الأربعة أشهر لترك الوطء هل يختصُّ بالشابَّة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

تحديد حرمة ترك وطء الزوجة لأكثر من أربعة أشهر هل يختصُّ بالشابَّة أو يشمل المسنَّة والمكتهلة؟

 

الجواب:

المشهور بين الفقهاء هو إطلاق الحرمة وعدم اختصاص ذلك بالشابَّة، واستدلَّ صاحبُ الجواهر (رحمه الله) على دعوى الإطلاق بدخول غير الشابَّة في معقد الإجماع، ونَسب إلى صاحب الرياض التصريح بقيام الاجماع على عدم اختصاص الحرمة بالشابَّة. واستدلَّ كذلك على إطلاق الحرمة بقاعدة نفي الحرج([1]).

 

مناقشة دليل دعوى الإطلاق:

إلا أنَّ الصحيح هو عدم صلاحيَّة ما أفاده لإثبات دعوى الإطلاق فإنَّ الاستدلال بالإجماع على أصل الحرمة ليس تامًّا فضلًا عن الاستدلال به على الإطلاق، فليس هو من الإجماعات التعبديَّة الكاشفة عن قول المعصوم (ع) بل هو من الإجماعات المدركيَّة أو المحتمِلة للمدركيَّة، فإنَّ من المحتمل قويًّا إنْ لم يكن من المحرَز استناد المجمعين أو بعضهم إلى مثل صحيحة صفوان عن الإمام الرضا (ع): أنَّه سأله عن رجلٍ تكون عنده المرأة الشابَّة، فيُمسك عنها الأشهر والسنة، لا يقربُها، ليس يريد الاضرار بها، يكون لهم مصيبة، أيكونُ في ذلك آثما؟قال: إذا تركها أربعة أشهر كان آثما بعد ذلك"([2]) فلو كان مدرَكُ الإجماع هو هذه الرواية أو غيرها فالمتعيَّن هو النظر في حدود ما تقتضيه دلالة هذا المدرَك وليس في حدود ما يقتضيه معقد هذا الإجماع المستنِد إلى هذا المدرك.

 

مناقشة الاستدلال بقاعدة نفي الحرج:

وأمَّا الاستدلال بقاعدة نفي الحرج فلا يتمُّ أيضًا، وذلك لأنَّ المنفي بهذه القاعدة إنَّما هو الحرج الشخصي، وهو يختلف باختلاف الحالات، فثمة مَن تقع في الحرَج بترك وطئها أربعة أشهر، وثمة مَن لا تقع في الحرج بترك وطئها هذه المدَّة بل قد لا تقع بترك وطئها سنةً أو أكثر، وثمة مَن تقعُ في الحرج بترك وطئها شهرًا أو ما دونه، فلو كان البناء هو التمسُّك بقاعدة نفي الحرج وكان ذلك تامًّا لكان مقتضاه عدم التحديد بوقت بل تدور الحرمة مدار اقتضاء الترك للحرج. وهكذا هو الشأن لو كان البناء هو الاستدلال بقاعدة نفي الضرر.

 

ثم إنَّ ما تقتضيه قاعدة نفي الحرج -كما أفاد السيد الخوئي([3])- هو نفي الحكم الذي ينشأ عنه الحرج وليس من مقتضياتها إثبات حكم لرفع الحرج، فمفاد قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾([4]) هو أنَّ كلَّ حكم ينشأ عنه الحرج فهو منفيٌّ وغير مجعول على المكلَّف الواقع في الحرج، وليس من مفاد الآية ولا من مقتضياتها جعل حكم يدفع به الحرج، ولهذا لا يلتزم من أحدٍ بوجوب التزوُّج من المرأة حتى لا تقع في الحرج أو دفعًا للحرج الذي وقعت فيه، ولو كان من مقتضيات قاعدة نفي الحرج الإثبات للحكم الرافع للحرج لتعيَّن الالتزام بوجوب التزوج من النساء الواقعات في الحرج من عدم وجدانهن للأزواج، ولا يلتزم بذلك من أحد.

 

كذلك المقام فإنَّ قاعدة نفي الحرج لا تُثبت وجوب المعاشرة على الزوج دفعًا لحرج الزوجة الناشئ عن حاجتها الملحة للمعاشرة الزوجية، فإنَّ قاعدة نفي الحرج لا تقتضي جعل الحكم الرافع والدافع للحرج وإنَّما يتمحَّض مفادها في نفي الحكم الذي ينشأ عنه الحرج أي أنَّ مفادها هو أنَّ الحكم الذي ينشأ عنه الحرج ليس مجعولًا، فقاعدة نفي الحرج لا تصلح لإثبات حرمة ترك الوطء حتى عن الشابَّة.

 

الاستدلال على الإطلاق بمدَّة الإيلاء وجوابه:

هذا وقد استدلَّ بعضُهم على حرمة ترك وطء الزوجة المسنَّة والمكتهلة بما ثبت من أنَّ مدَّة الإيلاء الذي يتعيَّن على الزوج الرجوع عنه أو الطلاق هي أربعة أشهر، فليس للزوج أنْ يحلف على ترك وطء زوجته ما يزيد على هذه المدَّة، فلو فعل ألزمه الحاكم إمَّا بالرجوع وذلك بوطء زوجته أو الطلاق، ولا فرق في ذلك -كما هو واضح- بين كون الزوجة شابَّة أو مسنَّة وهو ما يدلُّ أنَّ الحكم بحرمة ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر لا يختصُّ بالشابة.

 

وأُجيب عن الاستدلال بذلك أنَّه لا يصحُّ تنظير ما نحن فيه بالحكم في فرض الإيلاء، فإنَّ تحديد المدَّة بالأربعة أشهر في فرض الإيلاء موضوعه الإيلاء والحلف على ترك وطء الزوجة، وفرض المسألة في المقام هو ترك وطء الزوجة ابتداءً هل هو سائغ مطلقًا أو هو محدَّدٌ بوقت، فتعديةُ الحكم الثابت في الفرض الأول للفرض الثاني لا يعدو القياس.

 

والمنبِّه على تباين موضوعي المسألتين هو أنَّه في مسألة الإيلاء تُحتَسب المدَّة من حين رفع المرأة أمرها للحاكم الشرعي، فمِن ذلك الحين يبدأ حساب الأربعة أشهر التي يُخيِّر الحاكم الشرعي بعدها الزوج بين الرجوع والوطء وبين الطلاق، فحتى لو كان الزوج قد ترك وطء زوجته قبل الحلف بمدَّةٍ تزيد على الشهر أو أكثر ثم حلف فرفعت الزوجةُ أمرها إلى الحاكم الشرعي فإنَّ الحاكم لا يحتسب المدَّة التي سبقت الحلف بل يُمهلُه أربعة أشهر من حين الحلف ورفع أمرها إليه، ولو أنَّ الزوجة لم ترفع أمرها إلى الحاكم من حين إيلاء الزوج بل تريَّثت شهورًا أو سنة أو أكثر ثم رفعت أمرها إلى الحاكم الشرعي فإنَّ الحاكم رغم ذلك يُمهلُ الزوج أربعة أشهر من حين رفع الزوجة أمرَها إليه، فالأربعة أشهر هي المدَّة التي يُحدِّدها الحاكم الشرعي بعد رفع الزوجة أمرها إليه، وهذا يقتضي أن يكون مجموع المدَّة التي ترك فيها الزوج وطء زوجته يزيد على الأربعة أشهر بكثير، فليس للحاكم أنْ يُخيِّر الزوج بين الرجوع أو الطلاق لو كانت المدَّة التي سبقت رفع الزوجة أمرها إليه تساوي أو تزيد على الأربعة أشهر بل يبدأ معه حساب الأربعة أشهر من حين رفع المرأة أمرها إليه.

 

وهذا مباينٌ لفرض المسألة التي نحن بصدد البحث عنها، ففرض المسألة هو أنْ ترك وطء الزوجة أربعة أشهر هل هو سائغ أو لا، فمبدأ الحساب هو آخر وطء للزوجة، فمِنه يبدأ حساب الترك إلى أربعة أشهر، وأمَّا مبدأ الحساب في الإيلاء فهو مِن حين رفع الزوجة أمرَها إلى الحاكم الشرعي، فالاختلاف في مبدأ الحساب مُنبِّه بيِّن على أنَّ إحدى المسألتين أجنبيَّةٌ عن الأخرى وتوافقهما في الأربعة أشهر لا يصحِّح استكشاف حكم المسألة الثانية من الحكم في المسألة الأولى.

 

الاستدلال على الإطلاق بمرسلة الكليني وجوابه:

هذا وقد استُدلَّ على حرمة ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر وإن كانت مكتهلة أو مسنَّة بما روي في الكافي عن الإمام الصادق (ع) قال: " مَنْ جَمَعَ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يَنْكِحُ فَزَنَى مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَالإِثْمُ عَلَيْه"([5]).

 

والجواب أنَّ الرواية ضعيفة بالإرسال فلا تصلح لإثبات أو نفي حكمٍ شرعي، هذا مضافًا إلى أنَّ موضوعها مَن جمع من النساء ما لا ينكح يعني أنَّ مفروض الرواية هو فرض التعدُّد، وأمَّا موضوع المسألة التي نحن بصدد البحث عنها فهو ترك وطء الزوجة أربعة أشهر مطلقًا سواء كانت للرجل زوجة أخرى أو لم تكن له سوى زوجةٍ واحدة، فلو كان البناء هو الاستدلال محضًا بهذه الرواية لكان مقتضى ذلك هو تخصيص حرمة ترك وطء الزوجة أربعة أشهر بمَن جمع بين أكثر من زوجة ولا يلتزم بذلك من أحد.

 

والقول بأنَّه يُمكن الاستظهار من الرواية بتنقيح المناط أنَّ موضوع الحرمة فيها هو ترك نكاح الزوجة المفضي للخشية من وقوع الزوجة في الحرام

 

فجوابه أنَّ احتمال ذلك وإنْ كان واردًا لكنَّه لا يرقى لمستوى القطع أو الاطمئنان بوحدة المناط، إذ من المحتمل أنْ يكون الزوج مسئولًا عن وقوع الزوجة في الحرام لأنَّه جمعَ بين أكثر من زوجة رغم عدم قدرته على الوفاء بحقِّهن مجتمعاتٍ في المعاشرة لكنَّه لا يكون مسئولًا ولا يُعدُّ مقصِّرًا لولم تكن له سوى زوجة واحدة فزهدَ أو عجز عن معاشرتها.

 

ثم إنَّ الرواية لم تُحدِّد تأثيم الزوج بترك الوطء أربعة أشهر، فيكون مأثومًا بعده بيوم ولا يكون مأثومًا قبله بيوم كما هي الدعوى، وإنَّما أفادت أنَّ من جمع عنده من النساء ما لا ينكح فأفضى ذلك إلى وقوع إحداهنَّ في الزنا فإنَّه مأثوم، وظاهرُ ذلك عرفًا هو أنَّ من جمع عنده من النساء والحال أنَّه لا يقدر على الوفاء بحقِّهنَّ أو بحقِّ بعضهنَّ في المعاشرة أو يُهمل الوفاء بحقِّ بعضهنَّ في المعاشرة بحيث قد يؤدِّي ذلك إلى وقوع المهملة -ولو في الجملة- في الزنا فإثمُ ذلك يقع عليه أو يكون له نصيب من الإثم، فهذا هو المستظهَر من الرواية وهو أجنبيٌّ عن محلِّ البحث كما هو واضح.

 

الدليل على اختصاص الحرمة بالشابَّة:

وخلاصة القول: إنَّ عمدة ما يصحُّ الاستدلال به على حرمة ترك وطء الزوجة هو صحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنَّه سأله عن الرجل تكونُ عنده المرأة الشابَّة فيُمسكُ عنها الأشهر والسنة لا يقربُها ليس يريدُ الاضرار بها يكون لهم مصيبة، يكونُ في ذلك آثمًا؟ قال: إذا تركها أربعة أشهر كان آثمًا بعد ذلك"([6]).

 

فإنَّ موضوع الحرمة في مفروض الرواية هو الزوجة الشابَّة، وليس لها ظهور في الإطلاق بحيث يُمكن التمسُّك به لإثبات الحرمة لو كانت الزوجة مسنَّة أو مكتهلة، فالمتعيَّن هو اختصاص حرمة ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر بالزوجة الشابَّة وفيما عدا هذا الفرض يكون الأصل الجاري في مورده هو البراءة من الحرمة، نعم ترك وطء الزوجة المستلزِم لتصييرها كالمعلَّقة محرَّمٌ مطلقًا وإنْ لم تكن شابَّة بمقتضى إطلاق النهي في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾([7]).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

17 / ذو القعدة / 1442هـ

28 / يونيو / 2021م


[1]- جواهر الكلام -النجفي- ج29/ ص116.

[2]- وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج20/ ص140.

[3]- مباني شرح العروة الوثقى ج2 المجلد ج32 / ص116.

[4]- سورة الحج / 78.

[5]- الكافي -الكليني- ج5/ ص566.

[6]- وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج20 / ص140.

[7]- سورة النساء / 129.