موقع العُرف في العمليَّة الاستنباطيَّة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المراد من العرف هو الأمر المألوف والمأنوس نتيجة تباني الناس على سلوكه بقطع النظر عن منشأ ذلك التباني فإنَّ كلّ ما هو مألوف ومتعارف يعبَّر عنه بالعرف سواء كان ناشئاً عن نكتة عقلائيّة مقتضية لذلك للتباني أو كان ناشئاً عن ظروف موضوعيّة أو عوامل تربويَّة أو بيئيّة أو ما إلى ذلك.
ومن هنا تتفاوت الأعراف، فهناك أعراف لا تختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة، وهناك أعراف تختلف من مجتمع لآخر ويطرأ عليها التغيير بتمادي الزمان، كما انَّ هناك أعراف تتّصل بشريحة اجتماعيَّة خاصة، وكلُّ ذلك ناشيء عن النكتة المقتضية للتعارف والتباني.
والبحث في المقام عن صلاحيّة العرف للكشف عن مجموعة من الأمور:
الأمر الأوّل: صلاحيته للكشف عن الحكم الشرعي.
الأمر الثاني: صلاحيته لتحديد موضوعات الحكم الشرعي.
الأمر الثالث: صلاحيته لتحديد المراد من الخطابات الشرعيّة.
أما الأمر الأول: فالبحث عنه من جهتين:
الجهة الاولى: هي انَّه هل يكون التعارف والتباني على شيء ولو من قبل جميع العقلاء مناطاً لجعل الشارع حكماً مناسباً لذلك التعارف والتباني بحيث يكون التعارف معبِّراً دائماً عن موافقة الشارع لما عليه العرف أو لا؟
المستظهر من كلمات بعض العامة انَّ الامور المتعارفة من مناطات الأحكام، بمعنى انَّ نفس التعارف على شيء يكون ملاكاً لجعل الشارع الحكم على طبقة، وهذا هو مبرِّر استكشاف حكم الشارع بواسطة الامور العرفيّة.
واستدلوا لذلك بمقطوعة ابن مسعود (بأنَّ ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) بتقريب انَّ استحسان المسلمين لفعل وتعارف البناء عليه بينهم يكون مناطاً لقبول الشارع لذلك الفعل وجعل الحكم على ما يتناسب مع المتعارف عندهم.
واستدلّوا أيضاً بمجموعة من الموارد التي تطابق فيها حكم الشارع مع ماهو متعارف عند العرب كوضع الدية على العاقلة وتحديد مقدار الدية بما هو محدّد عند العرب.
إلاّ انَّ كلا الدليلين لا يصلحان لإثبات الدعوى.
أما الدليل الاول: فبالإضافة إلى عدم احراز انَّها رواية واحتمال انَّها من كلام ابن مسعود (رحمه الله); وذلك لكونها مقطوعة وغير منسوبة للنبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإضافة لذلك فهي غير ظاهرة في الدعوى بل هي تحتمل أكثر من معنى:
الإحتمال الاول: انَّها تشير إلى حجيَّة المدركات العقليّة العمليّة والتي هي من قبيل ما يدركه العقل من حسن العدل وقبح الظلم، وهذا ما يمكن أن يُستظهر من قرينة التعبير بالرؤية والذي يعطي بأنَّ استحسانهم الذي يكون مقبولا عند الله تعالى انَّما هو الإستحسان المدرك بواسطة العقل لا الإستحسان الذي يكون ناشئاً عن الاُنس والألفة والإسترسال كما يتّفق كثيراً.
والمانع عن هذا الإستظهار هو نسبة الرؤية للمسلمين والحال انَّ المناسب لهذا الإستظهار هو نسبة الرؤية للعقلاء.
إلاّ انَّه قد يجاب عن ذلك بأنَّ نسبة الرؤية للمسلمين انَّما هو باعتبار سلامة فطرتهم، إذ غالباً ما يكون عدم التديُّن مانعاً عن اللجوء إلى ما يقتضيه المدرك العقلي ومقتضياً لملاحظة المصالح الخاصة أو المصالح المتّصلة بالإنتماءات، فيكون ذلك حائلا دون إدراك الحقائق أو موجباً للإلتفاف عليها لو اتفق إدراكهم لها، وحينئذ لا يكون من المناسب تصريح الشارع بقبول ما يدركه العقلاء ليست لأنَّ ما يُدركونه بمحض عقولهم ليس مقبولا بل انَّ عدم التصريح ناشيء عن حيثيّة خارجيّة هي عدم توسُّل غير المتديّنين غالباً بالعقل للتعرف على الحقائق.
والمتحصّل انَّة من الممكن أن يكون منشأ نسبة الرؤية لخصوص المسلمين هو ما عليه الواقع الخارجي لغير المسلمين خصوصاً فيما يتّصل بالسلوك العملي والذي غالباً ما يكون الرجوع فيه لمقتضيات العقل العملي منافياً للمصالح الشخصيّة أو الفئويّة.
الإحتمال الثاني: انَّها تشير إلى انَّ الله تعالى شأنه غرس في جبلِّه الإنسان ما يتعرف به على موارد الفضيلة والرذيلة والخير والشرّ، فإذا أراد أن يتعرّف الإنسان على ماهو مرضي عند الله تعالى فليرجع إلى ضميره فإنّه دليل الخير والصلاح، وأمّا نسبة ذلك لخصوص المسلمين فلأنّ ضمائرهم على الفطرة لم تتغلَّق بحجب المعصية والضلال.
فالرواية ليست متصدّية للكشف عن انَّ أحكام الله تابعة لرؤى المسلمين بل من المحتمل انَّها متصدّية للتعبير عن انَّ الضمائر التي هي على الفطرة صالحة للكشف عن مواطن رضا الله عزّ وجلّ، فهي إذن من الروايات الاخلاقية. وقد تعرضنا لهذه الرواية في بحث (الإستحسان) وذكرنا لها احتمالات اخرى.
وكيف كان فالرواية لا صلة لها بالدعوى حتى لو لم يُقبل ما احتملناه، وذلك لأنَّ التعبير بالرؤية لا يساوق معنى العرف والإلفة والعادة، إذ كثيراً ما تكون الإلفة ناشئة عن مبرِّرات تتّصل بالظروف الموضوعيّة، فليست الرؤى والأفكار هي الخلاقة دائماً للأعراف بل كثيراً ما تنشأ الأعراف عن ظروف قاهرة تقتضيها الأجواء البيئيّة والتركيبة الإجتماعيّة والثقافات الموروثة أو التي فرضتها ظروف الحياة والمتغيّرات الناشئة عن التداخل بين الامم مثلا، وليس شيء من ذلك يتّصل بالرؤية والفكر وإذا كان لها دخل فليس هي العامل الأساسي أو الدائمي لانخلاق العادات والأعراف.
وعليه لو كانت رؤى المسلمين هي ملاكات الأحكام فإنَّ ذلك لا يساوق انَّ ما عليه المسلمون من أعراف هي ملاكات الأحكام، إذ انَّ معنى الرؤية لا يساوق معنى العادة والإلفة.
وأما دعوى تبعيّة الأحكام الشرعيّة لرؤى المسلمين أو لاجتهاد المجتهدـ كما قالواـ فهو خارج عن محل الكلام، وقد ثبت فساده عندنا لاستلزامه التصويب.
وأمّا الدليل الثاني: فيمكن النقض عليه بموارد كثيرة خالف الشارع فيها ماهو متعارف عند العرب، وأمّا اتّفاق مطابقة بعض الأحكام الشرعيّة لما هو متعارف عند العرب فهذا لا يُعبِّر عن انَّ الأعراف هي مناط الأحكام الشرعيّة، إذ لا مانع من اتّفاق ما عليه العرف للواقع إلاّ انَّ ذلك لا يلازم انَّ كلَّ ما عليه العرف فهو مطابق للواقع.
ثمّ انَّه بناءً على ذلك يلزم أن يكون للشارع في الواقعة الواحدة أكثر من حكم، وذلك لاختلاف الأعراف من مجتمع لآخر بل انَّ الأعراف العربيَّة تختلف في بعض الأحيان باختلاف قبائلهم، على انَّه ما معنى ان يناط الحكم الشرعي بالعرف وماهو المصحّح لذلك!!
فإن كان المصحّح هو الملازمة بين ماهو متعارف وبين المصالح والمفاسد الواقعيّة فهذا معناه عصمة الأعراف عن الخطأ، ولا أظنّ أحداً يلتزم بذلك.
وان كان المصحّح هو انَّ الأعراف دائماً تكون ناشئة عن المدركات العقليّة القطعيّة فهذا ما اتّضح فساده ممّا تقدم، ولو اتّفق ذلك في بعض الاحيان فهو لا يبرِّر اناطة الأحكام الشرعيّة بكلّ ماهو متعارف، على انَّ ذلك لو كان هو المصحّح لما كانت الأعراف هي مناط الأحكام وانَّما هي كاشفة عن اشتمال متعلقاتها على مناطات الأحكام وهو خروج عن الدعوى.
وأمّا لو كان المصحّح هو محض كون الشيء متعارفاً ومألوفاً فهو ما لا يقبل العقلاء الإلتزام به فضلا عن الشارع المقدّس، إذ كيف يكون محض التعارف والإلفة مبرِّراً لجعل الحكم على وفقه. على انَّ كلَّ هذه المحتملات منقوضة بموارد كثيرة حكم الشارع فيها على خلاف ماهو متعارف.
فقد كان من المتعارف الزواج بأكثر من أربع، وعدم استحقاق المرأة للميراث، والزواج بزوجات الآباء وتبني غير الاولاد، والحاق أولاد الزنا بآبائهم العرفيّين، والتوارث بالولاية وبضمان الجريرة حتى مع وجود الطبقات.
كلُّ ذلك كان مألوفاً ومتعارفاً، فلو كان محض كون الشيء متعارفاً هو مناط الحكم فما معنى أن تكون الأحكام الشرعيّة الثابة بالضرورة منافية لهذه الأعراف.
وأمّا احتمال انَّ الشارع لاحظ الأعراف فوجد انَّ غالبيتها مطابقة للشارع فهو بالإضافة إلى منافاته للدعوى، إذ انَّ ذلك يُعبِّر عن انَّ مناط الأحكام ليس هو العرف، وانَّ انما هو كاشف، بالإضافة لذلك فهو منقوض بالموارد الكثيرة التي لو ادعينا انَّ أكثر الأعراف التي كانت متداولة قد ردع عنها الشارع لما كان في هذه الدعوى مجازفة.
إلاّ ان يقال انَّ المقصود هو الأعراف الناشئة بعد أن أصبح للمسلمين كيان. إلاّ انَّ ذلك أيضاً لا ينفع، لأنَّ الأعراف التي نشأت بعد ذلك لو كانت متلقاة عن الشارع فهو خروج عن الفرض، ولو لم تكن كذلك فإنَّه يرد عليها ما ذكرناه آنفاً، بالإضافة إلى ما نشاهده من منافاة كثير من الأعراف الطارءةـ بعد ان أصبح للمسلمين كيان للأحكام الثابتة بالكتاب والسنة.
على انَّ الأعراف لو كانت من مناطات الأحكام لما كان ثمّة معنى لتصدي الشارع لبيان أحكام كثير من المعاملات التي كانت متداولة ومتعارفة، فنلاحظ انَّ الشارع ألغى بعض الشروط المتعارفة وقال انَّ كلّ شرط حلّل حراماً أو حرَّم حلالا فهو باطل وانَّ كلّ شرط ينافي كتاب الله وسنّة نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو باطل، وأضاف شروطاً لم تكن متعارفة، وألغى بعض العقود والإيقاعات التي كانت متداولة بين الناس.
كما نلاحظ انَّ سيرة المتشرّعة والمتديّنين بل جميع المسلمين جارية على مراجعة الشارع في كلّ شيء حتى في الامور المتّصلة بما هو متعارف ومألوف، فلو كانت الأعراف من مناطات الأحكام لكان على الشارع أن يُحيل الناس عليها، ولما كان من مبرِّر لتصدِّيه لبيان تفاصيلها، ولكان ذلك من الوضوح بحيث لا يخفى على أحد لشدّة اتّصال الدعوى لو كانت ثابتة بعامة المكلّفين.
الجهة الثانية: هي انَّه هل يكون التعارف والتباني على شيء كاشفاً عن الحكم الشرعي أو لا؟
نقول: انَّ هذا التعارف ان كان بمستوى يُصحّح صدق السيرة العقلائيّة عليه فإنَّه يصلح للكشف عن الحكم الشرعي إذا أمكن اثبات معاصرة هذا التعارف لزمن المعصوم (عليه السلام) وكان بمرأىً منه ومسمع ولم يكن ثمّة مانع عن الردع لو كان منافياً للشارع، على انَّه لابدَّ من افتراضه سنخ تعارف لو كان واقعاً منافياً لما عليه الشارع لكان مهدداً لإغراضه، كما لو كان التعارف جارياً على فعل شيء وافترض بناء الشارع على حرمته.
إذا تمّت هذه المقدّمات أمكن القول بأنَّ الشارع لم يردع عن هذا التعارف، وبعدم ردعه نستكشف الإمضاء.
ومن هنا يتّضح انَّ الاعراف التي انخلقت بعد زمن المعصوم (عليه السلام) لا تصلح للكشف عن الحكم الشرعي كما انَّ الاعراف لو كانت من قبيل الإلتزام بفعل فإنَّ ذلك لا يُعبِّر عن بناء الشارع على وجوبه لاحتمال انَّ الشارع يبنى على راجحيّته أو اباحته، فعدم ردعه عن هذا التعارف لا يهدِّد أغراضه، نعم يمكن استكشاف عدم حرمة هذا الفعل الذي تعارف العقلاء على الإلتزام به بواسطة عدم ردع الشارع عنه إذا تمّت بقيّة المقدّمات.
أما لو لم يكن التعارف بمستوى السيرة العقلائيّة فكاشفيّته عن الحكم الشرعي منوطة أيضاً باحراز امضاء الشارع لهذا التعارف، وكيف كان فالتعارف بأي شكل افترض لا يكون مصدراً من مصادر التشريع بل تكون دليليته على الحكم الشرعي راجعة لكشفه عن تقرير الشارع وامضائه.
ولمزيد من التوضيح راجع عنوان (السيرة العقلائيّة).
الأمر الثاني: وهو صلاحيّة العرف لتحديد موضوعات الأحكام، بمعنى انَّ الشارع هل جعل العرف مرجعاً لتشخيص موضوعات الأحكام ومرجعاً للتعرف على تحقّق الموضوعات خارجاً أو انَّ الشارع لم يجعل للعرف هذه الصلاحيّة؟
فهنا جهتان:
أمّا الجهة الاولى: وهو البحث عن مرجعيّته لتشخيص الموضوعات، فنقول: انَّ الشارع تارة يجعل الأحكام على موضوعات مخترعة، واخرى يجعلها على موضوعات عرفيّة إلاّ انَّ الشارع تصدى لبيان حدودها بنفسه، وثالثة يجعل الحكم على موضوع عرفي دون ان يتصدى لبيان حدوده.
أمّا الأوّل: وهو مالو كانت موضوعات الأحكام مخترعة من الشارع مثل كيفيّة الصلاة والوضوء والتيمّم فلا ريب في هذا الفرض انَّ المرجع لتشخيص موضوعات الأحكام هو الشارع نفسه، إذ من غير المعقول ان يخترع الشارع موضوعاً ثمّ يحيل تشخيصه للعرف أو غيره، فلا سبيل إذن للتعرف على مثل هذه الموضوعات إلاّ مراجعة الشارع، وهذا واضح.
وأمّا الثاني: وهو مالو كانت موضوعات الأحكام عرفيّة، بمعنى انَّ للعرف مفاهيم محدّدة لهذه الموضوعات إلاّ انَّ الشارع تصدى بنفسه لبيان حدودها، وذلك مثل مفهوم الحيض والسفر والإستطاعة.
وفي مثل هذا الفرض لا مرجعيّة للعرف أيضاً في تشخيص موضوعات الأحكام بعد أن تصدى الشارع لتشخيصها وبيان حدودها، إذ انَّ نفس تصدي الشارع لذلك إلغاء لمرجعيّة العرف وانَّ المفاهيم التي هي محدّدة عند العرف على سعتها أو ضيقها ليست هي موضوعات الأحكام، نعم لو كان تصدي الشارع لتشخيص الموضوع انَّما هو بنحو إضافة بعض القيود على الموضوع العرفي أو إلغاء بعض القيود فإنَّ ذلك لا يلغي مرجعيّة العرف في المقدار الذي لم يتصدَ الشارع لتهذيبه لو استظهرنا من الأدلّة انَّه ليس للشارع مفهوماً مبايناً للمفهوم العرفي، غايته انَّه لم يجعل الحكم على الموضوع العرفي على سعته أو ضيقه، ففي مثل هذا الفرض يكون المرجع في تشخيص الموضوع هو العرف إلاّ في المقدار الذي تصدَّى الشارع لبيانه وتهذيبه إمّا بالغاء بعض القيود أو الإجزاء أو باضافة قيود ليست دخيلة بحسب المتفاهم العرفي.
وأمّا الثالث: وهو مالو كانت موضوعات الأحكام عرفيّة ولم يتصدَ الشارع لتشخيصها وبيان حدودها، وهنا لا ريب في مرجعيّة العرف في تشخيص موضوعات الأحكام، إذ انَّ ذلك هو المستظهر من عدم تصدي الشارع لتشخيص الموضوعات، إذ لا معنى لأنْ يجعل الشارع حكماً على موضوع له مفهوم محدَّد عند العرف ويكون الشارع مريداً لمفهوم آخر غير ما يفهمه العرف ومع ذلك لا يتصدى لبيانه رغم انَّ الخطاب الذي جعل فيه الحكم على موضوعه كان ملقى لغرض ترتيب الأثر عليه والتحرك عنه، وذلك ما يُعبِّر عن انَّ موضوع الحكم الشرعي انَّما هو ذلك المفهوم المحدّد لدى العرف.
وأما الجهة الثانية: وهي مرجعيّة العرف لإثبات أو نفي تحقّق الموضوع خارجاً، وهي تختلف عن الجهة الاولى من حيث انَّه حتى لو لم نقل بمرجعيّة العرف في تشخيص مفاهيم الموضوعات فإنَّ من الممكن القول بمرجعيّة العرف لإثبات أو نفي تحقّق الموضوع الشرعي خارجاً، فلو افترضنا انَّ الشارع هو الذي حدَّد مفهوم الفقير وانَّه الذي لا يملك قوت سنته فإنَّ من الممكن ان يُحيل المكلفين إلى العرف للتحقُّق من انَّ زيداً يملك قوت سنته أو لا يملك، وهذا هو معنى مرجعيّة العرف لإثبات أو نفي تحقّق الموضوع الشرعي خارجاً.
وكيف كان فلا ريب في انَّ للعرف هذه الصلاحيّة، وذلك بعد ان كانت الاحكام الشرعيّة مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة، أي مجعولة على موضوعاتها المقدرة الوجود، فإنَّ ذلك يُعطي انَّ الشارع ليس بصدد التحقُّق من وجود موضوعات الأحكام خارجاً أو عدم وجودها، إذ انَّ ذلك انَّما هو شأن القضايا الخارجيّة، وعليه يكون التحقُّق من وجود الموضوع أو عدم وجوده انَّما هو من وظيفة المكلّفين، ومن الواضح ان لا سبيل للمكلَّف لإحراز تحقُّق الموضوع خارجاً أو عدم تحقّقه إلاّ الرجوع إلى العرف، إذ انَّه الوسيلة العقلائيّة للتحقُّق من ذلك، ولمَّا لم يخترع الشارع وسيلة اخرى لإحراز موضوعاته فإنَّ ذلك يُعبِّر عن امضائه لهذه الوسيلة العقلائيّة راجع عنوان (السيرة العقلائيّة) القسم الثالث والرابع.
ثم انَّ الملاحظ انَّ اثبات تحقّق الموضوع او نفيه عند العرف يختلف باختلاف المجتمعات والازمنة والحالات، فهل انَّ ذلك مانع عن الرجوع إلى العرف في التحقّق من وجود موضوع الحكم أو عدم وجوده؟
الظاهر انَّ ذلك لا يمنع عن الرجوع اليه، إذ انَّ هذا الإختلاف لا يُعبِّر عن التباين في ضابطة التحقّق من وجود الموضوع عند العرف.
فمثلا: لو كان الفقير بحسب نظر الشريعة هو من لا ملك مؤنة سنته له ولعياله فإنَّ ضابطة تحقّق هذا الموضوع خارجاً بنظر العرف لا تختلف باختلاف الظروف والمجتمعات، إذ انَّ غاية ما تقتضيه الظروف والمتغيرات هو تبدل مصاديق الموضوع ذي المفهوم المحدّد والمطرد، فالمؤنة التي كان يملكها الشخص كانت تكفيه لسنة كاملة، وذلك لقلّة عياله أو لعدم طرؤ ما يوجب النفقة الزائدة إلاّ انَّه لو اتّفق ما يوجب النفقة الزائدة كما لو طرأ عليه أو على أحد عياله مرض أو اتّفق ارتفاع قيم الأجناس فأصبحت النقود التي بحوزته قاصرة عن استيعاب مؤنته ومؤنة عياله في حين انَّ مقدارها في العام السابق كاف لغتطية مؤنته ومؤنة عياله، وهكذا حينما يختلف المجتمع أو تكثر الحاجات والضرورات.
وهذا المعنى مطرد في تمام الموارد التي يتوهم اختلاف الضوابط العرفيّة فيما هو المحقّق لوجود الموضوع وعدم وجوده فإنَّ الواقع انَّ الضوابط لا تختلف وانَّ الذي يختلف هو مصاديق الموضوعات، فإنَّ الشيء الواحد قد يكون مصداقاً للموضوع في زمن ولا يكون مصداقاً له في زمن آخر أو في مجتمع آخر أو في حالة اخرى.
ولمزيد من التوضيح نذكر مثالا آخر وهو لباس الشهرة فإنَّ له معنىً منضبطاً عرفاً وانَّ تحققه خارجاً معناه انطباق ذلك الضابط العرفي على لباس معين، وهذا المقدار لا يختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة، والاختلاف انَّما ينشأ من جهة اختلاف الظروف الموضوعيّة من مجتمع لآخر، وهذه الظروف هي التي تستوجب الإستيحاش من لباس معين واستهجان لبسه، فيكون بذلك من لباس الشهرة في حين انَّ هذا اللباس نفسه قد يكون مألوفاً في مجتمع آخر نتيجة ظروفه الموضوعيّة المختصّة به، وهذا ما يستوجب انتفاء أن يكون هذا اللباس مصداقاً للباس الشهرة في ذلك المجتمع.
وبهذا يتّضح انَّ منشأ الإختلاف في حكم العرف بتحقّق الموضوع وعدم تحقّقه انَّما ينشأ عن انَّ الأفراد الخارجيّة قد تكون منطبقاً لمفهوم موضوع الحكم الشرعي وقد لا تكون منطبقاً لذلك المفهوم بسبب انتفاء الخصوصيّات المأخوذة في المفهوم عن ذلك الفرد، وانتفاء الخصوصيات أو وجودها يخضع في كثير من الأحيان للظروف الموضوعيّة، وهذا هو السرّ في اختلاف حكم العرف بتحقّق الموضوع أو عدم تحقّقه. وقد ذكرنا ما يتّصل بالمقام في بحث (السيرة العقلائيّة).
وأمّا الأمر الثالث: وهو مرجعيّة العرف لتحديد المراد من الخطابات الشرعيَّة فلا ريب في ثبوت هذا الدور للعرف، إذ هو الوسيلة العقلائيّة المتّبعة في مقام التعرُّف على مرادات المتكلّمين، وقد أمضى الشارع هذه الوسيلة، وبذلك تثبت دليليتها وكاشفيتها عن مرادات الشارع من خطاباته، وأمّا ماهو الدليل على امضاء الشارع لذلك وماهو حدود ذلك الإمضاء فهذا ما تتصدّى لإثباته مباحث الظهور، فراجع.
منقول من المعجم الأصول
الشيخ محمَّد صنقور