الأكبر لم يحتز رأس بن غانم وعلي (ع) لم يحتز رأس بن عبد ود

 

المسألة:

ذكرتم أنَّ قطع رأس القتيل من المُثلة ولذلك نفيتم قطع عليٍّ الأكبر لرأس ابن غانم في كربلاء، فما هو ردُّكم على ما رُوي من أنَّ الإمام عليَّ بن أبي طالب (ع) حين قتل عمرو بن عبد ود قطع رأسه وحملَه إلى رسول الله (ص)؟

 

الجواب:

لا ريب أنَّ عليًّا (ع) هو مَن قتل عمرو بن عبد ود، فقد تسالمت على ذلك كلماتُ المحدِّثين والمؤرِّخين من الفريقين، ولذلك يُعدُّ قتلُ عليٍّ (ع) لعمرو بن عبد ود من الضرورات التاريخيَّة.

 

وأمَّا أنَّ عليَّ بن أبي طالب (ع) قد احتزَّ رأس عمرو بن عبد ود وحمله إلى رسول الله (ص) فذلك وإن نقلته بعضُ الأخبار إلا أنَّه ونظرًا لضعفها لا يصحُّ التعويل عليها.

 

هذا مضافًا إلى أنَّ هذه الأخبار مع قلَّتها منافية لما ثبت من حرمة إيقاع المُثلة حتى بالكافر كما أفاد ذلك فقهاء الإماميَّة رضوان الله تعالى عليهم كالشيخ الطوسي في كتابيه المبسوط([1]) والنهاية([2])، قال: (لا يجوز التمثيل بالكفار) أي في الحرب وغيرها كما هو مقتضى وقوع هذه الفقرة في سياق البيان لأحكام حرب الكفار، وأفاد ذلك الشيخ ابن إدريس في السرائر([3])، وابن سعيد الحلِّي في الجامع للشرايع([4])، والعلامة الحلِّي في تحرير الأحكام([5])، وتذكرة الفقهاء([6])، ومنتهى المطلب([7])، والشهيد الثاني في المسالك([8])، وقد أفاد صاحب الجواهر رحمه الله أنَّه لم يجد خلافًا في ذلك([9]).

 

ومدرك الحكم بحرمة التمثيل حتى بالكفار هو الروايات المتعاضدة الناهية عن التمثيل:

منها: معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع) قال: "إنَّ النبيَّ (ص) كان إذا بعث أميرًا له على سريَّةٍ أمره بتقوى الله عزَّوجل في خاصَّة نفسه ثم في أصحابه عامَّة ثم يقول: أغزُ بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا مَن كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثِّلوا ولا تقتلوا وليدًا .."([10]).

 

ومنها: معتبرة محمد بن حمران وجميل بن دراج كلاهما عن أبي عبد الله (ع) قال: "كان رسولُ الله (ص) إذا بعث سريَّة دعا بأميرها .. لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تُمثِّلوا .. ولا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًّا .."([11]).

 

ورواياتٌ أخرى كثيرة وردت مِن طرقنا وطرق العامَّة أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة ونظرًا لوضوح المسألة.

 

وما قد يُقال مِن أنَّ قطع رأس الكافر بعد قتله ليس من المُثلة منافٍ لما هو المتفاهم العرفي من معنى المُثلة بل إنَّ صدق المُثلة على قطع الرأس أولى من صدقه على بتر شيءٍ من أعضائه دون الرأس بنظر العرف، ويؤيد ذلك ما هو المستفاد من كلمات اللُّغويين من أنَّ المثلة تعني التنكيل بقطع شيءٍ من أطراف الميِّت.

 

ثم إنَّه يمكن الاستدلال على أنَّ قطع رأس الميِّت يُعدُّ من المُثلة بمعتبرة الحسين بن خالد قال: سألتُ أبا الحسن (ع) فقلت: إنَّا روينا عن أبي عبد الله (ع) حديثًا أُحبُّ أنْ أسمعه منك فقال: وما هو؟، فقلتُ: بلغني أنَّه قال في رجلٍ قطع رأس رجلٍ ميِّت.. قلتُ: فمَن قطع رأس ميِّتٍ أو شقَّ بطنه أو فعل به ما يكون فيه اجتياح نفس الحي فعليه ديةُ النفس كاملة؟ فقال (ع): "لا ولكن ديته دية الجنين في بطن أمِّه قبل أن تلج فيه الروح، وذلك مائة دينار.. ودية هذا له لا للورثة.. فلِما مثَّل به بعد موته صارت ديتُه بتلك المُثلة له لا لغيره يُحج بها عنه .."([12]).

 

فالإمام (ع) قد وصف قطع رأس الميِّت بالمثلة وأفاد: "فلما مثَّل به بعد موته صارت ديتُه بتلك المُثلة له لا لغيره .. يُحجُّ بها عنه".

 

والمتحصَّل مما ذكرناه أنَّ ما نقلته بعضُ الكتب التاريخيَّة من أنَّ الإمام عليَّّ بن أبي طالب (ع) قد احتزَّ رأس عمرو بن عبد ود وحمله إلى رسول الله (ص) منافٍ لما ثبت من الحكم الشرعي بحرمة المُثلة حتى بالكافر استنادًا إلى ما ورد عن النبيِّ (ص) وأهل بيته (ع) بأسانيد معتبرة، ولذلك لا بدَّ من البناء على أنَّ هذا المنقول في كتب بعض المؤرِّخين مكذوبٌ على عليٍّ (ع) والرسولِ الكريم (ص).

 

على أنَّه لو سلَّمنا جدلًا أنَّ قطع رأس الكافر ليس محرَّمًا وإنَّما هو مرجوح فإنَّ ذلك يقتضي الجزم بعدم صدوره من عليٍّ أمير المؤمنين (ع) وذلك لسموِّ أخلاقه وترفُّعه عن أنْ يصدر منه المرجوح من الأفعال، وقد ذكر الكثيرُ من المؤرِّخين أنَّ عليًا (ع) بعد أنْ قتل عمرو بن عبد ود لم يسلبه درعه، وعلَّل ذلك بعد أن سأله عمر بن الخطاب وقال له إنَّه ليس في العرب درع خيرًا منها، أفاد (ع) في جوابه لعمر بن الخطاب: "إنِّي استحييتُ أنْ أكشف عن سوأة ابن عمي" يعني عمرو بن عبد ود.

 

ذكر ذلك المفيد في الإرشاد([13])، والحاكم في المستدرك على الصحيحين وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق([14])، وابن كثير في البداية والنهاية([15])، وابن أبي فتح الأردبيلي في كشف الغمة([16])، وابن كثير في السيرة النبويَّة([17])، وابن شهرآشوب في المناقب([18]) وغيرهم.

 

كما يمكن تأييد ذلك بالروايات الكثيرة المرويَّة من طرقنا وطرق العامَّة والتي أفادت أنَّ عليًّا (ع) كان يُشدِّد على أُمراء السرايا والمقاتلين بأنْ لا يُجهزوا على جريح ولا يُمثِّلوا بقتيل، وكان من آخر وصاياه النهي عن المُثلة ولو بالكلب العقور كما رُوي ذلك بطرق متعاضدة.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


[1]- المبسوط -الشيخ الطوسي- ج2/19.

[2]- النهاية -الشيخ الطوسي- ص298.

[3]- السرائر -ابن ادريس الحلي-ج2 / ص21.

[4]- الجامع للشرايع -يحيى بن سعيد الحلي- ص237.

[5]- تحرير الأحكام -العلامة الحلي- ج2 / ص144.

[6]- وتذكرة الفقهاء -العلامة الحلِّي- ج9 / ص79.

[7]- ومنتهى المطلب -العلامة الحلي- ج2 / ص912.

[8]- المسالك -الشهيد الثاني- ج3 / ص27.

[9]- جواهر الكلام -النجفي- ج21 / ص77.

[10]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج15 / ص58 / كتاب الجهاد باب 15 / ح3.

[11]- الكافي -الكليني- ج5 / ص30 / ح9.

[12]- وسائل الشيعة ج29/ 326.

[13]- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج1 / ص104.

[14]- مكارم الأخلاق -ابن أبي الدنيا- ص69.

[15]- البداية والنهاية -ابن كثير- ج4 / ص122.

[16]- كشف الغمة -الأربيلي- ج1 / ص205.

[17]- السيرة النبوية -ابن كثير- ج3 / ص205.

[18]- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج1 / ص234.