اعتبار الاستقلال في قيام الصلاة؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل يصحُّ للمصلِّي أثناء القيام للقراءة أنْ يستند إلى جدارٍ أو يتكأ على عصا رغم قدرتِه على الاستقلال في قيامه وعدم الاعتماد على شيء؟

 

الجواب:

المشهور بين الفقهاء شهرةً كادت تكون إجماعاً -كما أفاد صاحب الجواهر(1)- هو اعتبار الاستقلال للمختار أثناء القيام بمعنى عدم الاعتماد على شيءٍ بحيث لو اتَّفق سقوطه لسقط هو تبعاً له، ولم يُنسب الخلاف بين المتقدمين إلا إلى أبي الصلاح(2). 

 

الوجوه التي استدلَّ بها المشهور على اعتبار الاستقلال:

واستُدلَّ لما عليه المشهور من اعتبار الاستقلال مضافاً إلى دعوى الاجماع المحكية عن المختلف للعلامة الحلِّي(3) بعددٍ من الوجوه:

 

منها: أنَّ ذلك هو مقتضى التأسِّي بالنبيِّ الكريم (ص)، ومنها: دعوى أنَّ الاستقلال دخيلٌ في مفهوم القيام، فلا يصدق دونه أو لا أقلَّ من أنَّ ذلك هو المتبادر من معنى القيام(4)، ومنها: أنَّ ذلك هو المتبادر من الأمر بالقيام، وأنَّ المطلوب هو قيام المصلِّي بنفسه كما نُسب ذلك للمحقِّق الثاني(5)، ومنها: أنَّ اعتبار الاستقلال هو ما يقتضيه الأصل(6)، ومنها: ما يظهرُ من بعض الروايات، وهي عمدةُ ما يستندُ إليه المشهور ظاهراً(7).

 

دعوى الإجماع وجوابها:

وكيف كان فالظاهر هو عدم تماميَّة شيءٍ من الوجوه المذكورة:

أمَّا دعوى الإجماع فبناءً على حجيَّة الإجماع فإنَّه لا يكون في المقام كذلك لعدم كونه من الإجماعات التعبديَّة، لاحتمال أنَّ مدرك المُجمعين أو بعضهم هو مجموع الوجوه المذكورة أو بعضها، فهو إذن من الإجماعات المحتمِلة للمدركيَّة إنْ لم تكن محرَزة المدركيَّة.

 

تقريبُ الاستدلال بالتأسِّي وجوابه:

وأمَّا الاستدلال بالتأسِّي فتقريبُه أنَّ المحرز ثبوته هو أنَّ قيام النبيَّ الكريم (ص) للصلاة كان على نحو الاستقلال، فلم يكن يستند أثناءه إلى جدارٍ أو يتكأ على عصا، ولهذا يتعيَّن التأسِّي بفعله استناداً إلى مثل قوله (ص) "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي"(8).

 

والجواب: إنَّ صلاة النبيِّ الكريم (ص) مشتملة -دون ريب- على واجباتٍ وسننٍ وآداب، ولهذا لا يصحُّ التمسُّك بما يفعله النبيِّ (ص) ويقوله في صلاته للاستدلال به على الوجوب، وذلك لاحتمال أنَّ هذا الفعل أو القول المحرَز صدوره عنه في الصلاة كان من قسم السُنن التي يلتزمُ بها.

 

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ احراز اشتمال صلاة النبيِّ (ص) على سننٍ وآدابٍ مضافاً إلى الواجبات يمنع من إمكان الاستدلال بما يفعله ويقوله في الصلاة على الوجوب، وذلك لأنَّه كما يُحتمل أنَّ ما أتى به يكون من واجبات الصلاة فإنَّه يُحتمل أنْ يكون من سُننها، فهي إذن مجملة من هذه الجهة، نعم يمكن الاستدلال بما يفعله ويقوله في الصلاة على المشروعية وأما الاستدلال به على الوجوب فممتنع نظراً لإجمال الفعل القابل للاتصاف بكلٍّ من الوجوب والاستحباب.

 

وأمَّا الحديث المذكور فبقطع النظر عن سنده وأنَّه واردٌ من غير طرقنا فإنَّه لا يدلُّ على أكثر من محبوبيَّة الالتزام بتمام الأفعال والأقوال والكيفيَّة التي عليها صلاة النبيِّ (ص) إذ لا ريب في عدم لزوم التقيُّد بالآداب والمستحبَّات التي يأتي بها النبيُّ (ص) في صلاته، وحيث إنَّنا نجهل بحسب الفرض بما هو الواجب من أفعاله في الصلاة وما هو المستحب منها لذلك لا يمكن الاستدلال بفعله على الوجوب نظراً للإجمال.

 

ومن ذلك يتَّضح الجواب عن الاستدلال بصحيحة حمَّاد والتي تصدَّى فيها الإمام أبو عبد الله الصادق(ع) لتعليم حماد كيفيَّة الصلاة ثم قال له: "يا حماد هكذا صلِّ"(9) فإنَّ الواضح من مساق الرواية أنَّ الإمام (ع) كان بصدد تعليم حمَّاد ما هو الأعم من الواجبات والسنن، ولهذا لا يصحُّ الاستدلال بفعل أو قول تضمنته الرواية على الوجوب نظراً للإجمال الناشئ عن العلم بأنَّ الإمام (ع) كان بصدد التعليم لما هو الأعم من الواجبات والمستحبات.

 

دعوى أنَّ الاستقلال دخل في مفهوم القيام وجوابه:

وأمَّا الاستدلال على اعتبار الاستقلال أثناء القيام بدعوى أنَّ الاستقلال دخيل في مفهوم القيام وأنَّ القيام لا يصدق دون استقلال فجوابه أنَّ مفهوم القيام لغة وعرفاً لا يتقوَّم بالاستقلال، إذ لا ريب في صدق وصف القائم على المستند إلى جدار أو المتكأ على عصا، فالقيام هيئة خاصَّة تقابل سائر الهيئات التي يكون عليها الانسان من قعود وسجود واضجاع وغيرها وليس للاستقلال دخل في تحقق هيئة القيام عرفاً كما أنَّه اللغة لم تأخذ في صدق القيام الاستقلال وعدم الاعتماد.

 

ومن ذلك يتضح أنَّ دعوى التبادر جزافيَّة ولو صحَّت فهي ناشئة عن الغلبة الخارجية لذلك فهو تبادر بدوي يزول بأدنى تأمُّل.

 

وأمَّا دعوى أنَّ المتبادر من الأمر بالقيام هو أنَّ المطلوب هو قيام المصلِّي بنفسه دون اعتماد فكذلك هي دعوى لا مستند لها سوى الأنس البدوي الناشئ عن الغلبة الخارجية وإلا فلا ريب في أنَّ تحقق الامتثال للأمر بالقيام يحصل بالقيام المعتمد على مثل العصا أو القوس، ولذلك وصف الله تعالى نبيَّه (ص) بالقائم أثناء خطبة الجمعة رغم أنَّه كان يتكأ على عصا أو قوسٍ أو سيف فقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾(10).

 

تقريب الاستدلال بالأصل وجوابه:

وأمَّا التمسُّك بالأصل لإثبات اعتبار الاستقلال أثناء القيام فمبتنٍ على أنَّ الأصل الجاري في مثل المقام هو الاشتغال بتقريب أنَّ المورد من موارد الشك في المكلَّف به بمعنى أنَّ المكلَّف يعلم باشتغال ذمته بالصلاة ويشك في فراغها لو لم يأتِ بالقيام عن استقلال، ولأنَّ الشغل اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني لذلك يتعيَّن الالتزام بالإتيان بالقيام مستقلاً ليحرِز المكلف بذلك الخروجَ عن عهدة التكليف المعلوم اشتغال ذمَّته به.

 

والجواب عن ذلك هو أنَّ المورد من موارد الشك بين الأقل والأكثر الإرتباطيين وذلك لأنَّ المكلف يشكُّ في أنَّه مكلَّفٌ بالقيام ضمن التكليف بمركب الصلاة أو أنَّه مكلَّف مضافاً إلى ذلك بالإتيان به عن استقلال، ومآل هذا الشكِّ هو الشكُّ في التكليف الزائد على أصل القيام، والشكُّ في التكليف الزائد مجرى لأصالة البراءة وليس الاشتغال، على أنَّه لا تصل النوبة للتمسُّك بالأصل إلا بعد الفراغ عن عدم قيام دليلٍ اجتهادي يقتضي نفي الاعتبار للاستقلال أثناء القيام أي أنَّه لا تصل النوبة للتمسُّك بالأصل إلا بعد الفراغ عن عدم دلالة الروايات على الإطلاق -مثلاً- المقتضي لنفي اعتبار الاستقلال أثناء القيام، وهذا ما لم يتم الفراغ عنه بعدُ.

 

تقريب الاستدلال بالروايات:

بقي الكلام فيما أدُّعي من ظهور بعض الروايات في اشتراط الاستقلال أثناء القيام الواجب في الصلاة، وعمدة هذه الروايات روايتان:

 

الأولى: صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "لا تُمسك" تستند "بخَمَرك وأنت تُصلي، ولا تستند إلى جدارٍ إلا أنْ تكون مريضا"(11).

 

والخَمَر هو ما وراك وسترك من شجرٍ أو جبل وغيره، ودلالة الرواية على المطلوب ظاهرة، إذ أنَّ النهي عن الاستناد إلى مثل الجدار أو الشجر ظاهرٌ في الارشاد إلى المانعيَّة، ومآل ذلك هو اشتراط عدم الاستناد أثناء القيام.

 

الثانية: موثقة عبد الله بن بكير قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة قاعداً أو متوكئاً على عصا أو حائط؟ فقال: لا، ما شأنُ أبيك، وشأن هذا؟! ما بلغ أبوك هذا بعدُ"(12).

 

ودلالة هذه الرواية ظاهرةٌ أيضاً في المطلوب، إذ أنَّ النفي بقوله (ع): "لا" ظاهرٌ في الإنشاء والنهي عن التوكُّأ على العصا أو الحائط، فيكون مقتضى ذلك هو الارشاد إلى المانعيَّة.

 

مناقشة الاستدلال بالروايات:

وعليه فما أفاده المشهور من اعتبار الاستقلال أثناء القيام في الصلاة يكون تامَّاً لو لم يرد في الروايات ما يظهرُ منه نفي الاعتبار لذلك، إلا أنَّ الأمر لم يكن كذلك فثمة العديد من الروايات المعتبرة ظاهرةٌ في نفي اعتبار الاستقلال أثناء القيام.

 

منها: صحيحة علي بن جعفر أنَّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليه السلام) عن الرجل هل يصلحُ له أنْ يستند إلى حائطِ المسجد وهو يصلي أو يضع يده على الحائط وهو قائم من غير مرضٍ ولا علَّة؟ فقال (ع): لا بأس.

 

وعن الرجل يكون في صلاة فريضة فيقوم في الركعتين الأولتين هل يصلح له أنْ يتناول جانب المسجد فينهض يستعين به على القيام من غير ضعفٍ ولا علَّة؟ فقال: لا بأس به"(13).

 

فصدر الرواية ظاهرٌ في نفي البأس عن الاستناد إلى الحائط أثناء القيام في الصلاة حتى لغير المريض ولغير عذر.

 

ومنها: موثقة عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألتُه عن الرجل يُصلِّي متوكئاً على عصا أو على حائط قال: لا بأس بالتوكأ على عصا والاتكاء على الحائط"(14).

 

وتقريب الاستدلال بالرواية هو أنَّ مقتضى الإطلاق هو نفي البأس عن الاستناد حتى لغير المريض والمعذور.

 

وعليه فمقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين من الروايات هو حمل الطائفة الأولى الناهية عن الاستناد على الكراهة، وذلك لصراحة الطائفة الثانية في جواز الاستناد وعدم اعتبار الاستقلال.

 

مناقشة جمع المشهور بين الطائفتين:

هذا وقد أفاد السيد الخوئي (رحمه الله)(15) أنَّ المشهور جمعوا بين الطائفتين بحمل الطائفة الأولى على أنَّ المراد من الاستناد والاتكاء فيها هو الاعتماد بنحوٍ لو زال الاستناد لأدَّى ذلك إلى السقوط، فهذا هو الاستناد والاتكاء المعتبر عدمه أثناء القيام.

 

وأمَّا الاتكاء والاستناد الذي نفت الطائفة الثانية عنه البأس فالمراد منه الاتكاء والاستناد المجرَّد عن الاعتماد، وبذلك لا تكون الطائفة الثانية نافية لاعتبار الاستقلال.

 

ألا أنَّ هذا الجمع بين الطائفتين لا يعدو الجمع التبرُّعي -كما أفاد السيد الخوئي- إذ أنَّ موضوع كلا الطائفتين هو الاتكاء والاستناد، فدعوى أنَّ المعنى المراد منهما في الطائفة الأولى غير المعنى المراد منهما في الطائفة الثانية بلا شاهد. على أنَّ المستظهَر لغةً وعرفاً من لفظ الاتكاء التوكأ هو الاعتماد فحمل الطائفة الثانية على المجرَّد منه مخالف لما يقتضيه مدلول الاتكاء لغة (16) وعرفاً فيكون مفتقراً إلى القرينة المفقودة.

 

معالجتان أخريان للتنافي وجوابهما:

وثمة معالجتان أخريان للتنافي بين الطائفين من الروايات:

المعالجة الأولى: هي حمل الطائفة الثانية النافية للبأس عن الاتكاء على التقية، إذ أنَّ ذلك هو الموافق لمذهب العامَّة كما حكى ذلك صاحب الجواهر (رحمه الله)عن فخر المحقِّقين (رحمه الله)(17).

 

وأجاب السيد الخوئي (رحمه الله)(18) عن ذلك بأنَّ حمل الطائفة الثانية على التقية إنَّما يصح في فرض استقرار التعارض بين الطائفتين، ففي مثل هذا الفرض يكون المرجع هو مرجِّحات باب التعارض والتي منها ترجيح المخالف من الطائفتين لمذهب العامة، وأمَّا في فرض إمكان الجمع العرفي بحمل الطائفة الناهية عن الاتكاء على الكراهة كما في المقام فإنَّه لا تصل النوبة للرجوع إلى مرجِّحات باب التعارض كما هو واضح.

 

المعالجة الثانية: هي دعوى سقوط الطائفة الثانية -النافية للبأس عن الاتكاء- عن الحجيَّة وذلك لإعراض المشهور عن العمل بمؤدَّاها.

 

وأجاب السيد الخوئي (رحمه الله)(19) عن ذلك بأنَّه حتى بناءً على أنَّ الإعراض مسقِط لحجيَّة الرواية المعتبرة سنداً فإنَّه لا يصحُّ في المقام البناء على سقوط الطائفة الثانية، وذلك لعدم احراز إعراض المشهور عنها بل المستظهَر من كلماتهم عدم الإعراض بقرينة تصدِّيهم لمعالجة التعارض بمثل حمل الطائفة الثانية على الاتكاء المجرَّد عن الاعتماد أو بجعل عمل المشهور مرجِّحاً، ومعنى ذلك هو حجيَّة الطائفة الثانية بنظهرهم لولا التعارض.

 

وبما ذكرناه يتبيَّن عدم نهوض شيءٍ من الوجوه المذكورة لإثبات اعتبار الاستقلال في قيام الصلاة وأنَّ المتعيَّن هو عدم الاعتبار كما ذهب لذلك صاحب الحدائق (20) والمحقق النراقي(21) والسيد الخوئي (22) وغيرهم وإنْ كان الأحوط هو الالتزام بما أفاده المشهور.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

13 / اكتوبر / 2021م

6 / ربيع الأول / 1443ه

 

1- جواهر الكلام -النجفي- ج9 / ص246.

2- جواهر الكلام -النجفي- ج9 / ص246.

3- مستند الشيعة -المحقق النراقي- ج5 / ص40، جواهر الكلام -النجفي- ج9 / ص247.

4- لاحظ: الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج8 / ص61.

5- مستند الشيعة -المحقق النراقي- ج5 / ص40.

6- مستند الشيعة -المحقق النراقي- ج5 / ص40.

7- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج3 / ص176، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج5 / ص487، 500.

8- السنن الكبرى -البيهقي- ج2 / ص345.

9- الكافي -الكليني- ج3 / ص312.

10- سورة الجمعة / 11.

11- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج3 / ص176، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج5 / ص500.

12- وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج5 / ص487.

13- وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج5 / ص499.

14- وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج5 / ص501.

15- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج 14 / ص187.

16- لاحظ: لسان العرب- ابن منظور- ج1 / ص200، القاموس المحيط -الفيروز آبادي- ج1 / ص33، المصباح المنير -الفيومي- ج2 / ص671.

17- جواهر الكلام -النجفي- ج9 / ص248.

18- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج14 / ص188.

19- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج14 / ص188.

20- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج8 / ص62.

21- مستند الشيعة -المحقق النراقي- ج5 / ص44.

22- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج14 / ص188.