التلقيحُ بنطفة الرجل الأجنبي 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو الوجه فيما أفتى به بعض الفقهاء من جواز تلقيح المرأة المتزوِّجة بنطفة رجلٍ أجنبي إذا لم يستلزم التلقيح اللَّمس والنظر؟ وهل الحكم بالجواز اجماعي؟

الجواب:

تحرير المسألة:

المسألة خلافية بين الفقهاء، ومفروض المسألة هو أنْ يتمَّ وضع نطفة رجلٍ أجنبي في رحم امرأةٍ أجنبيَّة بواسطة التزريق أو الحقنة مع رعاية عدم اللَّمس والنظر لعورة المرأة حتى مِن قِبَل امرأةٍ أخرى، فلو كان الحقْن أو التزريق يستلزم النظر أو اللمس للعورة فلا يجوز أنْ يتمَّ ذلك إلا بواسطة الزوج أو بواسطة المرأة نفسها.

ويشمل مفروض المسألة تلقيح نطفة رجلٍ أجنبي ببويضة امرأةٍ أجنبيَّة خارج الرحم في أنبوبٍ مثلاً أو رحمٍ اصطناعي وبعد العلوق يتمُّ زرع النطفة الملقَّحة في رحم المرأة، وهنا أيضاً يتعيَّن عدم زرعها بواسطة غير الزوج أو المرأة نفسها إذا كان زرع النطفة الملقَّحة يستلزم النظر أو اللمس. وعلى أيِّ تقدير فإنَّ الولد المتخلِّق من تلك النطفة يكون ملحقاً بصاحب النطفة.

وجهُ البناء على الجواز:

والوجهُ في البناء على جواز تلقيح المرأة الأجنبيَّة بنطفة الرجل الأجنبي عند مَن يبني على الجواز هو أنَّ الذي يحرم على الرجل والمرأة هو الزنا والذي هو متقوُّمٌ بالمعاشرة، ومفروض المسألة أنَّ التلقيح إنَّما يتم بواسطة التزريق أو الحقن، ولا يصدق الزنا بذلك كما هو واضح، وكذلك فإنَّ الذي يحرم على الرجل والمرأة هو النظر واللَّمس، ومفروضُ المسألة هو أنَّ التزريق أو الحقْن إنَّما يكون جائزاً لو تمَّ بواسطة المرأة نفسها أو بواسطة زوجها.

فقوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾(1) لا يقتضي أكثر من لزوم حفظ الفرج من الزنا والسحاق، وحفظه مِن أنْ يكون في معرَض اللَّمس والنظر مِن قبل الأجنبيِّ أو الأجنبيَّة، ومفروض المسألة أنَّ التلقيح لن يكون موجباً لوقوع شيءٍ من ذلك.

وهكذا هو مفاد قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ / إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾(2) فبناءً على شمول الخطاب في الآية للنساء فإنَّ التلقيح لن يكون منافياً لحفظ الفرج لأنَّه إنَّما سيتم بواسطة المرأة نفسِها أو بواسطة الزوج، فكما يجوز للمرأة أو الزوج حقن الزوجة بسائلٍ لغرض العلاج مثلاً أو لأيِّ غرضٍ آخر كذلك التلقيح ليس شيئاً أكثر من وضع سائلٍ في جسم زوجته.

فما يُقال من أنَّ متعلَّق الحفظ حيث لم يٌذكر في الآية فذلك يقتضي العموم أي الأمر بعموم الحفظ من كلِّ شيءٍ ومنه التلقيح.

فجوابه أنَّ موضوع الأمر بالحفظ هو غير الزوج والمفروض في المسألة أنَّ التلقيح بالتزريق أو الحقْن سيتم من طريق الزوج أو المرأة نفسها، فالشأن في التلقيح هو ذاته الشأن في تزريق أو حقن الرجل زوجته بدواءٍ فكما أنَّ ذلك ليس منافياً للأمر بالحفظ فكذلك لا يكون التلقيح منافياً للحفظ لو حصل من طريق الزوج أو المرأة نفسها.

وعليه فالأصل الجاري بعد عدم قيام الدليل على المنع هو أصالة الحِلِّ.

الوجه في البناء على الحرمة:

وفي المقابل استدلَّ القائلون بحرمة تلقيح المرأة بنطفة الرجل الأجنبي بالروايات الناهية عن إفراغ الرجل ماءه في رحم امرأةٍ حراماً:

فمِن ذلك: معتبرة عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَقَرَّ نُطْفَتَه فِي رَحِمٍ يَحْرُمُ عَلَيْه"(3).

فمقتضى إطلاق المعتبرة هو حرمة الإقرار للنطفة في رحم المرأة الأجنبية سواءً تمَّ الإقرار للنطفة من طريق المعاشرة أو مِن طريقٍ آخر ومنه التلقيح بواسطة الحقْن أو التزريق.

ومن ذلك: مرسلة الصدوق عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال: قال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله): "لن يعمل ابنُ آدم عملاً أعظم عند الله تبارك وتعالى من رجلٍ قتلٍ نبيَّاً أو إماماً، أو هدمَ الكعبة التي جعلها اللهُ عزَّ وجلَّ قبلةً لعباده أو أفرغ ماءَه في امرأةٍ حراماً"(4).

ومقتضى الاِطلاق في المرسلة هو حرمة إفراغ الرجل ماءه في المرأة سواءً كان ذلك من طريق المعاشرة أو الصبِّ على الموضع دون إيلاج أو وقَعَ ذلك من طريق التلقيح بالتزريق أو الحَقْن.

وأُجيب عن الاستدلال بالروايتين بأنَّ الظاهر من التعبير بأقرَّ نطفته، وأفرغ ماءه هو الكناية عن الزنا، ولذلك يفهم العرف من الروايتين أنَّ مَن زنا بامرأةٍ وأنزل خارج الرحم فإنَّه يكون مشمولاً للوعيد الوارد في الروايتين، وكذلك فإنَّ من زنا بحبلى مستبينة الحمل فأفرغ ماءه وأقرَّه في رحمِها فإنَّه يكون مشمولاً للوعيد الوارد في الروايتين، وهو ما يُنبِّه على أنَّ التعبير بالإقرار والإفراغ مسوقان للكناية عن الزنا، فالروايتان أجنبيتان عن مورد المسألة ولا أقلَّ من عدم ظهورها في الشمول لمفروض المسألة.

وجهٌ آخر للقائلين بالحرمة:

واستدلَّ القائلون بالحرمة بوجهٍ آخر أيضاً حاصلُه: أنَّ المعلوم من مقاصد الشريعة هو التشدُّد في شأن الفروج ومبدأ تكوُّن الولد، فكلُّ ما يُحتمل فيه الحرمة ولم يصلْ فيه من الشرع الحنيف ترخيصٌ صريح يكون المتعيَّن في ذلك المورد هو الاِحتياط، وهذا هو ما يُعبَّر عنه بأصالة الاحتياط في الفروج.

ويُستدلُّ عليه بمثل معتبرة شعيب الحداد قال: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): "هُوَ الْفَرْجُ وأَمْرُ الْفَرْجِ شَدِيدٌ ومِنْه يَكُونُ الْوَلَدُ ونَحْنُ نَحْتَاطُ .."(5).

ورواية العلا بن سيابة عن أبي عبد الله (ع) قال: ".. إنَّ النكاح أحرى وأحرى أنْ يُحتاط فيه وهو فرج، ومنه يكون الولد .."(6).

فمنشأ التشدُّد في الفروج أو أهم مناشئ التشدُّد المقتضي للاحتياط هو أنَّه مبدأ تكوُّن الولد، ولذلك فالمستأنس من عموم التعليل في الروايتين هو الاحتياط فيما به يتكوَّن الولد، وكذلك فإن المستأنس من غيرهما هو تعلُّق غرض الشارع المُلزم بأنْ يتكوَّن الولد من طريق الزواج حصراً.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

13 / رجب المرجَّب / 1443ه

15 / فبراير / 2022م

--------------------------------

[1]- سورة النور / 31.

[2]- سورة المؤمنون / 5-6، سورة المعارج / ص29-30.

[3]- الكافي - الكليني- ج5 / ص541.

[4]- الخصال -الصدوق- باب الثلاثة رقم 109 ص120.

[5]- الكافي -الكليني- ج5 / ص424.

[6]- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج6 / ص214.