الهيئةُ التي يكونُ عليها الميِّتُ حالَ التكفين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ورد في منهاج الصالحين في مستحبات التكفين: "وأنْ يُجعَلَ الميِّت حال التكفين مستقبلَ القبلة، والأولى أنْ يكون كحال الصلاة عليه" ما هو الفرق بين الصورتين؟ وما هو مدركُ الأولوية للصورة الثانية؟

 

الجواب:

أمَّا الصورة الأولى: فهي أن يكون الميِّت مستلقيًا على ظهره وتكون رجلاه الممدودتان وباطن قدميه إلى جهة القبلة بحيث لو تمَّ إقعاده لكان وجهُه ومقاديمُ بدنه مستقبلةً للقبلة تمامًا كما هي الهيئة التي يكون عليها حال الاحتضار، والهيئة التي يُغسَّل عليها.

 

وأمَّا الصورة الثانية: فهي أنْ يكون الميِّت مستلقيًا على ظهره ويكون رأسه إلى يمين القائم المُستقبِل للقبلة ورجلاه إلى يسار المُستقبِل للقبلة تمامًا كما هي الهيئة التي يكون عليها الميِّت حال الصلاةِ عليه، فإنَّ رأسه يكون إلى يمين المصلِّي وتكون رجلاه إلى يسار المصلِّي.

 

مستندُ استحباب الصورة الأولى:

أمَّا مستند استحباب جعل الميِّت حال التكفين إلى جهة القبلة بالمعنى المبيَّن في الصورة الأولى فهي الروايات التي دلَّت بإطلاقها على استحباب جعل الميِّت إلى جهة القبلة كمعتبرة ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الشَّعِيرِيِّ وغَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ فِي تَوْجِيه الْمَيِّتِ: تَسْتَقْبِلُ بِوَجْهِه الْقِبْلَةَ وتَجْعَلُ قَدَمَيْه مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ"([1]).

 

 فإنَّ الظاهر من الرواية هو الأمر بجعل الميِّت على هذه الهيئة من حين موته إلى أنْ يُقبَر، فتدلُّ بإطلاقها على استحباب أن يكون على هذه الهيئة حال التكفين وقبله وكذلك حال الغُسل وبعده، نعم نصَّت الروايات على أنَّ رأس الميِّت يكون إلى يمين المصلِّي حال الصلاة عليه، ففيما عدا ذلك يكون مقتضى إطلاق معتبرة ابن أبي عمير هو استحباب الاستقبال بوجه الميِّت إلى جهة القبلة بمعنى جعل باطن قدميه ممَّا يلي القبلة.

 

وكذلك يُمكن استظهار الإطلاق من موثقة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الْمَيِّتِ؟ فَقَالَ: اسْتَقْبِلْ بِبَاطِنِ قَدَمَيْه الْقِبْلَةَ"([2]) فإنَّ الظاهر من الموثقة هو أنَّ الهيئة المأمور بأنْ يكون عليها الميِّت قبل دفنه هو هذه الهيئة.

 

مستند استحباب الصورة الثانية:

وأمَّا مستند استحباب أنْ يكون الميِّت حال التكفين على الهيئة التي يكون عليها حال الصلاةِ عليه فالظاهر هو ما ورد في صحيحة يعقوب بن يقطين قال: سألتُ أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الميِّت كيف يُوضع على المغتسل، موجَّهًا وجهُه نحو القبلة، أو يُوضع على يمينه ووجهُه نحو القبلة؟ قال: يُوضعُ كيف تيسَّر، فإذا طُهِّر وُضع كما يُوضعُ في قبره"([3]).

 

فقوله (ع): "فإذا طُهِّر وُضع كما يُوضعُ في قبره" معناه أنَّ الميِّت إذا تمَّ الفراغ من تغسيله فالهيئة التي يُوضع عليها حينذاك هي الهيئة التي يكون عليها في قبره، وحيثُ إنَّ التكفين يقع بعد الفراغ من الغُسل لذلك تكون الرواية مقتضية لإفادة أنَّ التكفين يكون بعد وضعه على الهيئة التي يكونُ عليها وهو في قبره فيكون رأسه إلى يمين المُستقبِل للقبلة.

 

إشكالٌ ودفع:

والإشكال على الاستدلال بهذه الرواية هو أنَّ الهيئة التي يكون عليها الميِّت في قبره ليست هي الهيئة التي يكون عليها حال الصلاة عليه، فرأسُه في القبر وإنْ كان إلى يمين المُستقبِل للقبلة إلا أنَّه يكون على جنبِه الأيمن وليس مستلقيًا على ظهره كما هي الحال التي يكون عليها حال الصلاة عليه، فما يُفتي الفقهاءُ باستحبابه ليس مطابقًا لمفاد الرواية.

 

إلا أنْ يقال إنَّ أي هيئةٍ يكون عليها الميِّت أو قل إنَّ أيَّ جهة يُوجَّه إليها الميِّت فإنَّه يكون فيها مستلقيًا على ظهره، فذلك هو المُرتَكز عرفًا وهو المُناسب لتكريم الميِّت، وهذا الارتكاز يصلحُ قرينةً على أنَّ المراد من قوله (ع): "وُضع كما يُوضعُ في قبره" هو أنَّه بصدد البيان للجهة التي يُوجَّه إليها الميِّت وليس بصدد البيان للكيفيَّة التي يكون عليها بدنُ الميِّت، فإنَّ جعله مستلقيًا أمرٌ مفروغٌ عنه بقطع النظر عن الجهة التي يُوجَّه إليها، ولولا أنَّ الروايات نصَّت على أنَّ الميِّت يكون على جنبه الأيمن في قبره لكان المتبادر هو جعله مستلقيًا على ظهره، لذلك فإنَّ المستظهَر من الروايات المتصدِّية للسؤال عن الجهة التي يكون عليها الميِّت حال الاحتضار وبعد موته وحين تغسيله المستظهَر منها هو السؤال عن الجهة التي يُوجَّه إليها الميِّت وليس عن الكيفيَّة التي يكون عليها بدنه فإنَّ جعله مستلقيًا أمرٌ مفروغ عنه، وعليه فإنَّ الظاهر من قول الإمام (ع): "وُضع كما يُوضعُ في قبره" هو البيان لجهة رأس الميِّت وليس للهيئة التي يكون عليها بدنُه، وحيث إنَّ جهة رأس الميِّت في القبر يكون إلى يمين المستقبِل للقبلة فإنَّ الرواية تصلحُ للدلالة على استحباب أنْ يكون رأس الميِّت حال التكفين إلى يمين المستقبل للقبلة ويكون مستلقيًا على ظهره كحاله أثناء الصلاةِ عليه.

 

منشأ أولويَّة الصورة الثانية:

وأمَّا منشأُ أولويَّة هذه الصورة على الصورة الأولى فهو أنَّ استفادة استحباب أن يكون رأسُ الميِّت وباطنُ قدميه إلى القبلة تمَّ بواسطة الإطلاق كما اتَّضح مما تقدَّم، وأمَّا استفادة استحباب أنْ يكون رأسُه إلى يمين المستقبِل للقبلة فتمَّ بواسطة النصِّ الخاص الدالِّ على أنَّ وضع الميت بعد تطهيره يكون على هذه الهيئة فيصلح هذا النصُّ لتقييد إطلاقات الروايات المبيِّنة للجهة التي يُوجَّه إليها الميِّت بعد موته.

 

فيكونُ حاصل الجمع بين هذه الروايات وبين صحيحة يعقوب بن يقطين هو استحباب جعل رأس الميِّت باطنِ قدميه إلى جهة القبلة من حين موته إلى أنْ يتمَّ الفراغ من تطهيره، فإذا طُهِّر وُضع بحيثُ يكون رأسُه إلى يمين المستقبِل للقبلة.

 

لا يقال إنَّه بناءً على هذا الجمع لا تكون الهيئة في الصورة الأولى مستحبَّة حال التكفين بل يتعيَّن الاستحباب في الهيئة الثانية التي يكون فيها رأسُ الميِّت إلى يمين المستقبِل للقبلة.

 

فإنَّه يُقال إنَّ صحيحة ابن يقطين نظرًا لكونِها مبينةً لأمرٍ استحبابي لذلك فهي لا تنفي مفاد الإطلاقات الدالَّة على استحباب الهيئة الأولى وإنَّما تدلُّ على أنَّ الهيئة الثانية أولى وأفضل.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

20 / رجب المرجّب / 1442هـ

5 / مارس / 2021م


[1]- الكافي -الكليني- ج3 / ص127، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج2 / ص453.

[2]- الكافي -الكليني- ج3 / ص126، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج2 / ص453.

[3]- وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج2 / ص491.