (ع) مع الأمين جبرئيل كما في سورة مريم كان مسبوقاً بتبشير الملائكة.

ظاهر الآيات يُفيد التعدُّد:

هذا مضافاً إلى أنَّ ظاهر الآيات من سورة مريم هو أنَّ جبرئيل نزل لإنفاذ الأمر الإلهي المبرَم، فهي بعد أنْ استعاذت منه حين دخل عليها متمثِّلاً في صورة إنسان أخبرها بأنَّه جاء لإنفاذ الأمر الإلهي وانَّه مكلَّف ليهب لها فعلاً غلاماً زكيَّا، وحين خاطبته بأنَّه كيف يكون لها غلام ولم يمسسها بشرٌ أجابها بأنَّ ذلك هيِّنٌ على الله تعالى ثم أخبرها أنَّ ذلك صار أمراً مقضيَّاً غير قابلٍ للمراجعة وحينذاك حبلتْ بعيسى (ع): ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ﴾(9) أو أنَّ الله تعالى أخبر أنَّ ذلك صار مقضياً حيث حبلتْ به بعد مخاطبة جبرئيل (ع) لها، فالمُستظهَر من الآيات الواردة في سورة مريم أنَّها متصدِّية لبيان كيفيَّة إنجاز الوعد الإلهيِّ لمريم، وعلى خلاف ذلك ماهو مُستظهَر من الآيات الواردة في سورة آل عمران فإنَّها ظاهرةٌ في تصدِّي الملائكة للإخبار بالوعد الإلهي دون إنجازه كما في سورة مريم.

فليس في البين ما يُوجب احتمال اتَّحاد الواقعة سوى اتَّحاد جواب السيِّدة مريم للملائكة ولجبرئيل، وقد ذكرنا أنَّ ذلك ليس مانعاً من البناء على تعدُّد الواقعة وأنَّ الاعتبار يُساعد على تكرارها لذات الجواب كون الأمر مستوحَشاً وموجباً للخشية من الوقوع في التهمة، وهذا التوجُّس الذي انتاب السيِّدة مريم ظلَّ ماثلاً في خلَدِها حتى بعد أنْ حبلت بعيسى (ع) رغم كلِّ التطمينات، فهي بعد أنْ حبلت بعيسى وكانت في حالة المخاض قالت: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾(10) وحينذاك تولَّى السيِّد المسيح (ع) تطمينها: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي﴾(11) إلى قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾(12) فأخبرها أنَّه الذي سيتولَّى إثبات براءتها.

مؤيِّد لتعدُّد الواقعة:

على أنَّ ثمة أمراً يصلح لتأييد تعدُّد الواقعة، وهو أنَّ جواب السيِّدة مريم للملائكة في سورة آل عمران كان بنحو المناجاة لربها: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾(13) وأمَّا جوابها في سورة مريم فكان خطاباً منها لجبرئيل: ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾(14) فإنَّ هذا الاختلاف يُساهم في تأييد احتمال تعدُّد الواقعة.

الخلاصة:

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّه لو كان البناء هو اتَّحاد الواقعة التي أخبرت عنها كلٌّ من سورتي مريم وأل عمران فإنَّ نسبة المحادثة للملائكة تارةً ونسبتها للأمين جبرئيل (ع) تارةً أخرى لا يُعدُّ من الاختلاف في النقل، وذلك لوضوح أنَّ نسبة الإخبار لمجموع الملائكة ليس بمعنى تصدِّي مجموع الملائكة لتبشير السيِّدة مريم بل هو بمعنى أنَّ أحدهم قد تصدَّى لتبشيرها في محضرهم، ونسب التبشير إليهم جميعاً نظراً لكونهم قد هبطوا على مريم (ع) لهذه الغاية، فهم جميعاً مكلَّفون بحمل البشارة إلى مريم إلا أنَّ مقتضى طبيعة الحال هو أنْ يتصدَّى واحدٌ منهم للإخبار لا أنَّهم جميعاً يُخبرونها بصوتٍ واحد أو يخبرها واحدٌ بعد الآخر بذات الخبر، فإنَّ ذلك لا يتَّفق عادةً بل يُعدُّ من فعل اللغو الذي لا يصدرُ عن الحكيم، على أنَّ من غير المتعيَّن اتِّحاد الواقعة فإنَّ من المحتمل قويَّاً تعدُّد الواقعة كما اتَّضح ممَّا تقدم.

والحمد لله رب العالمين

من كتاب شبهات مسيحية

للشيخ محمد صنقور


1- سورة آل عمران / 42.

2- سورة آل عمران / 45.

3- سورة مريم / 17.

4- سورة مريم / 20.

5- سورة آل عمران / 45.

6- سورة آل عمران / 47.

7- سورة مريم / 16-22.

8- سورة آل عمران / 42-49.

9- سورة مريم / 21.

10- سورة مريم / 23.

11- سورة مريم / 24.

12- سورة مريم / 26.

13- سورة آل عمران / 47.

14- سورة مريم / 20.