حديث حول سورة الماعون (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمَّد وآل محمَّد الطَّيبين الطَّاهرين
اللهمَّ أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا أبواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك ومعرفتك...
توقَّفنا في الجلسة السَّابقة عند قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(1) وقلنا أنَّ المراد من الحضِّ هو الحثُّ والتَّرغيب، وعليه يكون معنى الآية الشَّريفة أنَّ من علامات المُكذِّب بيوم الدِّين هي عدم التَّرغيب والحثّ على إطعام المسكين.
والمُلاحظ أنَّ الآية الشَّريفة نسبت الطَّعام إلى المسكين فلم تقل أنَّه لا يحضُّ على إطعام المسكين وإنَّما أفادت أنَّ المكذب بيوم الدِّين لا يحضُّ على طعام المسكين، وذلك مشعر بأنَّ الله تعالى اعتبر الطَّعام مُلكًا للمسكين، فما يُعطاه المسكين من مالٍ وطعامٍ إنَّما هو ماله وطعامه فليس هو مالاً وطعامًا للمُعطِي ولذلك لا يسوَّغ له المَنُّ على المسكين واستشعار التَّرفُّع والتَّعالي عليه، فما عنده وما أعطاه كُلُّهُ من رزق الله تعالى ومِن منحه، فهو الذي يُقسِّمه حيث يريد، غايته أنَّ الله تعالى يمنح رزقه لعباده تارة بواسطة التَّكسُّب والميراث وأُخرى بواسطة اقتطاع شيءٍ ممَّا وقع في يد عباده ويضعه في أيدي آخرين، وهم الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فكُلُّ عباد الله عيالُهُ فهو يضع المال في أيدي بعض عباده ثُمَّ يأمرهم بأن يقتسموه فيما بينهم، وبهذا يتَّضح معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ / لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾(2)، فالحقُّ في الاستفادة من الأموال والأرزاق لا ينحصر طريقه بالتَّكسُّب، فالتَّكسُّب ما هو إلا واحدٌ من الأسباب المنتجة للاستحقاق وثَمَّة أسباب أخرى تستوجب استحقاق الاستفادة من رزق الله تعالى مِثل الحرمان والضَّعف والمسكنة.
فلو كان التَّكسُّبُ وحده هو وسيلة الاستحقاق للمال لما كان للأولاد حقٌّ في النفقة على أبيهم وكذلك الزَّوجة لها حقُّ النَّفقة على زوجها وهكذا الأقارب عندما لا يجد أحدهم وسيلةً لتحصيل الرزق بنفسه فإنَّ الله قد جعل له حقًّا على سائر أقربائه فليس لهم إغفال هذا الحقّ وتضييعه.
والمتحصَّل أنَّ الإسلام حرصَ على أن يُؤصِّل في النَّاس هذه الثَّقافة، وهي أنَّ الأموال التي تقع في يد الإنسان هي أموال الله تعالى وليس لأحدٍ أن يتوهَّم أنَّها خالصة له لمجرَّد أنَّها تحت قبضته، وإذا كان الله تعالى هو المالك الحقيقي لهذه الأموال فمن الظُّلم أن يعتمد الإنسان غير السَّبيل الذي شَرَّعه الله تعالى في كيفيَّة تقسيم هذه الأموال، كما أنَّ من غير اللائق أن يتبرَّم الإنسان لمجرَّد أنَّهُ لم يُعطَ الحقَّ في الاستيلاء على كُلِّ ما في يده، فما في يده ليس سوى منحةٍ إلهيَّة.
وقد ضرب الله لنا مثلاً بقارون الذي كان يتوهَّم أن َّ كُلَّ ما في يده ملك خالص له وأنَّه إنَّما تحصَّل عليه بجهده وعنائه، لذلك أبى أن يستجيب لنبيِّ الله موسى (ع) عندما دعاه إلى صرف بعض ما عنده على الفقراء فكان مصيره أن سلبَ الله منه ذلك النَّعيم الذي منحه إيَّاه، ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ / وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ .. قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا .. فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ..﴾(3).
لو أنَّ الإنسان آمن بهذه الحقيقة وأذعن لها لترتَّب على ذلك الكثير من الآثار المفضية لتقويم البناء الاجتماعيّ، فعندما يُؤمن الإنسان بأنَّ ما في يده إنَّما هو أمانةٌ أودعها الله إياه وأنَّ الذي له الحقّ الكامل في تقسيمها هو الله تعالى فإنَّه حينئذٍ لن يرى لنفسه الحقّ في الاحتكار بعد أن نهى الله عن ذلك ولن يرى لنفسه الحقّ في أخذ الرِّبا على القرض واكتناز الأموال في الوقت الذي لا يجد آخرون ما يقتاتون به ولن يرى لنفسه الحقّ في الاستحواذ على مقدَّرات النَّاس وأرزاقهم، وعندها تذوب الطَّبقيَّة في المجتمع وتزول دواعي الحروب الطَّاحنة التي غالبًا ما يُؤججها جشعُ الإنسان وحرصه على الاستيلاء على أكبر قدر من أرزاق النَّاس.
كما أنَّ الإيمان بهذه الحقيقة هو المنتج للتَّكافل الاجتماعيّ الذي هو من أهمّ الركائز التي يتقوَّم بها البناء الاجتماعيّ المتماسك، وعندما يؤمن الإنسان بهذه الحقيقة فإنَّه لن يرى لنفسه امتيازًا وفضلاً عن الآخرين فتزول دواعي الكبر والاستعلاء والاستطالة على الآخرين وإذا زال الكبر انتفى واحدٌ من أهمَّ دواعي الحقد والحسد عند الضُّعفاء كما أنَّه ينتفي بذلك أحد أهمّ أسباب الجريمة، وكُلّ ذلك يكرِّس حالة التَّماسك في النَّسيج الاجتماعيّ.
وعندما يؤمن الإنسان بهذه الحقيقة فإنَّه لن يتبرَّم من تشريع الله المرتبط بتقسيم الميراث، فلن تجد المرأة غضاضة في أن يكون نصيبها دون نصيب الرجل كما لن يجد الأب غضاضة في أن يكون نصيبه دون نصيب الولد، وذلك لأنَّ هذا النصيب أساسًا لم يكن له فمنحه الله إيَّاه ثُمَّ فرض حقوقًا على من أعطاه النَّصيب الأعلى وأعفى منها من كان له النصيب الأدون. فعندما يستشعر الإنسان ذلك فإنَّه لن يجد في نفسه ما يُبرِّر الحسد والغيظ على شركائه في الميراث وبذلك تستوثق اللحمة بين ذوي الأرحام.
عودة للآية الشريفة وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(4)، وقد ذكرنا في جلسة سابقة أن القرآن الكريم نصَّ على هذا المضمون في سور عديدة وهو ما يعبّر عن شدَّة اهتمام الدِّين بهذا المضمون وثَمَّة أمرًا آخر يُعبِّر عن الاهتمام الشديد بهذا المضمون، وهو أن بعض الآيات التي نصت على هذا المضمون أفادت أن عدم الحض على طعام المسكين كان هو السبب في استحقاق من كان كذلك لدخول سقر: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ / قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ / وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾(5)، وكان هو السبب أن يُصفَّد بسلسلة ذرعها سبعون ذراعًا، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ / وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ / فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ / وَلاَ طَعَامٌ إلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ / لاَ يَأْكُلُهُ إلاَّ الْخَاطِؤُونَ﴾(6).
وهنا نتساءل لماذا يترتب كل هذا العذاب على عدم الحض على طعام المسكين؟
والجواب أن عدم الحض على طعام المسكين تعبير عن عدم المبالاة والاكتراث بالمساكين، وتصَّورا مجتمعًا لا يراعى فيه الفقراء والمساكين ولا يُعبَأ بهم وبشئونهم، إنَّ مجتمعًا يكون كذلك تسوده الطبقية وذلك ما يُنتِج التحاسد والتباغض، وحينئذٍ تسود الجريمة وينعدم الأمن فلا يقوى أيُّ جهاز أو قانون مهما بلغت سطوته أن يحفظ للناس أمنهم وسلامتهم، فالأموال ستكون في معرض السلب ولن يأمن أحد في ذلك المجتمع على عرضه من الهتك، وبذلك تنتقض بُنَى المجتمع ويضعف تماسكه ويعبث فيه الهرج والمرج.
ثم إنَّ مجتمعًا يعيش في ظل هذا المناخ لا يكون مؤهلاً لتلقي القيم والمُثُل، وبذلك تتهاوى في ظِلِّ هذا المناخ كُلُّ المبادىء السامية التي حرص الإسلام على تأصيلها في المجتمع.
لذلك ورد: "أنه لولا الخبز لما عُبِدَ الله تعالى"، وورد: "أنَّ الفقر إذ حلَّ في بلد قال له الكفر خذني معك".
من هنا يتبين منشأُ حرص الإسلام على رعاية الفقراء والمساكين، فمضافًا إلى أن رعايتهم يتناغم ومقتضى الفطرة الإنسانية فإن عدم رعايتهم يُنتج شريحةً في المجتمع عدوانية قادرة على تقويض أمن المجتمع وسلامته وهو ما يمنع من القدرة على البناء الروحي والقيمي للمجتمع والذي هو أحد أهم أهداف الرسالة الإلهية.
فأحد أهم الأسباب التي نشأ عنها حرص الإسلام على رعاية الفقراء هو خلق المناخ الاجتماعي القادر على تلقي قيم الإسلام ومبادئه.
والحمد لله ربّ العالمين
الشيخ محمَّد صنقور
حديث الجمعة
5 صفر 1428 هـ
1- سورة الحاقة / 34.
2- سورة المعارج / 24-25.
3- سورة القصص / 76-81.
4- سورة الحاقة / 34.
5- سورة المدثر / 42-44.
6- سورة الحاقَّة / 33-37.