هل أُغمي على الحسين (ع) حين استئذان القاسم؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد آل محمد

 

المسألة:

هل صحَّ أنَّ الحسين (ع) قد أُغمي عليه حين استئذان ابن أخيه القاسم بن الحسن (ع) للقتال؟

 

الجواب:

لم نجدْ في المصادر المُعتبرة أو المصادر المُعوَّل عليها في الجملة مَن نقلَ ذلك عدا ما أورده أحدُ علماء العامَّة وهو أبو المؤيَّد الخوارزمي في كتابه مقتل الحسين (ع) قال: ثمّ خرَج من بعده عبدُ الله بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب في بعض الرّوايات -وفي بعض الروايات، القاسم بن الحسن وهو غلامٌ صغير لم يبلغ الحلم- فلمّا نظرَ إليه الحسينُ اعتنقه وجعلا يبكيان حتّى غُشي عليهما، ثمّ استأذن الغلام للحرب فأبى عمُّه الحسين (عليه السلام) أنْ يأذنَ له، فلم يزل الغلامُ يُقبِّل يديه ورجليه ويسألُه الإذن حتّى أذِن له، فخرجَ ودموعُه على خدّيه ..(1).

 

وهذا المقدار لا يصلحُ للإثبات التاريخي، فالقضايا التاريخيَّة إنَّما يُتثبَّتُ من وقوعِها -في أوسط المباني- بتعاضُد النصوص وتجميع القرائن، وهذا ما يفتقرُ إليه النصُّ المذكور، فهو خبرٌ واحدٌ -تفرَّد بنقله الخوارزمي- لا سندَ له ولا نصوصَ تعضدُه ولا قرائنَ تُؤيِّدُه. لذلك فهو ساقطٌ عن الاعتبار.

 

ويتعزَّز سقوطُه عن الاعتبار بالالتفات إلى أنَّ الإغماء من مثل الإمام الحسين (ع) المعروف برباطة الجأش، وقوَّة القلب والسلامة في البدن، وبُعدِ النظر المقتضى لتوقُّع الأسوأ، الالتفات لكلِّ ذلك يجعلُ من حالة الإغماء مِن مثلِه وفي مثل ظرفه -المقتضي للحرص على أقصى درجات التجلُّد- حالةً نادرة بل هي في غاية النُدرة، وذلك يقتضي أنْ يكون وقوعُه -لو حدث حقًّا- مُلفتًا ويسترعي الاهتمام المقتضي بطبعه لتكثُّر النقل، فعدمُ تكثُّره يُوهِنُ مِن مصداقيته.

 

وبيان ذلك:

إنَّه حين يُقال إنَّ زيدًا في حال احتضاره قد أُغمي عليه مرَّة أو أكثر فإنَّ هذه الدعوى قابلةٌ للقبول، فإنَّ حالة الاحتضار التي تسبقُ الموت تنهارُ في ظرفِها كلُّ قوى البدن لذلك لا يكون الإغماء مُستغرَبًا بل هي حالة منتظَرَة في مثل هذا الظرف، وكذلك حينما يكونُ زيدٌ مريضًا أو أصابه جراحٌ بليغ أو اصطدم بجسمٍ صلب أو ما أشبه ذلك من العوارض فإنَّه لو جاء الخبرُ بأنَّه قد أُغمي عليه فإنَّ ذلك يكون منتظَرًا فلا يكون الإخبار بذلك مُسترعيًا لتكثُّر الناقلين.

 

أمَّا في مثل حال الإمام الحسين (ع) الذي استفاضت أخبار المؤرِّخين من الفريقين عن أنَّه قد أُصيب يوم عاشوراء قبل أنْ يُقتل بجراحاتٍ بليغة في أنحاء من جسدِه الشريف -جبهتِه ورأسِه وصدرِه وخاصرتِه ونحرِه وفمِه- وفي أوقاتٍ متقاربة ورغم ذلك لم يتحدَّث أحدٌ منهم عن أنَّه قد أُغمي عليه إلا قُبيل استشهاده -على قولٍ- بل تحدَّثوا عن حواراتٍ وخطابات قد صدرتْ عنه والدماء تنزفُ من جسده الشريف، وتحدَّثوا عن رجوعِه لفسطاطه وتوديعِه لأُسرته واعتناقِه للإمام السجَّاد (ع) والدماء تغلي -من جراحات جسده- على حدِّ تعبير الرواية(2)، وتحدَّثوا عن أنَّه (ع) قصد بعد ذلك المشرعة مشيًا ودماؤه تنزفُ وأُصيب عندها بإصابةٍ أو إصاباتٍ أخرى ثم عاد منها إلى مركزه، وتحدَّثوا عن أنَّه إذا أُصيبَ بإصابةٍ بليغة أو أدركه الإعياء يقفُ يستريحُ وهو يسترجع ويُكثرُ من ذكر الله تعالى ثم يُعاودُ القتال أو يصدُّ مَن يقصدُه، ويذكرون أنَّه بعد ذلك أعياه النزف وكثرةُ الجراحات أقعدتْه عن القدرة على الدفاع عن نفسه ورغم ذلك ظلَّ واعيًا يلهجُ بذكر الله تعالى(3)، وأفلتَ صبيٌّ من المُخيم في هذا الظرف فجاء إليه فاحتضنه الإمام (ع) وهدَّأَ من رُوعه قبل أنْ يذبحه أحدُ القساة وهو في حِجر عمِّه الإمام الحسين (ع) أو إلى جانبه(4)، ولولا خشيةُ الإطالة لذكرتُ تفصيل كلِّ ذلك.

 

فهذه الإخبارات المستفيضة إجمالًا -بل التي تفوقُ حدَّ الاستفاضة في مجملها- تكشفُ -بما لا تدعُ مجالًا للشك- عن أنَّ الإمام الحسين (ع) يتمتعُ ببُنيةِ جسدٍ كانت في غاية القوّْة، فلو كان قد وقعَ منه إغماء حين استئذان القاسم فلن يكون سببُه الإعياء حتمًا خصوصًا وأنَّ وداع القاسم قد وقع قبل أنْ يُصاب الإمام (ع) بجراحاتٍ بليغة كما هو ثابت من النصوص التاريخية.

 

فأيُّ شيءٍ كان سببُ إغمائه؟ هل هو استيلاءُ الحُزن وهولُ المصاب؟ والحال أنَّ المشاهد المهولة التي سبقت هذا المشهد ولحِقته لا تُعدُّ ولا تُوصَف ورغم ذلك لم يتحدَّث أحدٌ من المؤرِّخين عن أنَّه قد أُغمي عليه عند شيءٍ منها بل كان في أعلى درجاتِ التجلُّد والمصابرة، فكان -روحي فداه- يتلقَّى تلك المشاهد بجَنانٍ ثابت تنوء دون تحمُّلها الجبالُ الراسيات.

 

ثم إنَّنا نعتقدُ بأنَّ الإمام الحسين (ع) كان يعلمُ بمصيره ومصائر أصحابه وأهل بيته، فليس ثمة ما يُوجب المفاجأة المقتضية في بعض مراتبها للإغماء، ولو تردَّد أحدٌ فيما نعتقد فلن يتردَّد في بصيرة الحسين (ع) وبُعْدِ نظره واستيعابِه للظرف الذي يكتنفُه، ومعرفتِه الكاملة بخسَّة أعدائه وشدَّة قسوتِهم ونكايتهم لذلك لا يَفجأُ مثلَه (ع) مشهدٌ وإنْ جلَّ وتعاظم، وقد عبَّرت مشاهدُ كربلاء عن ذلك أبلغ تعبير، لذلك ليس ثمة ما يقتضي الإغماء.

 

وهذا هو معنى قولنا إنَّ الإغماء لو وقع من الإمام (ع) لكان حالةً نادرة بل هي في غاية الندرة وهو ما يسترعي -لو وقع- شدَّة اهتمام الحاضرين ومَن يَنقل عنهم، وذلك ما يقتضي بطبعه تناقل الخبر وكثرة الناقلين خصوصًا مع ملاحظة نقلهم للتفاصيل وتفاصيل التفاصيل والتي هي في الكثير منها أقلُّ إثارةً من هذا الحدث، فتفرُّدُ واحدٍ بالخبر عن هذا الحدث يُضعِفُ من مصداقيته بل يكادُ العقلاء في مثله يطمئنون بكذبِه وعدم مطابقته للواقع.

 

وخلاصة القول إنَّ خبر الإغماء لا يُشبه شيئًا من الأخبار المتصدِّية لبيان تفاصيل واقعة الطف وما عُرف من أحوال الإمام الحسين (ع) وصفاته وملَكاته، والعقلاءُ في خبرٍ هذا شأنُه - أي غير منسجِمٍ مع شيءٍ من أحوال المُخبَر عنه وصفاته وما يقتضيه ظرفِه- يرتابون في صدقِه ولا يعتدُّون به كما هو محرَّرٌ في علم الأصول، هذا لو كان واجدًا لشرائط الاعتبار في نفسِه فضلًا عمَّا لو لم يكن كذلك كما هو الشأن في الخبر المذكور.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

1 / محرم الحرام / 1442هـ

21 / أغسطس / 2020م


1- مقتل الحسين (ع) -الخوارزمي - ج2 / ص27.

2- الدعوات -قطب الدين الراوندي- ص54.

3- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص111، 112، الأمالي -الشيخ الصدوق- ص226، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ترجمة الإمام الحسين ص75، الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص117، 118، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14 / ص223، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص55، مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص258، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص74، الأخبار الطوال -الدينوري- ص258، تاريخ الطبري- الطبري- ج4 / ص346، الدر النظيم -المشغري العاملي- ص551 وغيرها كثير.

4- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص110، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص467، الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص557، تاريخ الطبري-الطبري- ج4 / ص344، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص76، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص56، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص72، مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص77، وغيرها.