علم الأئمة (ع) بالغيب (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل يعلم علي (ع) بالغيب ؟ وما الدليل على ذلك؟

الجواب:

علم الإمام علي (ع) بشيء من علم الغيب أمر ثابت ومسلَّم عند الإمامية قاطبة بل هو كذلك بالنسبة لأئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد دلّت الروايات المتواترة على إحاطتهم بالكثير من المغيبات. إلا أنَّ ما تعتقده الإمامية هو أن علمهم بالغيب لم يكن ذاتيًا وإنما كان بتعليم من الله جلَّ وعلا فهو علام الغيوب والمحيط بكلِّ شيء، ولا محذور في أنْ يرتضي الله تعالى بعضًا من خلقه فيُطلعهم على شيءٍ من غيبه قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا / إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾(1).

وقد أطلع ملائكته على بعض غيبه فقال لهم قبل خلق الإنسان ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ..﴾(2)، وقد أطلع بعض أوليائه من غير الأنبياء على غيبه فقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ / وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(3).

فقد أطلعها الله تعالى على بعض مكنون غيبه حيث إن شيئًا مما أخبرها به لم يكن قد وقع، فأخبرها أنها ستلد من غير نكاح ولذلك قالت ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾(4)، وأخبرها ببعض سمات ولدها فأفاد تعالى إنه سيُصبح وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين، كما أنبأها عن أنه سوف يكلِّم الناس في المهد وسيمتدُّ به العمر إلى أن يصبح كهلاً.

ولكي يرتفع الاستيحاش أكثر عن دعوى علم الأئمة (ع) بالغيب

نشير إلى أمرين:

الأمر الأول: نذكر فيه بعض النماذج القرآنية المعبِّرة عن علم الأنبياء وبعض الأولياء بالغيب.

النموذج الأول: قوله تعالى على لسان عيسى (ع) ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(5). فنبيُّ الله عيسى (ع) كان يعلم بما يأكل بنو إسرائيل وما يدَّخرون في بيوتهم وهو من علم الغيب.

وقال تعالى في مورد آخر ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾(6).

فعلَّمه بأن الله تعالى سوف يبعث في مستقبل الأيام رسولاً اسمه أحمد، وذلك من علم الغيب، هذا وقد أطلع الله نبيه عيسى على مصيره فقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾(7).

النموذج الثاني: قوله تعالى في سورة الحجر: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ / إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ / قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾(8)، وقوله تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ / قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ / إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ / إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾(9).

فالآيات المباركات التي ذكرناها تعبِّر عن إطْلاع الله عزَّ وجلَّ نبيَّه إبراهيم على شيءٍ من غيبه، حيث أنبأه عن أنَّه سيمنحه في مستقبل الأيام بمولودٍ وسيكون ذلك المولود ذكرًا ومن سماته أنَّه يكون عليمًا. وظاهر آية أخرى أن الإخبار بهذا الأمر المغيَّب لم يكن مختصًا بنبي الله إبراهيم (ع) بل كان إخبارًا له ولزوجته سارة قال تعالى ﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ / فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ / وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ﴾(10). فالآية المباركة تعبِّر عن أنّ الله عزَّ وجلَّ قد يمنح غيبه بعض أوليائه من غير الأنبياء.

هذا وقد اشتملت هذه على ما لم تشر الآيات السابقة إليه وهو أنَّ الله تعالى سيمنح هذا المولود بعقبٍ يستحقُّ التبشير به وهو يعقوب، كلُّ ذلك من أنباء الغيب.

ثم إنَّ الآيات التي ذكرناها اشتملت على نبأٍ غيبيّ آخر منحه الله نبيَّه إبراهيم (ع) وهو أن الإرادة الإلهية قد اقتضت إنزال العذاب على قوم لوط ثم عرّف اللهُ نبيَّه تفاصيل ما سيُصيب قوم لوط فأفادت آية أخرى أنه تعالى سوف يُرسل عليهم حجارة من طين مسوَّمة قال تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ / قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ / لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ / مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾(11).

ثم أفادت الآيات أن العذاب لن يصيب آل لوط وأن الله سوف يُنجِّيهم، أما امرأة لوط فإنه سيصيبها ما أصاب قوم لوط. كلُّ ذلك من أنباء الغيب علم بها إبراهيم (ع).

النموذج الثالث: قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ / قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾(12).

فالآية المباركة الثانية صريحة بأن يوسف (ع) كان يعلم شيئًا كثيرًا من مكنون غيبه تعالى حيث ادَّعى -وهو الصدِّيق- لصاحبيه أنه يعلم بتأويل ما سيُرزقانه من طعام وذلك ظاهر في العلم بنوعه ومصدره والغاية من بعْثه إليهم، وقد أفاد أن مصدر علمه بذلك هو تعليم الله تعالى له فهو ليس من قبيل التكهُّن والرجم في الغيب.

ثم إن النبي يوسف (ع) أخبر صاحبيه بالمصير الذي سينتهيان إليه فأخبر أحدهما بأنه سيُصلب وستأكل الطير من رأسه، وأخبر الآخر بأنَّه يسقي ربه خمرًا ثم أفاد أن ذلك قضاء قد أُبرم.

قال تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾(13).

هذا وقد أنبأ يوسف الملك وقومه ما سيؤول إليه حالهم وأنهم سيبتلون بسنين عجاف حددها بسبع وأخبرهم أن ذلك سيكون بعد سنينٍ سبع من الرخاء، وأفاد أنه سيأتي من بعد السبع العجاف عام فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون.

وكل ذلك من مكنون الغيب الذي لا ينبغي أن يطَّلع عليه من أحد إلا أن يُطلعه الله تعالى عليه.

قد يقال إن علم يوسف بكل هذه التفاصيل الغيبية إنما كان بواسطة الرؤيا ولولا ذلك لما كان عارفًا بهذه المغيبات.

والجواب من ذلك: هو أن الوسيلة للمعرفة بالغيب خارج عن مورد البحث، ومورد البحث والنزاع إنَّما هو إمكانيَّة إطّلاع الإنسان على الغيب بتعليم من الله تعالى أو عدم إمكانية ذلك، والآيات التي أوردناها في النموذج الثالث صريحة في معرفة يوسف بالكثير من علم الغيب، إذ لا شيء أدلُّ على الإمكان من الوقوع، فما ندَّعيه هو أن الإنسان قد يكون عارفًا ببعض المغيبات إذا كان الله قد أطلعه عليها، وأما وسيلة ذلك فهي تختلف، فقد يتم بواسطة الملائكة، وقد يكون بواسطة الرؤيا الصادقة، وقد يتم ذلك بواسطة تعليم الأنبياء.

النموذج الرابع: قوله تعالى على لسان نبي الله صالح: ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ / فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾(14).

الآية المباركة كما تلاحظون صريحة في علم نبي الله صالح (ع) بما اقتضته الإرادة الإلهية في مكنون الغيب من إيقاع العذاب على قوم صالح وأن ذلك سوف يتم بعد ثلاثة أيام، فكان قد وقع ما وعد به قومَه.

النموذج الخامس: قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عمَّا وقع لزكريا (ع) ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾(15).

وهذا نموذج آخر يكشف عن إطلاع الله عزَّ وجلَّ بعضَ عباده على مخزون غيبه، فلم يكن يحيى بعدُ، ولم تكن مجاري الأمور مقتضية لأن يُرزق زكريا بولدٍ فجاء الوعد الإلهي ليبشَّر زكريا بولد له من السمات ما يندر أن تتفق لمولود فهو سيدٌ وحصورٌ ونبيٌّ من الصالحين.

النموذج السادس: وسوف نشير فيه إلى الآيات المعبِّرة عن علم رسول الله محمد (ص) بالكثير من المغيبات.

الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾(16).

فالآية تكشف للنبي (ص) تفاصيلَ أمرٍ كان في علم الغيب ثم أنجز اللهُ تعالى لنبيِّه (ص) ما وعده فدخل المسلمون مكة محلِّقين ومقصِّرين ثم منحهم فتحًا قريبا.

الآية الثانية: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ / فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ / فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ / بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ / وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾(17).

الآية الثالثة: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾(18).

الآية الرابعة: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾(19).

الآية الخامسة: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى / أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى / وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى / عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى / عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى / إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى / مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى / لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾(20).

هذه بعض الآيات المعبِّرة عن إطلاع الله تعالى نبيه على غيبه فيكون النبي (ص) عالمًا بهذه المغيبات، فالآية الثانية تكشف عن أنَّ حدثًا تمَّ تحديد بعض تفاصيله سوف يقع في مستقبل الزمان وأن الروم سوف تكون لها الغلبة وأن ذلك سيكون بعد بضع سنين.

وأما الآية الثالثة فهي وعد بالظفر في قضية مشخَّصة ومحددة أعني واقعة بدر حيث وعد الله المسلمين إما بالإستيلاء على القافلة أو الانتصار على قريش وقد أنجز الله وعده لهم فكانت لهم الغلبة على قريش. فرغم أن المقاييس المادية تقتضي استبعاد أن يكون النصر حليف المسلمين نظرًا لضعفهم وقلتهم، فنتيجة المعركة لم تكن محسومة قبل وقوعها إلا أن النبي (ص) وعد المسلمين بالنصر والظفر، وذلك صريح في إطّلاعه على ما ادخره الله لهم في مكنون الغيب.

ولا يصح أن يقال أن النبي (ص) إنما وعدهم بذلك تحفيزًا لهم، إذ أن ذلك لا يناسب نسبة الوعد إلى الله تعالى خصوصًا وأن الوعد كان في قضية شخصية.

أما الآية الرابعة فهي تكشف عن سرائر قوم من المسلمين بعد تشخيصهم وتحديد هويتهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا﴾. فهي تعبِّر بنحو البتِّ والقطع عما انطوت عليه ضمائرهم رغم أن ظاهر حالهم الصلاح ورغم أن عملهم فيما يبدو لغير العارف بالغيب من الأعمال القربية. فالآية جاءت لتكشف تفصيلاً عن مقاصدهم والتي لا يحيط بها إلا من يعلم السرَّ وأخفى، فعلم الرسول (ص) بمقاصدهم علم بالغيب.

وقد نبأ الله نبيَّه عن الكثير من واقع سرائر المنافقين وتصدت الكثير من الآيات في سورة التوبة وسورة المنافقون لذلك، فالنبي (ص) كان عارفًا بواقع ما انطوت عليه ضمائر المنافقين، وهو علم بالغيب.

وأما الآية الخامسة فهي من أجلى ما يعبِّر عن علم رسول الله (ص) بالغيب، فالوحي والملائكة وجبرئيل وسدرة المنتهى وجنة المأوى والآيات الكبرى والملكوت كلُّ ذلك من مكنون الغيب وقد أراهُ الله نبيَّه (ص) وعرَّفه به فكان عالمًا بتفاصيله حيث عبَر في معراجه السماواتِ والتقى الملائكةَ والأنبياء وشاهد سدرة المنتهى وليس ذلك مورد نزاعٍ بين المسلمين قاطبة.

على أنَّ الآيات التي تصدَّت للإخبار عن تفاصيل ما سيقع يوم القيامة وأنَّه ثمة صراط وميزان وأن الناس يحشرون على أحوال شتى وتُعرض عليهم صحائفهم وأن ذلك يوم مقداره خمسون ألف سنة وأن ثمة جنة لها سبعة أبواب وفيها من الأنهار والثمار والحور والولدان والأرائك والأباريق والشراب، وثمة نار لها شهيق وزفير عليها ملائكة غلاظ شداد يسقى أهلها من الحميم ويأكلون من شجر من زقوم طلعها كأنه رؤوس الشياطين وكلما نضجت جلودهم أبدلهم ربُّهم جلودًا غيرها فلا يقضى عليهم فيموتوا فهم في العذاب خالدون.

أليس كل ذلك من علم الغيب وكان رسول الله (ص) عالمًا بدقائقه وتفاصيله أو لم يخبرنا بأن الجبال سوف ينسفها ربُّه نسفًا وأن الأرض سيُزلزلُ زلزالها وستُخرج أثقالَها وأنَّ السماء ستنفطر وأنَّ الكواكب ستنتثر وأن النجوم ستنكدر وأن الشمس ستُكوَّر والقبور تُبعثر، أليس كلُّ ذلك في مكنون الغيب؟!

ألم يحكِ لنا رسول الله (ص) أنه ما من شيء إلا وهو يسبِّح بحمده، وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرَّطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون، ألم يحكِ عن ألسماء ومبدأ خلقها ومبدأ خلق الإنسان ومراحل نشأته وأخبرنا عن العرش واللوح المحفوظ وعن الجنِّ ومما خُلقوا والملائكة وأن لهم أجنحة مثنى وثلاث ورباع أليس كل ذلك من علم الغيب وكان رسول الله (ص) عالمًا به.

قال تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ فأخبار الماضين كان غيبًا وأحكام الله الواقعية التي أَطلع اللهُ رسولَه عليها كان غيبًا وحديث القبر والبرزخ والبعث والحوض كان غيبًا والإخبار عن دخول أبي لهب وزجته جهنم كان غيبًا.

هذا بعض ما يتصل بالقرآن وبعض ما اشتمل عليه من الإخبار بالمغيبات، وأما ما ورد في السنة الشريفة فإننا لا نروم بيانه في المقام وهو لسعته وتشعُّب تفاصيله يعسر استقصاؤه إلا أن تناوله ميسور، فلن يجد من أراد الوقوف على دلالات علم رسول الله (ص) بالمغيَّبات صعوبة تُذكر.

وبما ذكرناه في الأمر الأول ننتهي إلى هذه النتيجة وهو أن الله تعالى قد يصطفي من عباده من يُطلعه على شيءٍ من غيبه، وأن الأنبياء قد يعرِّفون الناس بشيء مما علموه من الغيب.

الأمر الثاني: نعالج فيه ما يُثار من شبهة، وهي أن الكثير من الآيات أفادت أن علم الغيب من مختصات الله جلَّ وعلا وأنه لم يُطلع عليه من أحدٍ، وأن الأنبياء كانوا يؤكدون عدم علمهم بالغيب وهذه بعض الآيات الدالة على ذلك:

الآية الأولى: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إَِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾(21).

الآية الثانية: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(22).

الآية الثالثة: ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾(23).

الآية الرابعة: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾(24).

الآية الخامسة: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(25).

هذه بعض الآيات المعبِّرة عن اختصاص علم الغيب بالله جلَّ وعلا وأن الأنبياء لم يكونوا على علم بالغيب فضلاً عن غيرهم.

والجواب عن هذه الشبهة

أنَّه لا يصحُّ النظر في دلالة هذه الآيات المباركات بقطع النظر عمَّا ذكرناه من آيات في الأمر الأول وبقطع النظر عن مثل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾(26).

وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (27).

وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾(28).

وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾(29).

وقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا / إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾(30).

وقوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾(31). وقد اتفقوا على أنَّ الضمير عائد على النبيِّ محمد (ص) أو الأمين جبرئيل (ع).

فلا بدَّ إذن من ملاحظة مجموع الآيات، إذ ليس من الإنصاف وأصول البحث اجتزاء الخطاب والتمسُّك ببعضه والإعراض عن البعض الآخر، إذ أن الغرض هو الوصول إلى مراد المتكلم، وذلك غير متاح عندما يتم إغفال بعض كلامه، ولا يرضى العقلاء وأهل المحاورة بمساءلتهم والاحتجاج عليهم بجزءِ خطابهم إذا كان لتمامه أثر في بيان المراد.

وبناءً على ذلك لو لاحظنا مجموع الآيات لانتهينا إلى هذه النتيجة وأنَّ الله عزَّ وجلَّ وحده الذي يعلم بالغيب دون تعليم وأن علمه به ذاتي له وأنه محيط بالغيب كلِّ الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، إلا أنه قد يُطلِع على غيبه بعض عباده فيكون علمهم بالغيب اكتسابيًا.

هذه هي النتيجة المناسبة لمقتضى الفهم العرفي عند ملاحظته لمجموع الآيات التي نقلناها، فالعرف عندما يقف على هاتين الآيتين مثلاً وهما قوله تعالى: ﴿قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ﴾، عندما يقف العرف على هاتين الآيتين يُذعن بأنَّ الحصر واختصاص علم الغيب بالله تعالى بمقتضى مفاد الآية الأولى وعلم النبي (ص) بأنباء الغيب بواسطة الوحي بمقتضى مفاد الآية الثانية لا يمكن الجمع بينهما إلا بالنحو الذي ذكرناه وهو أنَّ علم الغيب الذاتي والمطلق لا يكون إلا لله تعالى وأن علم النبي (ص) بالغيب إنما هو بالاكتساب وهو مفاد قوله تعالى: ﴿نُوحِيهَا إِلَيْكَ﴾، فليس بين مفادي الآيتين أدنى تنافٍ بل إن بينهما تمام الانسجام، فالآية الأولى تنفي العلم المطلق والذاتي للغيب عن غير الله تعالى والثانية تثبت علم الغيب الاكتسابي للنبي (ص) بل وإلى قومه. حيث إن النبي (ص) كان قد أطلع قومه على بعض ما أوحاه إليه ربه وهكذا ينسحب الكلام على بقية الآيات التي تمسَّك بها مثير الشبهة.

فالآية الثانية تعبِّر عن إحاطته تعالى بدقائق علم الغيب وتفاصيله، وذلك لا ينافي اطْلاع بعض عباد الله تعالى على شيءٍ من الغيب حينما يمنحهم الله تعالى ذلك، وأمَّا الآية الثالثة والرابعة والتي ينفي فيهما النبي علمه بالغيب فمفادهما بمقتضى الجمع بينهما وبين الآيات التي أفادت أنَّ الله قد أوحى له من أنباء الغيب هو أنَّ النبي لا يعلم بالغيب ابتداء كما أنه لا يحيط به وأنه لا يُتاح له العلم بالغيب إذا لم يُطْلعه الله تعالى عليه، لذلك فقد يَمسُّه السوء وقد يفوته شيء من الخير الذي لو كان محيطًا بالغيب لاستكثر منه.

إذن فما تنفيه الآية الثالثة والرابعة غير ماتُثبته الآيات الأخرى كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ﴾، وقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾(32).

فالنفي في الآيتين إنَّما هو للعلم الذاتي والمطلق للغيب، والإثبات في الآيات الأخرى هو للعلم الاكتسابي للغيب والذي يتحدد بحدود ما يكشفه الله لمن ارتضاه من مكنون غيبه.

على أنَّه لو لم تكن جدلاً ثمة آيات صريحة في علم الأنبياء بالغيب لكان اللازم هو التسليم بعلمهم الاكتسابي بالغيب، فالنبي محمد (ص) مثلاً كان يُخبر عن الله تعالى وكان يخبر عن أن ملكًا يأتيه فيوحي إليه من عند ربِّه، وكان يُخبر عن يوم المعاد وعمَّا سيسبقه وعن ما سيليه من وقائع، وكان يخبر عن مصائر وأحوال وأقوام قد مضوا وآخرين لم يُخلقوا، كل ذلك من علم الغيب ونحن مكلَّفون بتصديقه والإذعان بصحة ما يُخبر به، فالقول بعدم علم النبي (ص) بالغيب يساوق التكذيب بنبوَّته وأنه يخبر بما لا يعلم، وقد قال الله تعالى في وصفه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾(33). فالوحي بكل ما تضمَّن كان من مكنون الغيب وبواسطة الغيب.

فإذا ثبت أنه لا محذور في أن يطَّلع بعض عباد الله على الغيب إذا ارتضاه الله لذلك ينتفي ما يسوِّقه البعض من تهريجٍ على الشيعة وأنهم ينسبون للأئمة ما قد اختص الله تعالى به، إذ أن ما ذكرناه وبيَّناه يقتضي الإذعان بصوابية ما عليه الشيعة من أن الذي كان قد اختص الله به إنما هو العلم الذاتي والمطلق للغيب، وأما العلم الاكتسابي للغيب فهو من شأن الإنسان ولا يليق بساحته تعالى ولا شيء أدلُّ على الإمكان من الوقوع الذي ثبت للأنبياء والأولياء كالسيدة مريم وزوجة إبراهيم والخضر كما في سورة الكهف .. وغيرهم.

يتبع..

الشيخ محمد صنقور

1 جمادى الآخرة 1427هـ


1- سورة الجن / 25-26.

2- سورة البقرة / 30.

3- سورة آل عمران / 45-46.

4- سورة آل عمران / 47.

5- سورة آل عمران / 49.

6- سورة الصف / 6.

7- سورة آل عمران / 55.

8- سورة الحجر / 51-53.

9- سورة الحجر / 57-60.

10- سورة هود / 69-71.

11- سورة الذاريات / 31-34.

12- سورة يوسف / 36-37.

13- سورة يوسف / 41.

14- سورة هود / 64-65.

15- سورة آل عمران / 39.

16- سورة الفتح / 27.

17- سورة الروم / 2-6.

18- سورة الأنفال / 7.

19- سورة التوبة / 107.

20- سورة النجم / 11-18.

21- سورة النمل / 65.

22- سورة الأنعام / 59.

23- سورة يونس / 20.

24- سورة الأنعام / 50.

25- سورة الأعراف / 188.

26- سورة آل عمران / 44.

27- سورة هود / 49.

28- سورة يوسف / 102.

29- سورة آل عمران / 179.

30- سورة الجن / 26-27.

31- سورة التكوير / 24.

32- سورة الجن / 26.

33- سورة النجم / 3-4.