ملاحظات حول تقنين الأحوال الشخصية

بداية أري من المناسب إعطاء صورة مبسطة عما هو المراد من مصطلح قانون الأحوال الشخصية فأقول: إن هذا المصطلح يشتمل علي مفردتين:

 

الأولى: هي لفظ القانون، والثانية هي لفظ الأحوال الشخصية، وأبدأ بالحديث ببيان المفردة الثانية وهي:

 

الأحوال الشخصية

والمراد منها الصفات والحالات التي تعرض الإنسان بلحاظ علاقة النسب أو المصاهرة، فهي مثل البنوة والأبوة والأخوة والزوجة والمطلقة والمعتدة، فزيد مثلاً بلحاظ تولده عن عمرو يكون ابنًا وبلحاظ تولد خالد عنه يكون أبًا وبلحاظ اشتراكه مع بكر في التولد عن عمرو يكون أخًا وبلحاظ وقوعه طرفًا في عقد النكاح على هند يكون زوجًا، وهكذا الكلام بالنسبة لهند فهي باعتبار وقوعها طرفًا في عقد النكاح تكون زوجة وبلحاظ تولدها من محمد تكون بنتًا وبلحاظ تولد على منها تكون أما وبلحاظ تطليق زوجها لها تكون مطلقة وهكذا. فتلاحظون ان الشخص الواحد قد يكون معروضا لمجموعة من الصفات في آن واحد ولكن بلحاظات مختلفة فهو في الوقت الذي يكون أبًا يكون ابنًا وزوجًا وجدًا وعمًّا وخالاً، والمرأة تكون أمًا وزوجة وبنتًا وجدة وعمة وخالة، وتلاحظون أن هذه الصفات نشأت عن علائق اقتضاها النسب أو السبب (المصاهرة)، ولهذا لا تكون الصفات الناشئة عن غير علاقة النسب أو السبب من الأحوال الشخصية، فالرجل قد يكون تاجرًا وأجيرًا وقاضيًا ووزيرًا في آن واحد إلا أن هذه الصفات لا تكون من الأحوال الشخصية لأنها لم تنشأ عن علاقة النسب أو المصاهرة. فالأحوال الشخصية اذن هي مثل الزوجية والبنوة والأخوة والخؤولة.

 

معنى القانون

وأما ما هو المراد من القانون فهو مجموعة الأحكام التي تثبت للأفراد بلحاظ هذه الصفات، والمراد من الأحكام هي الواجبات والمحرّمات والحقوق والشروط، فوجوب النفقة على الزوج حكم من سنخ الوجوب واستحقاق النفقة للزوجة حكم من سنخ الحقوق ورضاعة الولد حق ثابت للأم ودفع أجرة الرضاعة للأم واجب ثابت علي الأب للأم، وإذن الأب لازم في صحة العقد علي البكر وهذا اللزوم حكم من سنخ الشروط. وبهذا البيان اتضح ما هو المراد من القانون. وتعلمون أن لفظ القانون ليس مصطلحا عربيا ولا إسلاميا إلا انه ليس ثمة من حضارة إلا ولها ضوابط وتشريعات تتناسب والأيدلوجية التي تتبناها، فالمصطلح وان كان يونانيا إلا أن روحه وفحواه غير مختص بحضارة دون أخرى، فالحديث ليس في الاسم وإنما في المسمي والذي هو معنى تفهمه كل حضارة وكل مجتمع عقلائي، والإسلام واحد من تلك الحضارات التي تنتظم على أساس التقنين والتشريع المتناسب مع متبنياتها.

 

وليس ثمة من حضارة تحترم نفسها وترى أنها مؤهلة لان تكون مصداقا لهذا العنوان وهي تقبل بالفوضى وتسوس مجتمعها على أساس الهوى والمصالح الشخصية أو الفئوية، كما أن أي مجتمع يعتقد بشيء ثم ينتظم وفق مقررات وتشريعات تباين معتقداته فهو مجتمع لا يحترم معتقداته وهو مجتمع غير مؤهل لان يكون في سياق المجتمعات الحضارية الا أن يكون قد تنازل عن معتقداته وتبني معتقدات تناسب التشريعات التي انتظم في اطارها أو تكون معتقداته مجرد حالات جوانحية لا تمت للعمل بصلة، والإسلام ليس كذلك، فهو عقيدة وحياة، فهذه الآيات الكثيرة التي كلما ذكرت الايمان أردفته بالعمل ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾(1)، وقال الله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾(2). فالعمل لا بدّ وأن يكون واقعًا في إطار المنظور الإلهي، وقال الله تعالى: ﴿اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(3)، وقال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ﴾(4)، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(5).

 

استيعاب الإسلام لجميع وقائع الحياة

فالإسلام قد استوعب جميع وقائع الحياة خطيرها وحقيرها وأعطي لكل واقعة ﴿حكمًا مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾(6)، ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾(7)، فللإسلام أحكام ترتبط بإدارة الحكم كما له أحكام ترتبط بالسوق والمعاملات وله أحكام في الحرب والسلم والعلاقات الشخصية والمجتمعية والدولية وله أحكام في الحدود والقصاص والديات "حتى أرش الخدش"(144) كما أفاد الإمام الصادق (ع).

 

والأحوال الشخصية ليست استثناء من ذلك بل أن الإسلام قد تصدي لكل صغيرة وكبيرة ترتبط بشئون تنظيم الاسرة من نكاح وطلاق وحضانة وولايات ونفقات ووصايا ومواريث، فهناك واجبات وهناك محرمات وحقوق وشروط وآداب حتي انك لا تجد أي فرع يطرأ علي ذهنك مهما كان خفيا إلا وتجد فيه آية أو رواية واردة عن الرسول (ص) وحملة علمه (ع) إما بنحو خاص أو في إطار العموميات والإطلاقات.

 

فالإسلام لا يعيش فراغا من جهة الأحوال الشخصية كما هو كذلك في سائر وقائع الحياة وشئون الإنسان، فلسنا بحاجة إلى أن نستورد قوانين ابتكرها الآخرون على خلفية أخطاء عانت منها المجتمعات، فكلما ابتكر قانون واكتشفت بعد تطبيقه على الناس بعض ثغراته تصدى المقننون لترميم تلك الثغرات بعد أن تعاني المجتمعات ردحا من الزمن تبعات تلك الأخطاء والثغرات، وهذا أمر طبيعي بعد أن كان الإنسان مهما بلغ من فطنة قاصرًا عن إدراك جميع أوجه القضايا فقد يلتفت إلى بعض حيثيات القضية إلا أنه يغفل حيثيات أخرى، وهذا ليس انتقاصا لعقل الإنسان ولكنه هو واقع العقل الإنساني، ولهذا تجدون أن هذه النظرية العلمية تصل إلى مستوى من القبول بحيث لا تقبل الشك ثم ينكشف خطؤها، ولو كان عقل الإنسان معصوما منفردًا أو مجتمعًا لما كان ثمة من حاجة إلى بعث الرسل وإنزال الكتب السماوية وهذا ما لا يقبله أهل الديانات والذين يستوعبون أكثر من ثلثي العالم مكانًا وامتدادًا في عمق التاريخ.

 

فإذن الإسلام وان أعطى الإنسان أهلية التصدي لاكتشاف المعارف الطبيعية والكونية إلا انه لم يؤهله للتشريع والتقنين فيما يتصل بإدارة الشئون الاجتماعية إلا بمقدار تحميله أمانة التطبيق، فالتشريع شأن إلهي فحسب ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾(8)، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾(9).

 

وعلى خلفية هذه المقدمة نسجل بعض الملاحظات حول المخاضات المحمومة في البحرين العزيزة فيما يتصل بمشروع سن قانون للأحوال الشخصية:

 

قانون مدني موحّد

الأول: أن من غير الوارد التفكير في مشروع سن قانون مدني للأحوال الشخصية وذلك لان هذا الطرح يستبطن -بل هو صريح حملة هذا المشروع- اعتبار الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع على أن تكون بقية الأيدلوجيات مصادر أخرى لهذا القانون.

 

ومنشأ عدم قبولنا لهذا المشروع هو أن الشعب البحريني لم يقرر التخلي عن دينه والذي يحتم عليه الالتزام بجميع ما جاء به القرآن والسنة الشريفة دون انتقاء ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾(10)، وقد قلنا في بداية مقالنا أن الشريعة الإسلامية لم تترك واقعة من وقائع الحياة مهما حقرت إلا وأعطت لها حكما، فلا يسعنا باعتبارنا مسلمين إلا الالتزام بجميع ما جاءت به الشريعة، واذا كان قد فرضت علينا مقررات هنا وهناك لا تمت للإسلام بصلة فهذا لا يبرر القبول مختارين بقانون مدني يعتبر الإسلام واحدًا من مصادر التشريع شأنه شأن سائر المصادر الوضعية وذلك لأن ﴿اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾(11)، فلا نقبل أن تكون روافد التشريع في البحرين خليطا من الحق والباطل تحت أي مسمي كان.

 

قانون موحَّد بين المذاهب الإسلامية

الثاني: أن من غير الوارد أيضا القبول بمشروع قانون موحد بين المذاهب الإسلامية المحترمة، وذلك ليس تكريسا للطائفية كما قيل. فها هي الدول التي تحتضن الديمقراطية وتعتبر نفسها أنموذجا لها وتناضل من أجل تصديرها للآخرين تعترف لكل مذهب بحقه في التعاطي مع متبنياته دون أن ترى في ذلك أي منافاة للديمقراطية، بل ان ذلك بحسب منظورها من صميم الديمقراطية. على أن رفض هذا المشروع ليس جزافيا وإنما نشأ عن فوارق ومبررات مذهبية لا يمكن تذويبها أو التفريط فيها:

 

المبرر الأول: تبني المذهب السني مدرسة أصولية تباين إلى حد كبير المدرسة الأصولية عند المذهب الجعفري، فالمذهب السني وان كان يتفق مع المذهب الجعفري في أن المصدرين الأساسيين للتشريع هما الكتاب والسنة الشريفة إلا أن المدرستين تختلفان من جهة وجود مصادر أخرى للتشريع أو أن الاختلاف في آلية الوصول إلى الكتاب والسنة الشريفة على أنهما المصدران الوحيدان للتشريع. فمثلا المدرسة الأصولية السنية تتبنى -أو لا أقل بعض المذاهب الرائجة المنتمية اليها- تتبنى اعتماد القياس في حالات فقدان النص وكذلك الاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها من الوجوه الاعتبارية، وهذا ما ترفضه مدرسة أهل البيت (ع) رفضا قاطعا، فقد وردت روايات عن الإمام الصادق (ع) وكذا أئمة أهل البيت تربو على الخمسمائة رواية تفند هذا المبنى والمطلع على الفقه الإسلامي السني والجعفري يعرف مدى التأثير البالغ الذي أنتجه الاختلاف من هذه الجهة.

 

المبرر الثاني: الاختلاف في الجرح والتعديل في علم الرجال فالكثير من الرجال الثقاة بنظر الإمامية ليسوا مقبولين بنظر علماء الرجال عند أهل السنة وكذلك العكس، وهذا ما أنتج الاختلاف الكبير بين السنة والإمامية في تصحيح وتضعيف الروايات والتي هي معتمد الفقهاء في التعرف على الأحكام الشرعية.

 

المبرر الثالث: اعتماد الإمامية أقوال الأئمة الاثني عشر الثابت صدرورها عنهم علي أنها أقوال معصومة غير قابلة للخطأ وأنها أهم وسيلة للتعرف على السنة الشريفة ومقاصدها مع قبول الوسائل الأخرى على أن تكون حاكية فقط لأفعال وأقوال وتقريرات الرسول الكريم (ص) إذا ثبت صدقها، وعدم قبولها إذا كانت مجرد اجتهادات في فهم السنة الشريفة. وهذا المبنى ليس مقبولا عند أهل السنة، وهذا الاختلاف العقائدي كان له أبلغ الأثر في تفاوت الفتاوى والمتبنيات الفقهية بين السنة والمذهب الجعفري.

 

وهنا نرى أن من المناسب الإشارة إلى بعض الاختلافات الفقهية المرتبطة بالأحوال الشخصية:

الفرع الأول: انه من ذهب إلى شرطية الولاية في صحة عقد النكاح من أهل السنة مثل الإمام مالك والإمام الشافعي وغيرهما أثبت الولاية -بالإضافة إلى الأب والجد من جهة الأب- للأخ مثلا وبني الإخوة للأب والأم وكذلك الابن كما هو مذهب الإمام مالك بل يرى أن الأبناء أولى من العصبة وإن سفلوا ثم الآباء ثم الإخوة للأب والأم ثم بنو الإخوة للأب والأم ثم الأجداد لأب وان علوا، وذهب الشافعي كذلك إلى تقديم الإخوة علي الجد وقد ورد في مسودة قانون أحكام الأسرة في المادة (16) انه لا بد من رضا الولي والمرأة في عقد الزواج أو أن يثبت رضا وليها، وورد في المادة (11) أن الولي في الزواج هو الأب والجد للأب أو الأخ الشقيق ولم يقيد في كلا المادتين ذلك بما إذا كانت المرأة باكرا كما هو كذلك عند أكثر من يذهب إلى شرطية الولاية في صحة عقد النكاح من أهل السنة. وأما رأي الإمامية فهو عدم شرطية الولاية في صحة عقد النكاح إذا كانت المرأة ثيبًا وإذا كانت المرأة بكرا فبناء على شرطية الولاية فإن الأولياء هم خصوص الأب والجد للأب وليس لأحد الولاية على البكر مع فقدهما أو انتفاء أهليتهما، وأما أهل السنة ممن يذهب إلى شرطية الولاية فقد قال الإمام مالك أن الولاية تنتقل إلى الأبعد عند غياب الأقرب، وقال الشافعي أنها تنتقل إلى السلطان.

 

الفرع الثاني: انه ذهب جمهور أهل السنة إلى أن الحضانة للأم إذا طلقها الزوج وكان الولد صغيرا واختلفوا فيما إذا بلغ حد التمييز فقال بعضهم يخير ومنهم الشافعي، وذهب آخرون إلى بقاء الحضانة للأم حتى بعد التمييز. وورد في المادة رقم (119) من مسودة قانون أحكام الأسرة "إن الحضانة في حال الافتراق للأم ثم لام الأم ثم لام الأب ثم للأب" والظاهر أن هذا الترتيب مبني على انه لا تصل النوبة إلى المرتبة الثانية إلا عند فقدان المرتبة الأولى أو سقوط أهليتها وإلا فعند بقاء الشرطين يكون حق الحضانة ثابتا للمرتبة الأولى. وأما مذهب الإمامية فالمشهور بينهم إن الأم أحق بحضانة الولد -ذكرا أو أنثى- في الحولين وبعدهما تكون الأم أحق بحضانة البنت إلى سبع سنين ما لم تتزوج وأما الذكر فالأب أحق بحضانته بعد الحولين.

 

الفرع الثالث: انه ذهب الإمامية إلى انه يشترط في وقوع الطلاق خلو المرأة من الحيض، وأما جمهور أهل السنة فذهبوا إلى صحة وقوع الطلاق في الحيض.

 

الفرع الرابع: ذهب جمهور فقهاء الأمصار من أهل السنة إلى أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثلاثة، وأما مذهب الإمامية فهو ان الطلاق إذا وقع بلفظ (هي طالق. هي طالق. هي طالق) من دون تخلل رجعة في البين وكان قاصدا تعدده فانه يقع واحدة، ولو قال (هي طالق ثلاثا) فهو ليس في حكم الطلقة الثالثة قطعا، وهل تقع طلقة واحدة أو لا؟ وقع الخلاف في ذلك.

 

الفرع الخامس: ذهب جمهور أهل السنة إلى ان الأخوة يرثون مع البنت أو البنات بمعنى انه لو مات وله بنت او بنات وله كذلك أخ أو إخوة فإن البنت ترث النصف وإذا كن بنات يرثن الثلثين والباقي يكون للعصبة وهم هنا الأخ او الاخوة في الفرض الثاني. وأما الإمامية فقد ذهبوا إلى ان البنت لو كانت منفردة ترث النصف بالفرض وترث النصف الثاني بالرد وليس للأخ أو الأخوة معها ميراث وهكذا الكلام في البنات فانهن يرثن الثلثين بالفرض والباقي بالرد. هذا غيض من فيض والا فالاختلافات فيما يتصل بالأحوال الشخصية بين المذهبين كثيرة وكبيرة ولا يقبل احد من أهل السنة الالتزام بما ينافي مذهبه كما لا يقبل ذلك الشيعة فكل واحد من المذهبين يدين الله بما يراه حجة بينه وبين الله عز وجل.

 

ومعالجة الاختلاف على أساس الاحتياط غير ممكن في كثير من الفروع وفيما يمكن فيه الاحتياط يكون مجافيا لحقوق واحد من المذهبين، على انه يلزم منه نقض الغرض من تشريع القانون وهو التخفيف من أعباء الأحكام الشرعية عن المرأة وفق المقتضيات الاعتبارية النفسية التي تروج لها الجمعيات الحقوقية والنسوية.

 

وعلى أي حال فان تحفظ كل طائفة على هويتها والتزامها بمتبنياتها لا يكرس الطائفية كما قيل إذا احترمت كل طائفة متبنيات الاخري والتزمت بالحقوق والواجبات الوطنية المشتركة وسعت من اجل رقي الوطن فيما يرتبط بالتربية ولعلم والاقتصاد فالذي يكرس الطائفية هو حرمان بعض الطوائف من حقوقها أو بعض حقوقها في التعليم والعمل وحرية التعبير بما يناسب هوية الوطن ودينه وعاداته وتقاليده وإلا فتذويب الفوارق المذهبية لا يصب في إلغاء الطائفية أصلا كما هي عليه ارقي ديمقراطيات العالم، إذ لم نسمع إن ديمقراطية ألزمت رعاياها بالتخلي عن متبنياتها بل ان جهدها عادة ما يصب في حماية معتقدات شعبها.

 

الثالث: أن من غير المقبول أن يسن لكل مذهب قانون في الأحوال الشخصية علي أن يكون تحت نظارة المجلس التشريعي بحيث لا يكون ملزما إلا بعد المصادقة عليه من قبله، فله أن يضيف كما له أن يحذف ويهذب وذلك لان المسلمين قاطبة يرون أن التشريع شأن الهي ليس لأحد ابتزازه ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(12).

 

قد تقول أن المجلس التشريعي لن يمارس دور التشريع بل انه سوف يتحرى التشريع الإلهي ثم يصادق عليه إلا انه نقول: أن التشريع الإلهي لا يحتاج إلى مصادقة احد عليه فهو ملزم لكل من يدين بدين الله عز وجل، ثم ما معنى ان يضيف ويحذف ويهذب أن ذلك يعني احد أمرين على سبيل منع الخلو:

 

الأمر الأول: أن يضيف أحكاما غير إلهية أو يحذف شيئا من أحكام الله أو يهذب أحكام الله، وهذا هو الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.

 

الأمر الثاني: أن ينتقي الأحكام الشرعية المتناسبة من وجهة نظره مع الظروف والمقتضيات. وهذه المساحة وان كانت ممكنة في بعض الفروع إلا أنها ليست من اختصاصه وإنما هي من اختصاص المرجعية الشرعية لكل من المذهبين فكما أن من السفاهة أن يتصدي غير الطبيب لبيان وصفة طبية لمريض وكذلك من السفاهة ان يقبل المريض بتلك الوصفة فكذا الحال هنا.

 

فليس ثمة من عاقل يحترم نفسه ثم يتصدى لمعالجة قضية لا تمت لاختصاصه بصلة كما ان قبول معالجات غير المتخصص يكون أكثر مجافاة للتعقل.

 

قد تقول إن بإمكان المجلس التشريعي أن يستعين بذوي التخصص الشرعي، وعندها تنتفي الإشكالية. إلا أنه نقول أليس على المجلس التشريعي أن يختار بعد أن يستمع لأقوال ذوي التخصص الشرعي، فعلى اي خلفية يستند في اختياراته، ثم ماذا لو اختلف أعضاء المجلس فيما يختارون، هل سيخضعون أحكام الله عز وجل للقرعة أم للأغلبية!!

 

دور المجتهد

وهنا نرى من المناسب التنبيه علي أمر وهو أن دور المجتهد الجامع للشرائط لا يتعدى الاستنباط للحكم الشرعي من مصادره الشرعية فليس له أن يضع حكمًا من عند نفسه، فكل حكم لا يكتسب صفة الشرعية الدينية إلا عندما يكون مستندا إلى الكتاب والسنة الشريفة على أن يكون ذلك الاستناد تم بواسطة الوسائل والآليات التي قام الدليل القطعي على أنها وسائل الوصول للكتاب والسنة. فالاجتهاد هو استخدام الوسائل البرهانية القطعية لغرض فهم النص الإلهي وليس هو اجتهاد في مقابل النص الإلهي.

 

وواضح إن هذه الممارسة تفتقر إلى ملكة راسخة يحتاج التوفر عليها إلى سعي حثيث ومجهد في سبيل تحصى المعارف الإلهية بالإضافة إلى العلوم الآلية المساعدة على فهم النصوص الدينية (الكتاب والسنة).

 

فما لم يكن الإنسان عارفا بدقائق العلوم العربية الأدبية كالنحو والصرف والبيان والمعاني والبديع وكذلك علم المنطق وعلم الرجال والدراية وعلم الأصول بالإضافة إلى علوم القرآن والتفسير ومطلعا على أجواء صدور النصوص الشرعية بعد الاطلاع على كيفية توثيقها فما لم يكن متوفرا على ذلك بمستوى الملكة وما لم يكن بالإضافة إلى كل ذلك واجدا لأعلى درجات التقوى والورع والخشية من الله تعالي بحيث يكون ذلك ضمانا من ان يفتي تبعا للهوى او تحت ضغط الآخرين أو دون تأن وتريث ومتابعة تامة للأدلة فما لم يكن واجدا لكل ذلك فهو غير مؤهل لاستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.

 

وبما بيناه يتضح أن الاجتهاد وفهم النصوص الدينية ليس حكرا على فئة كما قيل بل لأي احد ان يضطلع بهذا الدور إذا توفر على كل ما ذكرناه فليس من الإنصاف أن نتهم الأطباء -مثلا- باحتكار التصدي لعلاج المرضى واعطاء الوصفات الطبية وعدم الإذن بذلك لغيرهم، لأنه لم يقل احد بأنه لا يحق للآخرين التصدي لعلاج المرضي لو كانوا واجدين لملكة الطبابة، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يكون من الإنصاف اتهام علماء الدين بذلك.

 

ثم أن هنا مجموعة من المبررات ذكروا أنها هي منشأ النضال من اجل سن قانون في الأحوال الشخصية.

 

مبررات النضال من أجل سن القانون

المبرر الأول: تأخر الفصل في الخصومات المرفوعة للمحاكم الشرعية إلى حد أنه قد يحتاج البت فيها إلى سنين طويلة. والجواب عن ذلك هو أن هذا المبرر لو ثبت فأنه لا ينتج ضرورة سن قانون مدني للأحوال الشخصية كما انه لا ينتج ضرورة سن قانون موحد بين المذاهب الإسلامية، إذ من الممكن معالجة هذه الإشكالية بواسطة طرح آخر غير الأطروحتين الأوليين. هذا أولاً.

 

ثانيا: ان تعليق القضايا وتأخر البت فيها لا ينشأ عن عدم وجود قانون بل ينشأ أما عن تقصير من جانب القضاة أو عن أن طبيعة القضية المرفوعة تقتضي ذلك كما لو كانت حيثياتها غير تامة وتحتاج إلى وقت لاستكمالها وشهود ووثائق وغير ذلك، وقد تنشأ عن عناد من جهة بعض أطراف القضية المرفوعة أو أن ذلك ينشأ عن قصور في الصلاحيات المعطاة للقضاة، وقد ينشأ التأخير عن محاكم التنفيذ والتي هي غير شرعية.

 

وكل ذلك يمكن معالجته إداريا وليكن معلوما ان الشريعة الإسلامية لا تقبل بتأخير البت في فصل الخصومات إذا لم يكن ثمة مبرر شرعي لذلك، ولا اعتقد أن ثمة مبررات شرعية تستوجب التأخير إلى سنين طويلة بل حتي إلى أقل من ذلك. ثم أن هنا جوابا ثالثا نقضيا وهو أنه لو كان السبب في تأخر البت في الخصومات المرفوعة هو عدم وجود قانون فلماذا يتأخر الفصل في الخصومات المالية والجنائية في المحاكم المدنية رغم وجود قانون مدني للمحاكم المدنية.

 

المبرر الثاني: هو دعوى الفساد والارتشاء والمخالفات الأخلاقية التي يتعاطاها بعض القضاة في المحاكم الشرعية.

 

والجواب عن ذلك ان المبرر لو تم فانه لا ينتج ضرورة سن قانون مدني أو موحد بل ولا مختص لأن ذلك يمكن معالجته إداريا كما أن من حق المجلس التشريعي مساءلة أي قاض سواء كان مدنيا أو شرعيا اتهم بالارتشاء والمخالفات الأخلاقية.

 

ولو كان القانون يضمن عدم الوقوع في هذه المحاذير لمنع القضاة المدنيين في الدول الأخرى عن الوقوع في هذا المطب القذر، فوسائل الإعلام مشحونة بذلك -كما لا يخفي علي احد- مع أنكم تعلمون ان هذه الدول تمتلك قوانين مدنية مفصلة.

 

المبرر الثالث: ان خلو المحاكم الشرعية من القانون يؤدي إلى أن تكون يد القاضي مطلقة يقول ما يشاء ويحكم بأي شيئ أراد دون أن تكون ثمة مرجعية يمكن أن يلجأ إليها لغرض التعرف على مطابقة ما حكم به القاضي للضوابط الشرعية وعدم المطابقة لذلك.

 

وبتعبير آخر: أن المساحة التي يمكن أن يتحرك فيها المحامي عند عدم وجود قانون ضيقة جدا إذا لم تكن منعدمة وذلك لعدم وجود مرجعية مشتركة بين القاضي والمحامي وعندها كيف يتسنى للمحامي ان يدافع عمن يترافع عنه كما أن من الصعب ان نتعرف علي أن القاضي حاف في حكمه أو أنه حكم طبق الضوابط القوانين الشرعية.

 

طبيعة الأحكام الصادرة عن المحاكم الشرعية:

والجواب هو انه لا إشكال في أن لكل احد الحق في الدفاع عن نفسه أو عمن يترافع عنه وان الإسلام يضمن لكل احد ذلك إلا أن دعوى عدم وجود مساحة للدفاع عند عدم وجود قانون ليست دقيقة، وذلك يتضح من ملاحظة طبيعة الأحكام الصادرة عن المحاكم الشرعية فهي لا تعدو نوعين من الأحكام:

 

النوع الأول: هو ما يمكن ان نسميه بالأحكام الموضوعية كتحديد مقدار النفقة أو مستوى السكن أو من يباشر عملية الإنفاق هل الزوج أو الزوجة أو وكيل الزوج أو غير ذلك ففي هذه الأمثلة يكون الحكم الكلي بل والجزئي واضحا وليس محلا للنزاع بين المتخاصمين فوجوب النفقة مثلا للأولاد على الأب ليس محلا للنزاع بين المتخاصمين، فالأب معترف بوجوب النفقة عليه وحينئذ يكون دور القاضي متمحض في تحديد مقدار النفقة ومن يتصدي لمباشرة عملية الإنفاق. وهذا هو محل النزاع بين المتخاصمين فعندما يحكم القاضي بمقدار النفقة فقد لا يقبل الزوج بذلك أو لا تقبل الزوجة بذلك ولكل منهما مبرره، وواضح أن مساحة النقاش والدفاع في مثل هذه الصورة واسعة جدا أو ينبغي أن تكون واسعة، إذ للمحامي أن يعرض علي القاضي مبررات عدم قبول المترافع عنه للحكم وعلى القاضي ان يستمع إليه وأن يدرس تلك المبررات كما ان على القاضي ان يعرض مبررات حكمه وحينئذ فان اقتنع القاضي بما أفاده المحامي المترافع عن موكله وإلا كان له الاستئناف.

 

النوع الثاني: ما يمكن أن نسميه بالأحكام الجزئية كالحكم بوجوب النفقة علي الزوج كما لو كان ذلك محلا للنزاع حيث يري الزوج عدم الوجوب لنشوز زوجته وترى هي الوجوب لعدم نشوزها أو الحكم باستحقاق أو عدم استحقاق الأم للحضانة فيما لو كان ذلك محلا للنزاع حيث يرى الأب عدم أهليتها وترى هي أنها مؤهلة.

 

والأحكام الشرعية الكلية في مثل ذلك غالبا ما تكون واضحة فليست محلا للنزاع، والنزاع إنما هو في ان احد المتخاصمين يرى ان هذا المورد منطبق لهذا الحكم الكلي دون الحكم الكلي الآخر والمتخاصم الآخر يري العكس، ومعالجة هذا النزاع تتم بواسطة تقديم كل واحد منهما مبرراته الموضوعية لدعواه وتوثيقها أمام القاضي وعلى القاضي أن يحكم بعد الدراسة المتأنية لمبررات كل واحد منهما وبعده يتم فصل الخصومة من قبل القاضي فان قبل المتخاصمان بذلك فبها ونعمت وإلا كان للرافض حق الاستئناف، وهناك يقوم بعرض مبرراته ووثائقه ويلتمس مبررات أخرى أن أمكنه ذلك.

 

كل ذلك إذا كان النزاع في التطبيق وكان الحكم الكلي مورد وفاق بين الجميع، وأما لو كان الحكم الكلي مورد نزاع فلو كان الحكم الكلي الشرعي واضحا فليس للمتخاصمين ولا للمترافع عنهما النزاع في حكم الله عز وجل وإن لم يكن واضحا فالذي يحق له البت في ذلك هو المرجع الشرعي الجامع للشرائط، والقانون لن يعالج هذه الإشكالية لأنه من غير الممكن أن يقنن غير ذلك بعد افتراض اعتماد القانون الشريعة الإسلامية مصدرا وحيدا للتقنين.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: مقالات حول حقوق المرأة

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الرعد / 29.

2- سورة التوبة / 105.

3- سورة الأنفال / 24.

4- سورة البقرة / 179.

5- سورة الحديد / 25.

6- سورة الأنعام / 38.

7- سورة النحل / 89.

8- سورة الأحزاب / 36.

9- سورة الأنعام / 153.

10- سورة البقرة / 85.

11- سورة لقمان / 30.

12- سورة المائدة / 45.