تبدُّل الأحوال لا يُصحِّح الإمضاء لها

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

في زمننا هذا تبدَّل الحال حيثُ أصبحت المرأة تعمل وتُشارك الرجل، وللأسف اصبح الكثير من النساء لا تُعيل أخواتها وأقاربها لأنَّ الأزواج يستغلون زوجاتهم ماديًا وجسديًا، فهل ما زال تطبيق قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾([1]) واجبًا أو نستطيع تعطيل هذا النص كما تمَّ تعطيل بعض النصوص كقوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾([2])؟

 

الجواب:

ليس على الزوجة أنْ تُشارك في النفقة على نفسها فضلًا عن النفقة على زوجها، فالزوجُ هو المكلَّف شرعًا بالنفقة عليها سواءً كانت الزوجة فقيرةً أو كانت مُقتدِرة بل وحتى لو كانت من أهل الثراء وكان زوجُها فقيرًا فإنَّه مكلَّفٌ شرعًا بتأمين نفقة زوجتِه ولو بواسطة القرض أو القبول للصدقة.

 

وليس للزوج أنْ يُكلَّف زوجته المساهمة في نفقاتِ البيت، فليس له أن يبتزَّها أو يُلجئها إلى ذلك، ولو فعل فهو موزورٌ مأثوم، ولها أنْ تمتنع ولو بواسطة القضاء، وأمَّا لو اختارت المشاركة في نفقات البيت بمحضِ إرادتها فهو إحسانٌ منها، فلها أنْ تفعلَه أحيانًا وتمتنع عنه أحيانا أخرى ولها أنْ لا تفعله أساسًا.

 

فمِن الغريب الربط بين ما يقع بين بعض الأزواج وزوجاتهم وبين الحكم الذي فرضَه اللهُ تعالى بقوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فإنَّ الآية بصدد بيان ما يستحقُّه الأبناء من ميراث أبيهم أو أمِّهم وما يستحقُّه الإخوة والأخوات من ميراث أخيهم لو مات ولم يكن له أبناء وأبوان، فالزوجةُ لا تستحقُّ شيئًا من الميراث الذي يُخلِّفه والد الزوج أو والدته كما أنَّ الزوج لا يستحقُّ شيئًا من ميراث والد الزوجة أو أمِّها، وكذلك لو مات أخو الزوج أو أخته فإنَّ الزوجة لا شأن لها بميراثه منهما، وكذلك لا شأن للزوج بميراث أخت الزوجة أو أخيها.

 

وأمَّا لماذا فرض اللهُ تعالى للذكر ضِعفَ ما فرضه للأنثى من ميراث الأبوين والإخوة فلأنَّه تعالى فرضَ على الذكر من النفقات ما لم يفرضْه على الأنثى، فالأنثى حين تكون بنتًا يُنفقُ عليها أبوها إلى أنْ تتزوَّج، ولو مات عنها أبوها أنفقَ عليها جدُّها، وحين تُصبح زوجةً يُنفقُ عليها زوجُها، وهو المكلَّف بالمهر وتأمين المسكن والعلاج والتنظيف وما إلى ذلك، وهو مكلَّفٌ بالنفقة على أبنائه وإرضاعهم وشؤون حضانتهم ونفقات تعليمهم وما أشبه ذلك، والمرأة في عافيةٍ من كلِّ ذلك، ولو جنت المرأةُ خطًا فقتلتْ أو جرحتْ أو أعطبتْ أو بترتْ فإنَّ عليها الدِّية لكنَّها لا تتحمَّل شيئًا منها بل يجبُ على عصَبتها وهم أقاربُها الذكور التحمُّل لكامل نفقات الدِّية المقابلة لجنايتها، ولا يجب عليها أنْ تتحمَّل شيئًا من نفقات الدِّيات المقابلة لجنايات الذكور أو الإناث من أقاربها، ولو جُنيَ عليها كانت الديةُ لها خاصة دون سواها، فجناياتُها مكفولة وفي ذات الوقت هي غير معنية بجنايات أقاربها الذكور والإناث، فلأنَّ الشريعة فرضتْ على الذكور من النفقات ما لم تفرضْه على الإناث لذلك فرضتْ للذكور من الميراث ضِعفَ ما فرضتْه للإناث، يمكن مراجعة الوصلة التّالية: تفوُّق الرجل على المرأة في الميراث

 

وأمَّا القول إنَّ الأحوال قد تبدَّلت فجوابُه أنَّ الشريعة لا تُريد للأحوال أنْ تكون على النحو الذي وصفتم، فهي لا تُريد للرجل أنْ يتخلَّى عن مسئولياته، ولا يُريد تحميل المرأة مسئولياتٍ ليست عليها، فالشرعُ يعتبِر أنَّ تحميل المرأة مسئوليات النفقة في بيت زوجها خطأ وله تبعاتٌ اجتماعيَّة وتربويَّة ضارَّة وخطِرة فكيف يُشرعن واقعًا هو حريصٌ على عدم وقوعِه وعلى تبديله لو وقع؟!

 

إنَّ ذلك أشبهُ شيءٍ بما لو استجدَّت ظاهرةٌ في بلدٍ من البلدان بأنْ جرت -مثلًا- عادةُ هذا البلد على تجنيد الأطفال في الحروب وتكليفهم بالتكسُّب، فهنا هل يصحُّ المطالبة بوضع قانون ينظِّم طريقة صرف الرواتب للأطفال وينظِّم ساعاتِ العمل والإجازات وما إلى ذلك من القوانين المبتنية على إمضاء هذه الظاهرة الخاطئة وتشريعها أو أنَّ الصحيح هو العمل على إلغاء هذه الظاهرة نظرًا لخطورتها وأثرها السيء على الأطفال وعلى عموم البنية الاجتماعية والتربويَّة للمجتمع.

 

والمقامُ من هذا القبيل فإنَّ الشارع يعتبرُ تحميل الزوجة تبعاتِ النفقة خطًأً جسيمًا له انعكاسات سيئة على الوظيفة التي أناطها بالزوجة في الأُسرة لذلك لا يكون من الصحيح الإمضاء لهذه الحالة الاجتماعية الدخيلة والمنافية لأغراض الشريعة.

 

فحينما تُكلَّف الزوجة بالنفقة على نفسِها وعلى الأسرة فإنَّ ذلك يستلزمُ انخراطها في سوق العمل وخوضها لغماره لتحصيل المال وهو ما سوف يُساهِمُ في التأثير على ثقافتها ونفسيتها وتربيتها وطبيعة علاقاتها بالمجتمع، وكذلك فإنَّ اشتغالها بتحصيل المال سوف تكون له انعكاسات على طبيعة علاقتها بأبنائها وقدرتها على رعايتهم وصيانتهم وتربيتهم، وكذلك فإنَّ تحميلها لمسئولياتِ النفقة سوف تكون له انعكاسات على طبيعة علاقتها بزوجها، وللمنصِف أنْ يُلاحظ ما آلت إليه علاقات الأزواج بزوجاتهم في المجتمعات الغربيَّة وعلاقات الأمهات بأبنائهن، وطبيعة التربية التي يتلقَّاها الأبناءُ والبنات والاستقرار النفسي والروحي الذي يكون عليه الأبناء والبنات والاستقرار الأسري للأزواج والزوجات، ولولا خشية الخروج عن موضوع الحديث لأفضنا الكلام في ذلك إلا أنَّ الغرض هو التنبيه والإشارة إلى أنَّ هذا الواقع الخارجي المستجَد ليس مرضيًا لدى الشارع المقدَّس، ولهذا لا يصحُّ الإمضاء له والبناء عليه ووضع الأحكام وفقًا لما يتطلبُه، فالشريعة لا تضع أحكامها التأسيسية انسياقًا مع الأمر الواقع فتكون كالذي وَجدَ نفسه في ظرفٍ فخضعَ له -وإنْ لم يكن مرضيًا عنده- وعمِل على التعايش معه، إنَّ الشرائع الإلهيَّة لا تكون كذلك، فهي إنَّما تأتي لخلْقِ واقعٍ تعتبرُه الأصلح للإنسان وكماله وعلاقته بربِّه ومجتمعه، لذلك فهي تضع تشريعات لتكوين هذا الواقع المناسب لأغراضها وملاكتها وتشريعاتٍ لتأصيله وحمايته والذود عنه لا أنَّها تضعُ تشريعاتٍ تتماهى مع واقعٍ هي ترفضُه وجاءت أساسًا لتغييره، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾([3]) وقال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾([4]) وقال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾([5]) فشريعة الله تعالى لم تأتِ للبناء على واقعٍ صنعَه الإنسانُ القاصرُ في مداركه والمتعثِّرُ بشهواته ونزواته بل جاءت لإحياء الإنسان وتكميله وتنظيم علاقته بربِّه ومجتمعه وفق الغاية من خلْقِه قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾([6]) وقال تعالى:﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾([7]) فاللهُ جلَّ وعلا هو خالقُ الإنسان فهو تعالى وحده الذي يعلم بما يُصلحه وما يُناسب مقتضى خلقه وتكوينه وهو الأعلم بالتشريعات التي تقوده نحو كماله والغاية من خلقه.

 

فلو عرفَ الإنسانُ نفسَه وأقرَّ بقصوره وآمنَ بربِّه وحكمته المطلقة -وأنَّه لا يُريد لعباده إلا ما يُصلحهم فهو الغنيُّ عنهم- لوجدَ نفسه ساكنةً مطمئنةً لأوامر الله تعالى ونواهيه وتشريعاته وإنْ لم يُدرك أبعادها والحكمة من تشريعها ذلك لأنَّها صادرة عن ربٍّ حكيمٍ رؤوف غنيٍّ عن عباده لا يُحابي ولا يُفاضل وأكرمُ عباده عنده أتقاهم له.

 

وأمَّا تعطيل حدِّ السارق فالإنسان هو من عطَّل هذا الحد لطغيانه وتوهُّمه أنَّه أعرف بما يُصلح العباد من ربِّه وإلا فليس لأحدٍ أنْ يعطِّل حدًّا من حدود الله تعالى والتي أراد الله تعالى بها حماية الإنسان من جور الإنسان قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾([8]) وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ .. فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾([9]).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

12 / ذو الحجّة / 1442هـ

22 / يوليو / 2021م


[1]- سورة النساء / 11.

[2]- سورة المائدة / 38.

[3]- سورة الإسراء / 9.

[4]- سورة الزمر / 23.

[5]- سورة النساء / 174.

[6]- سورة الأنفال / 24.

[7]- سورة الحديد / 25.

[8]- سورة الطلاق / 1.

[9]- سورة النساء / 64-65.