حليَّة الصدقة المندوبة على الهاشمي

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل تحلُّ الصدقة المندوبة على الهاشمي؟

 

الجواب:

المشهور شهرةً عظيمة بين الفقهاء حليَّة الصدقات المندوبة للهاشمي -عدا النبيَّ الكريم (ص) والأئمة (ع)- بل أفاد صاحبُ الجواهر (رحمه الله) أنَّه لم يجد في ذلك مخالفًا وأنَّ الاِجماع المحصَّل منعقدٌ على ذلك، والمنقولُ منه صريحًا وظاهرًا يفوق حدَّ الاستفاضة([1]).

 

ويُمكن أنْ يُستدلَّ على حلِّيَّة الصدقات المندوبة للهاشمي بالعديد من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع):

 

منها: صحيحة جَعْفَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قُلْتُ لَه: أتَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِبَنِي هَاشِمٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا تِلْكَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى النَّاسِ لَا تَحِلُّ لَنَا، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِه بَأْسٌ، ولَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى مَكَّةَ، هَذِه الْمِيَاه عَامَّتُهَا صَدَقَةٌ"([2]).

 

فهذه الرواية صريحة في حليَّة الصدقة غير الواجبة على الهاشمي كما هو مقتضى تصدِّي الإمام (ع) للتفصيل بين ما يحلُّ وما لا يحل وقوله: فأمَّا غير ذلك أي غير الصدقة الواجبة فليس به بأس. ثم أكَّد الامام (ع) -رفعًا للاستيحاش- ما أفاده من حليَّة الصدقة المندوبة للهاشمي بما جرت عليه العادة من انتفاع بني هاشم من المياه المسبَّلة في طريق مكة رغم أنَّ عامَّتها صدقة، فلو كانت الصدقة المندوبة محرَّمة على الهاشميين لتصدَّى أهل البيت (ع) لنهي الهاشميين عن الانتفاع بها.

 

ومنها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: لو حُرمتْ علينا الصدقة لم يحل لنا أنْ نخرج إلى مكة، لأنَّ كلَّ ما بين مكة والمدينة فهو صدقة"([3]).

 

فالمقصود من الصدقة التي نفى الإمام (ع) حرمتها على بني هاشم هي الصدقة المندوبة، وذلك لأنَّ الزكاة المفروضة محرَّمة بالضرورة الفقهيَّة عند عموم المسلمين على بني هاشم، فهذه القرينة تقتضي يقينًا استظهار أنَّ الإمام (ع) أراد من الصدقة التي نفى حرمتها على بني هاشم أراد منها الصدقة المندوبة.

 

ومنها: موثقة إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الصَّدَقَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ مَا هِيَ؟ قَالَ: هِيَ الزَّكَاةُ، قُلْتُ: فَتَحِلُّ صَدَقَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؟ قَالَ: نَعَمْ"([4]).

 

فالمقصود من الزكاة التي خصَّ بها الإمام (ع) الحرمة على بني هاشم هي الزكاة المفروضة أي زكاة المال والبدن -الفطرة- فهي التي ينسبق إليها الذهن عند الإطلاق، ويؤيِّد ذلك ما ورد من التصريح بإرادة الزكاة المفروضة في رواية زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألتُه عن الصدقة التي حُرِّمت عليهم فقال: هي الزكاة المفروضة، ولم تحرَّم علينا صدقةُ بعضنا على بعض"([5]).

 

وبما ذكرناه يتَّضح أنَّ المتعيَّن هو تقييد الإطلاقات التي دلَّت على حرمة مطلق الصدقة على بني هاشم كصحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وأَبِي بَصِيرٍ وزُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): إِنَّ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ أَيْدِي النَّاسِ، وإِنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَ عَلَيَّ مِنْهَا ومِنْ غَيْرِهَا مَا قَدْ حَرَّمَه وإِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ .."([6]).

 

فإنَّ المتعيَّن بمقتضى صناعة الإطلاق والتقييد هو حملُ قوله (ص): "وإِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" على خصوص الصدقة الواجبة وأنَّ الصدقة المستحبة ليست مقصودة بقرينة مثل صحيحة جَعْفَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيِّ وغيرها.

 

هل المحرَّم هو خصوص الزكاة أو هو مطلق الصدقة الواجبة:

ثم إنَّه وقع البحث فيما يحرم من الصدقة الواجبة على الهاشمي هل هو خصوص الزكاة المفروضة وهي زكاة المال وزكاة الفطر أو يشمل ذلك الكفارات والصدقات الواجبة بمثل النذر والعهد واليمين والواجبة لوقوعها شرطًا في ضمن عقدٍ لازم والواجبة ردًّا للمظالم أو للمال المجهول المالك؟

 

ذهب عددٌ من الفقهاء إلى أنَّ المحرَّم على الهاشمي هو مطلق الصدقة الواجبة وأنَّ الحرمة لا تختصُّ بالزكاة المفروضة بل تشمل مثل الكفارات والنذور، وقد نسب صاحبُ الجواهر (رحمه الله) هذا القول إلى السيد المرتضى في الانتصار، والشيخ الطوسي في الخلاف، والمحقِّق الحلِّي في المعتبر، والفاضل في جملةٍ من كتبه وادَّعى بعضهم الاجماع على ذلك كما أفاد صاحبُ الجواهر([7]).

 

وفي مقابل ذلك ذهب عددٌ من الفقهاء كالفاضل في القواعد، والمقداد في التنقيح، والكركي في جامع المقاصد، والشهيد الثاني في الروضة والمسالك، والسيد العاملي المدارك إلى اختصاص الحرمة بالزكاة المفروضة([8])، فإن ذلك هو مقتضى صحيحة إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ والتي أفادت أنَّ المحرَّم على الهاشمي إنَّما هي الزكاة والتي هي ظاهرة في خصوص المعهودة أعني زكاة المال وزكاة الفطرة، ويؤيِّده- كما ذكرنا- رواية زيد الشحام، وعليه تكون صحيحة إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ صالحة لتقييد وتفسير الروايات التي أفادت أنَّ المحرَّم على الهاشمي هي الصدقة الواجبة.

 

ويُمكن تأييد ذلك أيضًا -كما أفاده السيد الخوئي([9])- بما ورد في صحيحة جَعْفَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيِّ قال (ع): "إِنَّمَا تِلْكَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى النَّاسِ" فإنَّ الذي يجب على عموم الناس هو الزكاة المفروضة وأما الكفارات فهي لا تجب إلا عند تحقُّق موجبها من المكلَّف وكذلك يُمكن تأييد اختصاص الحرمة بالزكاة المفروضة بما دلَّ على أنَّ ملاك تحريم الزكاة هو أنَّها من أوساخ الناس وأنَّها شُرعت لتطهير أموالهم لذلك فهي لا تليق بقرابة الرسول (ص) ولذلك حُرِّمت عليهم، ومن الواضح أنَّ هذا الملاك مختصٌّ بزكاة المال والبدن -الفطرة- وأمَّا الكفارات والنذور فليس الملاك من جعلها هو أنَّها من أوساخ الناس وأنَّها مطهرة لأموالهم، فليكن هذا والذي قبله قرينة على أنَّ المقصود ممَّا يحرم من الصدقات على بني هاشم هو خصوص الزكاة المفروضة كما نصَّت على ذلك صحيحة إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ المؤيدة برواية زيد الشحام لا أقلَّ من أنَّ مجموع ما ذكرناه صالحٌ للقرينية، فيكون ذلك مانعًا من انعقاد الإطلاق لحرمة مطلق الصدقة الواجبة بمعنى أنَّ صلاحيَّة ما ذكرناه للقرينية يوجب إجمال المراد جدًّا ممَّا ورد من حرمة مطلق الصدقة الواجبة على الهاشمي فيقتضي ذلك التمسُّك بالقدر المتيقن منها وهو حرمة خصوص الزكاة المفروضة.

 

وكيف كان فحتى بناءً على القبول بحرمة مطلق الصدقة الواجبة على الهاشمي فإنَّ ذلك لا يشمل مثل النذور والوصايا ومجهول المالك ورد المظالم كما أفاد ذلك السيد الخوئي (رحمه الله)([10]).

 

الوجه في عدم شمول الحرمة للنذور والوصايا:

أمَّا بالنسبة للنذور والوصايا وما وجب بالعقود اللازمة فلأنَّ النذر مثلًا لا يصيِّر من الصدقة المندوبة واجبة فمتعلَّق النذر ليس هو الصدقة حتى يقال إنَّها أصبحت واجبة بالنذر بل إنَّ متعلَّق النذر هو الوفاء به فالذي تعلَّقت به ذمة المكلَّف هو وجوب الوفاء بالنذر غايته أنَّ موضوع وجوب الوفاء بالنذر هو الصدقة المندوبة، فالواجب هو الوفاء بالنذر وموضوعه الصدقة المندوبة، وكذلك هو الالتزام بالشرط الواقع ضمن العقد وموضوعه الصدقة المستحبة، ولو كانت الصدقة المندوبة تُصبح واجبة بالشرط لما أمكن الوفاء بالشرط لأنَّ الشرط هو الإعطاء للصدقة المندوبة وهو حين أعطاها بالشرط كانت واجبة بحسب الفرض فلم يتم الالتزام بالشرط ولا يمكن الالتزام به، وهكذا فإن متعلَّق النذر هو الصدقة المندوبة فلو قيل إنَّ الصدقة المندوبة تُصبح واجبة بالنذر لما أمكن الوفاء بالنذر لأنَّ ما سيُخرجه سيكون صدقةً واجبة والحال أنَّه نذرَ إخراج صدقة مستحبَّة، وهذا ما يُنبِّه على أنَّ الواجب ليس هو الصدقة وإنَّما هو الإخراج فهو متعلَّق النذر ومتعلَّق الشرط وهكذا.

 

وينبِّه على ذلك أيضًا ما أفاده السيد الخوئي (رحمه الله)([11]) من أنَّه لو نذر المكلَّف أنْ يتصدَّق على هاشمي كرامةً للرسول (ص) فإنَّه لا إشكال -ظاهرًا- في انعقاد النذر، والحال أنَّ النذر لا ينعقد على محرَّم، وهو ما يكشفُ عن أنَّ الصدقة المندوبة لا تكون واجبة بالنذر وإلا لم ينعقد النذر بها لأنَّه لا ينعقد على محرَّم، فمنشأُ انعقاد النذر بالصدقة المندوبة على الهاشمي هو أنَّ الصدقة المندوبة لا تُصبح واجبة بالنذر وإنَّما الذي يجب بالنذر هو الوفاء به وذلك بإعطاء الصدقة المندوبة للهاشمي.

 

الوجه في عدم شمول الحرمة لمجهول المالك والمظالم:

وأمَّا بالنسبة للمظالم والتصدُّق بمجهول المالك فكذلك لا تكون الصدقة واجبة بل هي مندوبة بالإضافة إلى مالك المال المجهول أو الذي لا يمكن الوصول إليه غايته أنَّ مَن بيده المال يجب عليه إخراجه صدقةً عن مالكه، فالمُتصدَّق عنه وهو المالك لا تجب عليه الصدقة والذي يجب عليه إخراج المال صدقةً ليس مالكًا.

 

وبتعبير آخر: إنَّ المستظهر من الأدلَّة -بناء على تماميتها- هو أنَّ الصدقة الواجبة على نفس المالك هي التي يحرم إعطاؤها للهاشمي ومفروض الكلام أنَّ مالك المال وهو المكلَّف المجهول لا تجب عليه الصدقة وإنَّما تعلَّق الوجوب بمكلَّفٍ آخر ليس مالكًا للمال.

 

والمتحصَّل من مجموع ما ذكرناه أنَّ الصدقات المنذورة والموصى بها وكذلك المظالم والأموال مجهولة المالك خارجة عن موضوع دليل الحرمة، وتبقى الكفارات فإنْ قبلنا بتماميَّة إطلاق ما دلَّ على حرمة مطلق الصدقة الواجبة فلابدَّ من البناء على حرمتها على الهاشمي وإنْ قلنا بصحَّة تقييدها بمثل موثقة إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ -كما هو الأظهر- فالنتيجة هي اختصاص الحرمة بالزكاة المفروضة.

 

نعم لم يستبعد بعضُ الفقهاء استثناء الصدقات المندوبة كالتي تعطى بقصد دفع البلاء وكالتي تُوضع تحت رؤوس المرضى وشبهها من الصدقات الخسيسة، فإنَّ مثلها يشكل إعطاؤها للهاشمي لأنَّها موجبة للمذلَّة والتوهين والذي هو أحد ملاكات تحريم الزكاة المفروضة عليهم.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

8 / ذو القعدة / 1442هـ

19 / يونيو / 2021م


[1]- جواهر الكلام- النجفي- ج15 / ص413.

[2]- الكافي -الكليني- ج4 / ص59.

[3]- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج4 / ص61.

[4]- الكافي -الكليني- ج4 / ص59.

[5]- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج4 / ص59.

[6]- الكافي -الكليني- ج4 / ص58.

[7]- جواهر الكلام -النجفي- ج15 / ص411.

[8]- جواهر الكلام -النجفي- ج15 / ص412.

[9]- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج24 / ص189.

[10]- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج24 / ص189.

[11]- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج24/ ص189.