قول النبيِّ (ص) لوحشي: غيِّب وجهَك عنِّي؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل صحيح ما ورد في روايات الآخرين أنَّ رسول الله (صلى عليه وآله) قد خاطب وحشي قاتل حمزة، (عليه السلام) بالقول: "غيِّب وجهَك عنِّي"؟

 

الجواب:

نعم ورد ذلك في كتب الفريقين فمن ذلك ما أورده القاضي النعمان في شرح الأخبار قال: "وأسلم وحشي بعد ذلك، فقال له رسولٌ الله (صلى الله عليه وآله): غيِّب وجهَك عنِّي، فكان إذا رآه توارى منه، وخرج بعد ذلك إلى الشام، وكان يشرب الخمر ويلبس المعصفرات وحُدَّ على شرب الخمر، وهو أول من حُدَّ في الشام على شرب الخمر"([1]).

 

وأورد ذلك السيد ابن طاووس (رحمه الله) في كتابه سعد السعود([2]).

 

وأورد ذلك أكثر مؤرِّخيهم([3]) فمن ذلك ما أورده ابن قتيبة الدينوري في المعارف قال: "وحشيّ بن حرب، ويكنى: أبا دسمة، وكان من سودان مكة، عبدا لـ "جبير بن مطعم"، قتل "حمزة"، وأتى النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مسلمًا، فقال له النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) غيّب وجهَك عني، قال: فكنت إذا رأيته في الطريق، تقصّيتها، وخرج إلى الشام، فنزل "حمص"، فكان يشرب الخمر، ويلبس المُعصفَر، وهو أوّل من حُدَّ بالشام في الخمر"([4])، يعني إذا رأى النبيَّ في الطريق تنكَّبه وذهب بعيدًا حتى لا يراه النبيُّ (ص).

 

وكذلك أورده العديدُ من مُحدِّثيهم كالبيهقي في السنن الكبرى، والطيالسي في مسند أبي داود، والطبراني في المعجم الكبير وغيرهم، وذكروا أنَّ وحشيًّا هرب من مكة -بعد أن فتحها الرسول (ص) في عام الفتح- إلى الطائف فلمَّا أجمع أهل الطائف على مصالحة النبي (ص) تغلَّقت السُبل في وجه وحشي وأخذ يفكر إلى أين يهرب فجاءه رجلٌ وأخبره أنَّ النبيَّ (ص) لا يقتل من وفد عليه مسلمًا وتشهد في محضره بالشهادتين، يقول وحشي: فبينا أنا في همِّي إذ عرض لي رجل فقال: ما لي أراك هكذا؟ قلتُ هذا الرجل قد بلغتُ من عمِّه، وقد أرى هؤلاء القوم قد أجمعوا على مصالحته، فما أدري أين أذهب، قال: فوالله ما يقتل أحدا أتاه وشهد شهادته فخرجتُ كما أنا، فوالله ما شعرت حتى قمتُ على رأسه بالمدينة فرفع رأسَه فنظرَ إليَّ فقال: وحشي؟ قلت: وحشي وشهدتُ بشهادته فقال: ويحك أخبرني عن قتلك حمزة كيف قتلته؟ فأخبرته .. فقال ويحك غيِّب عني وجهك فكنت أتجنبه حتى قبضه الله تعالى .."([5]).

 

فالواضح من هذا النص وغيره أنَّ الرجل لم يكن ينوي أن يُسلِم وأنَّه إنَّما أقدم على الإسلام ليحقن دمَه، وقد أدرك غايته من إسلامه، فقول النبيِّ (ص) له: "غيِّب وجهك عنِّي" نشأ عن معرفته أنَّ إسلامه لم يكن عن قناعة بل كان نفاقًا، فهو قد أظهر الإسلام ولكنَّه كان يُبطن الكفر، ويؤكِّد ذلك أنَّه ظلَّ على فسقه يتعاطى الخمر رغم أنَّ شربه من كبائر الذنوب ورغم أنَّ حرمته من ضرورات الدين، وقد أُقيم عليه الحد مرارًا لكنَّه لم يكن يرعوي عن معاقرته إلى آخر عمره حتى أنَّه مات وهو مخمور، ففي ذخائر العقبى وغيره قال: "وعن سعيد بن المسيب كان يقول: كنتُ أعجبُ لقاتل حمزة كيف ينجو حتى بلغني أنَّه مات غريقًا في الخمر. خرَّجه الدارقطني على شرط الشيخين. قال ابن هشام بلغني أنَّ وحشيا لم يزل يجد في الخمر حتى خُلع من الديوان وكان عمر يقول لقد علمتُ أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة"([6]).

 

وقال ابن الأثير في الكامل: ".. ومنهم وحشيّ بن حرب قاتل حمزة فهرب يوم الفتح إلى الطائف، ثمِ قدم في وفد أهله على رسول اللهّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا اللهّ وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقال النبيُّ صلى الله عليه وآلخ وسلم: أوَحشِيّ؟ قال نعم. قال: أخبرني كيف قتلت عمي؟ فأخبره فبكى وقال: غيبْ وجهك عني. وهو أول من جُلِدَ في الخمر، وأول من لبس المعصفر المصقول في الشام([7]).

 

وقال البلاذري في أنساب الأشراف: ".. فهرب -وحشي- إلى الطائف، ثم قدم في وفدها فدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدا رسول الله. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أوحشي؟ قال: نعم قال: أخبرني كيف قتلتَ حمزة؟ فأخبره. فقال: غيّب عنى وجهك. قال الواقدي: فأول مَن ضُرب في الخمر وحشى، وأول من لبس المعصفر المصقول بالشأم وحشى، لا اختلاف بينهم في ذلك"([8]).

 

فمثل هذا الفاسق الذي لم يعرف طعم الإيمان وقد اجترح أعظم موبقة في تاريخ الإسلام بقتله سيد الشهداء بعد الحسين (ع) لا يستحقُّ الحفاوة والإكرام، ولهذا أعرض النبيُّ (ص) بوجهه الكريم عنه لعلمه بخبث سريرته وسوء عاقبته وقد أمره الله تعالى بأن يجاهد المنافقين ويغلظ عليهم كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾([9]).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

28 / شهر رمضان / 1442هـ

11 / مايو / 2021م


[1]- شرح الأخبار -القاضي النعمان- ج3 / ص231.

[2]- سعد السعود- السيد ابن طاووس- ص211.

[3]- الاستيعاب -ابن عبد البر- ج4 / ص1565، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج62 / ص405، أسد الغابة -ابن الأثير- ج5 / ص84، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج1 / ص176، المغازي -الواقدي- ج2 / ص863.

[4]- المعارف -ابن قتيبة- ص330.

[5]- المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص148، مسند أبي داود الطيالسي -الطيالسي- ص186، السنن الكبرى -البيهقي- ج9 / ص98.

[6]- ذخائر العقبى -الطبري- ص179، شرح مسند أبي حنيفة -ملا علي القاري- ص528.

[7]- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج2 / ص250.

[8]- أنساب الأشراف -البلاذري- ج1 / ص363.

[9]- سورة التوبة / 73.