الحلفُ بالبراءة من حوْل الله وقوَّته

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

أورد الكليني في الكافي روايةً مفادها أنَّ رجلًا افترى على الإمام الصادق (ع) عند المنصور الدوانيقي فلمَّا حضر الإمام (ع) وحلف الرجلُ على صدق دعواه الباطلة طلب الإمام (ع) منه أنْ يحلف بالبراءة من حول الله وقوَّته إنْ كان صادقًا فحلف بذلك فمات من ساعته.

 

والسؤال هو هل يُفهم من هذه الرواية جواز إلجاء المدَّعى عليه الشاهد للمباهلة في مجلس القضاء؟ وهل يمكن للمدَّعى عليه أن يعتبرها وسيلةً للدفاع عن نفسه في حال اتِّهامه بتهم كاذبة؟ وهل يحقُّ للقاضي أنْ يرفض إلجاء المدَّعى عليه الخصم للمباهلة؟ مع وجود فعل الإمام (ع) التي ذكرته هذه الرواية؟

 

الجواب:

الرواية المشار إليها في السؤال أوردها الكليني في الكافي نذكرها بطولها للفائدة، قال: عن عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّه عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِه عَنْ صَفْوَانَ الْجَمَّالِ قَالَ: حَمَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) الْحَمْلَةَ الثَّانِيَةَ إلى الْكُوفَةِ وأَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ بِهَا فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْهَاشِمِيَّةِ مَدِينَةِ أَبِي جَعْفَرٍ أَخْرَجَ رِجْلَه مِنْ غَرْزِ الرِّجْلِ ثُمَّ نَزَلَ ودَعَا بِبَغْلَةٍ شَهْبَاءَ ولَبِسَ ثِيَابَ بِيضٍ وكُمَّةً بَيْضَاءَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْه قَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ: لَقَدْ تَشَبَّهْتَ بِالأَنْبِيَاءِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) وأَنَّى تُبَعِّدُنِي مِنْ أَبْنَاءِ الأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ إلى الْمَدِينَةِ مَنْ يَعْقِرُ نَخْلَهَا ويَسْبِي ذُرِّيَّتَهَا فَقَالَ: ولِمَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: رُفِعَ إِلَيَّ أَنَّ مَوْلَاكَ الْمُعَلَّى بْنَ خُنَيْسٍ يَدْعُو إِلَيْكَ ويَجْمَعُ لَكَ الأَمْوَالَ فَقَالَ: واللَّه مَا كَانَ فَقَالَ: لَسْتُ أَرْضَى مِنْكَ إِلَّا بِالطَّلَاقِ والْعَتَاقِ والْهَدْيِ والْمَشْيِ فَقَالَ (ع): أبِالأَنْدَادِ مِنْ دُونِ اللَّه تَأْمُرُنِي أَنْ أَحْلِفَ إِنَّه مَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَّه فَلَيْسَ مِنَ اللَّه فِي شَيْءٍ، فَقَالَ أتَتَفَقَّه عَلَيَّ، فَقَالَ: وأَنَّى تُبَعِّدُنِي مِنَ الْفِقْه وأَنَا ابْنُ رَسُولِ اللَّه (ص) فَقَالَ: فَإِنِّي أَجْمَعُ بَيْنَكَ وبَيْنَ مَنْ سَعَى بِكَ قَالَ: فَافْعَلْ فَجَاءَ الرَّجُلُ الَّذِي سَعَى بِه فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): يَا هَذَا فَقَالَ: نَعَمْ واللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ والشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَقَدْ فَعَلْتَ، فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) وَيْلَكَ تُمَجِّدُ اللَّه فَيَسْتَحْيِي مِنْ تَعْذِيبِكَ ولَكِنْ قُلْ بَرِئْتُ مِنْ حَوْلِ اللَّه وقُوَّتِه وأَلْجَأْتُ إلى حَوْلِي وقُوَّتِي فَحَلَفَ بِهَا الرَّجُلُ فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا حَتَّى وَقَعَ مَيِّتًا، فَقَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ لَا أُصَدِّقُ بَعْدَهَا عَلَيْكَ أَبَدًا وأَحْسَنَ جَائِزَتَه ورَدَّه"([1]).

 

وقد أورد الراوندي في الخرائج والجرائح عن الرضا (ع) ما يقرب من هذه الرواية وورد في ذيل الرواية أنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال: سمعتُ أبي يذكر عن جدِّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: إنَّ من الناس من يحلف بالله كاذبًا فيعظِّم الله في يمينه ويصفه بصفاته الحسنى فيأتي تعظيمه لله على إثم كذبه ويمينه، ولكن دعني احلفه باليمين التي حدَّثني أبي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّه لا يحلف بها حالفٌ إلا باءَ بإثمه، فقال المنصورُ: فحلِّفه إذًا يا جعفر، فقال الصادق (عليه السلام) للرجل: قلْ: إنْ كنتُ كاذبًا عليك فبرئتُ من حول الله وقوَّته ولجأتُ إلى حَولِي وقوَّتي، فقالها الرجلُ، فقال الصادقُ (عليه السلام): اللهمَّ إنْ كانَ كاذبًا فامتْه، فما استتمَّ كلامه حتى سقط الرجلُ ميِّتًا واحتُمل ومُضيَ به. الحديث. ورواه الشيخ المفيد في (الارشاد) مرسلا نحوه([2]).

 

أمَّا أنَّه هل يُستفاد من الرواية جواز إلجاء المدَّعى عليه الشاهد للمباهلة في مجلس القضاء؟

فالجواب أولًا أنَّ هذه ليست مباهلة وإنَّما هي استحلاف للشاهد بالبراءة من حول الله تعالى وقوته، والإمام (ع) وهو المدَّعى عليه زورًا وبهتانًا لم يُلجِأ الشاهد على الحلف بالبراءة وإنَّما طلب منه ذلك وهو قد قَبِل بذلك اجتراءً على الله ورسوله (ص) فلا دلالة للرواية على جواز الإلجاء، نعم قد يقال بدلالة الرواية -بقطع النظر عمَّا سيأتي- على جواز أن يطلب المدَّعى عليه من الشاهد الكاذب الملتفت أنْ يحلف بالبراءة.

 

وكيف كان فالمسألة ينبغي أنْ تُبحث من جهتين:

الجهة الأولى: هي حكم الحلف بالبراءة

الجهة الثانية: هي حكم استحلاف الكاذب الظالم بالبراءة من الله تعالى أو البراءة من حوله تعالى وقوَّته.

 

حكم الحلف بالبراءة من حَوْل الله وقوَّته:

أما الجهة الأولى: وهي حكم الحلف بالبراءة فالمشهور هو حرمة الحلف بالبراءة مطلقًا يعني حتى لوكان صادقًا بل ادَّعى صاحبُ الجواهر (رحمه الله) عدم الخلاف في حرمة الحلف بالبراءة([3]) وأفاد أنَّ الإجماع بقسميه منعقدٌ على الحرمة من غير فرقٍ بين الصدق والكذب والحنث وعدمه([4]).

 

و يُستدلُّ لحرمة يمين البراءة مطلقًا بمثل معتبرة ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ رَفَعَه قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّه (ص) رَجُلًا يَقُولُ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ لَه رَسُولُ اللَّه (ص): وَيْلَكَ إِذَا بَرِئْتَ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ فَعَلَى دِينِ مَنْ تَكُونُ قَالَ: فَمَا كَلَّمَه رَسُولُ اللَّه (ص) حَتَّى مَاتَ"([5]).

 

وكذلك بما رواه الشيخ الصدوق قال: قال الصادق (عليه السلام): "مَن برئ من الله عز وجل صادقا كان أو كاذبا فقد برئ الله منه"([6]).

 

 وتقريبُ الاستدلال بالرواية واضحٌ فإنَّ البراءة من حول الله وقوَّته نحوٌ من أنحاء البراءة من الله تعالى، وقد أفادت الرواية أنَّ مَن فعل ذلك فقد برئ اللهُ تعالى منه، وهي أسوأ عقوبةٍ يجنيها مُذنب، فلم يتبرأ الله تعالى في القرآن إلا من المشركين قال تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾([7]).

 

وكذلك فإنَّ دلالة معتبرة ابن أبي عمير تامَّة، وذلك لأنَّ البراءة من دين محمَّد (ص) تعني البراءة من التوحيد والرسالة، وعليه فإنَّ مَن برئ من حول الله تعالى وقوَّته فقد برئ من دين محمَّد (ص) لأنَّه بذلك قد برئ من التوحيد والذي هو الركن الأول لدين محمَّد (ص) وتوبيخ النبيِّ (ص) لمَن حلف البراءة من دين محمد (ص) ومخاطبته له بالويل ثم قطيعته وهجرانه له إلى مات (ص) ظاهرٌ في حرمة الحلف بالبراءة.

 

حكم استحلاف الكاذب الظالم بالبراءة:

وأمَّا الجهة الثانية: وهي حكم استحلاف الكاذب الظالم بالبراءة فإنَّه بعد البناء على حرمة الحلف بالبراءة فإنَّ الاستحلاف والمطالبة بالحلف بالبراءة لا يكون سائغًا، إذ ليس للمكلَّف أنْ يطلبَ من آخر فعل المعصية، وأمَّا رواية صفوان الجمال والتي أفادت أنَّ الإمام (ع) قد استحلف من افترى عليه عند المنصور فهي -كما أفاد صاحب الجواهر([8])- قضيَّة في واقعة أي أنَّ خصوصياتها -ككون المُفترى عليه إمامٌ وأنَّه في مقام الإثبات لمقامه عند الله في محضر حاكمٍ غشوم وناصبي، ولأنَّه أراد أنْ يقطع الطريق على هذا الناصبي حتى لا يجترئ عليه مرَّة أخرى فيقبل فيه قول السُعاة والواشين، هذه الخصوصيات وغيرها مانعه من إمكان الاستدلال بالرواية على الإطلاق، ولو أُريد التمسُّك بالرواية فيكون ذلك عند اجتماع هذه الخصوصيَّات فإنَّه لا ريب في جواز الاستحلاف بالبراءة -استنادًا للرواية- عند اجتماع هذه الخصوصيات. وأما عند انتفاء هذه الخصوصيات وغيرها مما يحتمل دخله في الجواز فإنَّه لا سبيل للتمسك بالرواية لإثبات الجواز لعدم ظهورها في الإطلاق، ولعلَّه لهذا أفاد صاحب الجواهر([9]) أنَّه لم يجد من الأصحاب من أفتى بالجواز إلا ما يظهر من صاحب الوسائل حيث عنونَ في كتاب الأيمان بابًا بعنوان: باب جواز استحلاف الظالم بالبراءة من حول الله وقوته([10]) واستدلَّ عليه برواية صفوان.

 

وكذلك استدلَّ عليه بما ورد عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة قال: "أَحْلِفُوا الظَّالِمَ إِذَا أَرَدْتُمْ يَمِينَهُ بِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ حَوْلِ اللَّهِ وقُوَّتِهِ فَإِنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِهَا كَاذِبًا عُوجِلَ الْعُقُوبَةَ وَإِذَا حَلَفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهً إِلَّا هُوَ لَمْ يُعَاجَلْ لأَنَّهُ قَدْ وَحَّدَ اللَّهً سُبْحَانَهُ وتَعَالَى"([11]).

تقريب دلالة رواية النهج على الاستحلاف بالبراءة:

والإنصاف أنَّ رواية النهج صالحةٌ للدلالة على جواز استحلاف الظالم بالبراءة ولكن لا بمعنى إلزامه بالحلف بالبراءة، إذ لا يسوغ إلزامه بفعل المعصية وقد ثبت أنَّ الحلف بالبراءة معصية، وكذلك هو ليس بمعنى ترغيبه في الحلف بالبراءة، إذ لا يسوغ لمسلمٍ ترغيب الغير في ارتكاب المعصية بل إنَّ المراد من الاستحلاف هو القول له إنَّ دعواك مكذوبة ويمينُك التي أثنيتَ فيها على الله تعالى لا تُقبل لأنَّ الله تعالى لا يُعجِّل بالعقوبة على مَن أثنى عليه وإن كان كاذباً، فإنْ كنت صادقاً في دعواك وتطمح في قبولها فاحلف بالبراءة فإنَّ عقوبة ذلك معجَّلة، فالاستحلاف بالبراءة يعني في المآل التخويف والوعظ بترك دعواه الكاذبة، وذلك من طريق طلب الحلف بالبراءة المقتضي لتعجيل العقوبة فإمَّا أنْ يختار الترك لدعواه الكاذبة أو يختار على علمٍ وبسوء اختياره تعجيل العقوبة، فالاستحلاف ليس من قبيل طلب فعل المعصية كما اتَّضح.

تماماً كما لو طلب المدَّعى عليه من المدَّعي أو من الشاهد أن يحلف بالله على دعواه وهو يعلم يقيناً أنَّه كاذب فإنَّ الحلف على الدعوى الكاذبة حرامٌ ورغم ذلك لا يُعدُّ طلب الحلف من الكاذب من طلب فعل المعصية لأنَّ المدَّعى عليه حينما يطلبُ من الشاهد الكاذب الحلف إنَّما يطلب منه -واقعاً- التخلِّي عن دعواه الكاذبة لا أنَّه يطلب منه فعل المعصية بالحلف بالله على كذبه.

وهكذا حينما يُفترض علم القاضي بكذب المدَّعي أو كذب الشاهد فإنَّه لا يحرم على القاضي أن يطلب من المدَّعي الحلف بالله رغم أنَّ المدَّعي لو حلف فسوف يكون حلفه حراماً لأنَّه سيحلفُ على الكذب ومع ذلك يجوز للقاضي أنْ يطلب منه الحلف ولا يعدُّ ذلك من طلب الفعل للمعصية بل إنَّ طلب الحلف يعني واقعاً الطلب من الكاذب أنْ يتخلَّى عن كذبه وعن دعواه الكاذبة.

ولذلك نجد القرآن يطلبُ من المتلاعنين الحلف رغم العلم قطعاً أنَّ أحدهما كاذبٌ، فإما أنْ يكون الزوج كاذباً في شهادته على زوجته بالفاحشة، وإمَّا أن تكون الزوجة كاذبة في نفي الفاحشة عن نفسها، فطلبُ الحلف بالله منهما معاً يعني أنَّ أحدهما -قطعاً- سوف يرتكب المعصية بالحلف بالله ورغم ذلك لا يُعدُّ طلب الحلف منهما من طلب المعصية، وذلك لأنَّ طلب القاضي الحلف منهما إنَّما يعني الطلب من الكاذب أنْ يتخلَّى عن كذبه ويُذعِن للحق، فإذا اختار الحلف على الكذب فهو بسوء اختياره.

كذلك هو الشأن في الاستحلاف بالبراءة فإنَّه من طلب التخلِّي عن الكذب، فلو أصرَّ عليه وحلف بالبراءة فهو بسوء اختياره.

ولذلك لا مانع من الالتزام بجواز استحلاف الظالم بالبراءة وإنْ كنا نلتزم بحرمة الحلف بالبراءة، إذ لا ملازمة بين حرمة الحلف بالبراءة وبين الاستحلاف بها تماماً كما هو الشأن في الحلف بالله على الكذب فإنَّه لا ملازمة بين حرمة الحلف بالله على الكذب وبين استحلاف الكاذب. نعم الأحوط كما أفاد صاحب الجواهر عدم استحلاف الظالم الكاذب بالبراءة إلا أن يكون مهدور الدم كالناصبي.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

11 / ذو القعدة / 1442هـ

22 / يونيو / 2021م


[1]- الكافي -الكليني- ج6 / ص446.

[2]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج23 / ص270.

[3]- جواهر الكلام- النجفي- ج35 / ص345.

[4]- جواهر الكلام -النجفي- ج33 / ص180.

[5]- الكافي -الكليني- ج7 / ص438.

[6]- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص375.

[7]- سورة التوبة / 3.

[8]- جواهر الكلام -النجفي- ج33 / ص180.

[9]- جواهر الكلام- النجفي- ج35 / ص345.

[10]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج23 / ص269.

[11]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج23 / ص269.