الزواجُ مِن آخر هل يهدم الطلقة والطلقتين للأول

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

لو أنَّ رجلاً طلَّق زوجته طلقتين وبعد انقضاء عدَّتِها من الطلقة الثانية تزوَّجها رجلٌ آخر ثم طلَّقها وبعد انقضاء عدَّتها من الثاني رجع إليها الأول بعقدٍ جديد ثم طلَّقها فهل تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره لأنَّه طلَّقها ثلاثاً أو أنَّها لا تحرمُ عليه لأنَّ طلاقه الأول والثاني قد هدمهما الزواجُ من الآخر؟

الجواب:

المشهور بين الفقهاء (رضوان الله عليهم) (1) أنَّ المرأة إنَّما تحرم على زوجِها بعد الطلاق الثالث في فرض توالي الطلقات، وأمَّا لو تزوَّجت من آخر بعد الطلاق الأول أو بعد الطلاق الثاني فإنَّ زواجها من الآخر يهدمُ أثر الطلاق الأول أو الطلقتين الأوليين أي أنَّه لو عاد إليها الزوج الأول بعد طلاق الآخر لها فإنَّها تكون معه على ثلاث طلقات مستأنفات، فلا يُحتسب الطلاق الذي وقع قبل زواجها من الآخر، وهذا هو معنى أنَّ الزواج من الآخر هادمٌ للطلاق.

وفي مقابل ما ذهب إليه المشهور نَسبَ الشيخُ الطوسي (رحمه الله) لعددٍ من المتأخرين لم يُسمِّهم(2) البناء على عدم الهدم وأنَّ المرأة تحرمُ على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره إذا بلغ مجموعُ طلاقه لها ثلاثَ مرَّات سواءً كانت متواليات أو تخلَّل الطلقات الثلاث الزواجُ من آخر.

مستند المشهور القائلين بالهدم:

أمَّا مستند المشهور فيما ذهب إليه من البناء على الهدم فرواياتٌ عديدة:

منها: موثقة رِفَاعَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَه حَتَّى بَانَتْ مِنْه وانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ زَوْجاً آخَرَ فَطَلَّقَهَا أَيْضاً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا زَوْجُهَا الأَوَّلُ أيَهْدِمُ ذَلِكَ الطَّلَاقَ الأَوَّلَ قَالَ نَعَمْ"(3).

ومنها: معتبرة أحمد بن محمد بن عيسى عن البرقي عن القاسم بن محمد الجوهري عن رفاعة بن موسى قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل طلق امرأته تطليقة واحدة فتبين منه، ثم يتزوجها آخر فيطلقها على السنة فتبين منه، ثم يتزوجها الأول على كم هي عنده؟ قال: على غير شيء، ثم قال: يا رفاعة كيف إذا طلَّقها ثلاثاً ثم تزوَّجها ثانية استقبل الطلاق فإذا طلقها واحدةً كانت على اثنتين"(4).

ومنها: موثَّقة إسحاق بن جرير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله بعضُ أصحابنا -وأنا حاضر- عن رجلٍ طلَّق امرأته تطليقةً واحدة ثم تركها حتى بانت منه ثم تزوَّجها الزوجُ الأول، قال: فقال: نكاحٌ جديد، وطلاقٌ جديد، وليس التطليقة الأولى بشيء، هي عنده على ثلاث تطليقات مستأنفات"(5).

ومنها: رواية عبد الله بن عقيل بن أبي طالب قال: اختلف رجلان في قضيةٍ إلى عليٍّ (عليه السلام) وعمر في امرأةٍ طلَّقها زوجُها تطليقةً أو اثنتين فتزوَّجها آخر فطلَّقها أو مات عنها، فلمَّا انقضت عدَّتُها تزوَّجها الأول، فقال عمر: هي على ما بقيَ من الطلاق، وقال أميرُ المؤمنين (عليه السلام): "سبحان الله يهدمُ الثلاث ولا يهدم واحدة؟!"(6).

ومنها: رواية فضالة والقاسم جميعا، عن رفاعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألتُه عن المطلقة تبين ثم تزوَّج زوجاً غيره قال: انهدم الطلاق"(7).

مستند القول بعدم الهدم:

فهذه مجموعة من الروايات الظاهرة فيما ذهب إليه المشهور من البناء على انهدام الطلاق وعدم احتسابه لو تعقَّبه زواجٌ من آخر وأنَّ المرأة تكون مع الزوج الأول على طلقاتٍ ثلاث مستأنَفات إلا أنَّه في مقابل ذلك ثمةَ طائفةٌ أخرى من الروايات ظاهرةٌ في خلاف مفاد هذه الروايات وأنَّه يتعيَّن على الزوج الأول لو رجع لزوجته بعد طلاق الآخر أنْ يحتسب الطلاق السابق فيكون معها على ما بقيَ له من طلقاتٍ واحدة أو اثنتان.

فمِن هذه الروايات: صحيحة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَه تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ غَيْرُه، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ مَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا فَرَاجَعَهَا الأَوَّلُ قَالَ: هِيَ عِنْدَه عَلَى تَطْلِيقَتَيْنِ بَاقِيَتَيْنِ"(8).

ومنها: صحيحة عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ قَالَ كَتَبَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ (ع) رَوَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَه عَلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ فَتَبِينُ مِنْه بِوَاحِدَةٍ فَتَزَوَّجُ زَوْجاً غَيْرَه فَيَمُوتُ عَنْهَا أَوْ يُطَلِّقُهَا فَتَرْجِعُ إِلَى زَوْجِهَا الأَوَّلِ أَنَّهَا تَكُونُ عِنْدَه عَلَى تَطْلِيقَتَيْنِ ووَاحِدَةٌ قَدْ مَضَتْ، فَوَقَّعَ (ع) بِخَطِّه: صَدَقُوا، ورَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تَكُونُ عِنْدَه عَلَى ثَلَاثٍ مُسْتَقْبِلَاتٍ، وأَنَّ تِلْكَ الَّتِي طَلَّقَهَا لَيْسَتْ بِشَيْءٍ لأَنَّهَا قَدْ تَزَوَّجَتْ زَوْجاً غَيْرَه فَوَقَّعَ (ع) بِخَطِّه: لَا"(9).

ومنها: منصور عن أبي عبد الله (عليه السلام) في امرأةٍ طلَّقها زوجُها واحدة أو اثنتين ثم تركها حتى تمضي عدَّتُها فتزوَّجها غيرُه فيموتُ أو يُطلِّقُها فتزوَّجها الأول قال: قال: هي عنده على ما بقيَ من الطلاق"(10).

وثمة رواياتٌ أخرى بذات المضمون، هذا وقد جمع الشيخ أبو جعفر الطوسي (رحمه الله) بين الطائفتين بحمل الطائفة الثانية على عدم توفُّر شرائط التحليل والهدم (11) كطلاق الزوج الثاني لها قبل الدخول بها أو أنَّه لم يكن بالغاً أو كان زواجُه منها زواجاً منقطعاً، فحيث إنَّ الزواج من الآخر لا يوجب التحليل للأول في مثل هذه الفروض فكذلك هو لا يوجب الهدم، إلا أنَّ هذا الجمع مخالفٌ لمقتضى الظاهر من روايات الطائفة الثانية، فالصحيح أنَّ التعارض بين الطائفتين مستحكِم فلابدَّ من معالجته بمرجِّحات باب التعارض أو بغيرها.

استدلال صاحب الحدائق لإثبات ترجيح روايات عدم الهدم: 

وقد أفاد صاحبُ الحدائق (رحمه الله) أنَّ مرجِّحات باب التعارض مقتضية لترجيح الطائفة الثانية، وذكر أنَّ الوجه في ذلك هو أنَّ عدداً من المرجِّحات المنصوصة هي في جانب البناء على عدم الهدم (12):

منها: الترجيح بموافقة الكتاب المجيد، فإنَّ مقتضى إطلاق الآية: وهي قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ .. فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ هو أنََّّه لا تحلُّ لزوجها بعد الطلاق الثالث سواءً كانت الطلقات متوالية أو تخلَّلها بعد الطلاق الأول أو الثاني الزواجُ مِن آخر، ومقتضى ذلك أنَّ الزواج من آخر لا يُؤثِّر في احتساب مجموع الطلقات، وهذا هو معنى عدم الهدم الذي هو مفاد الطائفة الثانية.

ومنها: الترجيح بالشهرة، ومقصوده من الشهرة هي الشهرة الروائية وليس الشهرة العملية وأفاد أنَّ مقتضى التحقيق هو أنَّ مفاد مثل مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة التي اشتملت على قوله: خذ بما اشتهر بين أصحابك هو الأمر بترجيح ما اشتهرت روايته بين الأصحاب، ثم قرَّب أشهرية روايات الطائفة الثانية بقوله: فإن روايات عدم الهدم قد رواها كثير من فقهاء أصحابهم (عليهم السلام) كزرارة وعلي بن مهزيار ومنصور بن حازم، وجميل بن دراج، وعبد الله بن علي بن أبي شعبة وأخيه محمد، فتكون روايات عدم الهدم بذلك أشهر رواية وأعدل وأفقه وأورع رواةً، والمراد بالشهرة التي هي أحد طرق الترجيح إنما هي الشهرة في الرواية لا العمل كما حقق في محله، وكذا المجمع عليه"(13).

ومنها: الترجيح بالاحتياط فإنَّه لا ريب في أنَّ البناء على عدم الهدم -والحكم بحرمة رجوع الزوج الأول بعد الطلاق الثالث الذي تخلَّله الزواج من آخر- هو الأوفق بالاحتياط الذي أمرت به الروايات في فرض التعارض.

ومنها: الترجيح بالمتأخِّر زماناً من الروايات حيث أنَّ الحكم بعدم الهدم قد نصَّت عليه صحيحة عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ عن أبي الحسن الهادي (ع) وهو متأخِّرٌ زماناً عن روايات الهدم الواردة عن أبي عبد الله الصادق (ع).

ثم أفاد صاحب الحدائق (رحمه الله) أنَّه لم يبقَ من المرجِّحات سوى الترجيح بالتقية والذي يقتضي بحسب ما أفاده الشيخ الطوسي ترجيح روايات الهدم، إذ أنَّ عدم الهدم موافقٌ لمذهب عمر كما هو مقتضى رواية عبد الله بن عقيل إلا أنَّ ذلك لم يثبت، إذ أنَّ رواية عبد الله بن عقيل ليست نقية من حيث السند على أنَّها غير مسندة للإمام (ع) وإنَّما هو من إخبار عبد الله بن عقيل، وقوله ليس بحجَّة شرعية على أنَّ خبره معارَض بخبر زرارة الدال على أنَّ قول الإمام عليٍّ (ع) هو عدم الهدم، وعليه فلم يثبت ما أخبر به عبد الله بن عقيل من أنَّ مذهب عمر هو عدم الهدم ليصح حمل روايات عدم الهدم على التقية، هذا أولاً وثانياً فإنَّ الشيخ الطوسي في الخلاف نقل أنَّ فقهاء العامَّة مختلفون في المسألة والقول بالهدم منقولٌ عن أبي حنيفة وأبي يوسف وابن عمر، فحمل أخبار عدم الهدم على التقية ليس بأولى من حمل أخبار الهدم على التقية خصوصا أنَّ مذهب أبي حنيفة هو المذهب السائد في عصر الإمام الصادق (ع) والذي عنه وردت روايات الهدم، ولهذا لا يبعد حمل رواية رفاعة المقتضية للهدم على التقية فتكون المرجِّحات بأجمعها مقتضية لترجيح روايات عدم الهدم، ولو سلَّمنا أنَّ التقية تقتضي الترجيح لروايات الهدم فإنَّه لا تصل النوبة للترجيح بالتقية وذلك لأنَّ الروايات العلاجية جعلت الترجيح بالتقية في رتبة متأخِّرة عن الترجيح بالأعدل والأفقه والأورع، ثم بعدها الترجيح بالأشهر والمجمع عليه ثم الترجيح بمخالفة العامة، كما في مقبولة عمر بن حنظلة، فالترجيح بمخالفة العامَّة إنَّما وقع في المرتبة الثالثة وهو لا يصار إليه إلا مع تعذر الترجيح بما قبله من المراتب، وقد تبيَّن مما تقدَّم أنَّ المرجِّح الأول والثاني يقتضيان ترجيح روايات عدم الهدم(14).

هذا حاصل ما أفاده صاحب الحدائق (رحمه االله) انتصاراً لدعوى ترجيح الطائفة الثانية القاضية بعدم الهدم إلا أنَّ الظاهر هو عدم تماميَّة ما أفاده رحمه الله تعالى.

مناقشة ما أفاده صاحب الحدائق: 

أمَّا ما أفاده من أنَّ روايات عدم الهدم موافقة للكتاب المجيد -وأنَّ مقتضى إطلاق الآية هو عدم حليَّة المرأة لزوجها الأول بعد الطلاق الثالث سواءً تخلَّل الطلقات الثلاث الزواج من آخر أو لا- فلا يصحُّ ظاهراً، فإنَّ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾(15) قرينةٌ على أنَّ الزواج من آخر هادمٌ لطلاق الأول مطلقاً سواءً كان الزواج من الآخر بعد الطلاق الثالث أو قبله، وعليه فلا ينعقد إطلاق للآية في أنَّ المرأة تحرم على زوجها إذا طلَّقها ثلاثاً مطلقاً سواءً كانت متواليات أو متفرقات، بل إنَّ قوله: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ قرينةٌ على أنَّ الزواج من الآخر هادمٌ لطلاق الأول، ولا أقلَّ من أنَّ هذه الفقرة من الآية صالحةٌ للقرينيَّة على عدم إرادة الإطلاق من صدر الآية، فتكون الآية مجملة من جهة شمولها لفرضيَّة تخلُّل الطلقات الثلاث للزواج من آخر.

وأمَّا ما أفاده من الترجيح بالشهرة الروائية فيردُ عليه أنَّ الترجيح بها لم يثبت بدليلٍ معتبر، فعمدةُ ما يُستدلُّ به على الترجيح بالشهرة الروائية هو مقبولة عمر بن حنظلة والحال أنَّها لا تدلُّ على أكثر من تعيُّن العمل بالخبر المُجمع عليه الذي لا ريب فيه وذلك لا يكون إلا في الخبر المقطوع الصدور، ولذلك صنَّفته المقبولة ضمن الأمر البيِّن الرُشد في مقابل الخبر الشاذ النادر الذي صنَّفته الرواية ضمن الأمر البيِّن غيُّه، وبذلك يكون مفروض المقبولة هو تعارض الحجَّة مع اللاحجَّة وهو أجنبي عن مرجِّحات باب التعارض بين الأخبار والتي يُفترضُ فيها كون الخبرين المتعارضين واجدين في نفسيهما لشرائط الحجيَّة لولا التعارض ,

وعليه فالمقبولة لا تصلح دليلاً على الترجيح بالشهرة الروائية، على أنَّ المقبولة لا تنطبق على روايات عدم الهدم، فكيف يصحُّ وصفها بالخبر المُجمع عليه والذي لا ريب فيه والحال أنَّ مشهور الفقهاء مُعرضون عن العمل به بل لا تكاد تعرفُ أحداً من الفقهاء قد عمل به، فخبرٌ هذا شأنُه لا يصح وصفه بالأمر البيِّن الرشد وكذلك لا يصحُّ وصف الخبر المقابل له -والتي هي أخبار الهدم- بالشاذ النادر والبيِّن غيُّه وذلك لاشتهار العمل به شهرةً عظيمة حتى لا تكاد تجد من يخالفه.

وأمَّا الاستدلال على ترجيح روايات عدم الهدم بدعوى أنَّ رواتها أعدل وأورع وأوفقه فلا يصح أيضاً فالترجيح بالصفات ليس عليه من دليلٍ، فإنَّ ما أفده الإمام(ع) في المقبولة من الترجيح بالصفات إنَّما هو في فرض اختلاف ما يحكم به الحكمان، فذلك هو الظاهر من قوله (ع) في المقبولة: "الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِه أَعْدَلُهُمَا وأَفْقَهُهُمَا وأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وأَوْرَعُهُمَا ولَا يَلْتَفِتْ إِلَى مَا يَحْكُمُ بِه الآخَرُ"(16).

وأمَّا ما أفاده من الترجيح بالاحتياط فدليلُه منحصرٌ بمرفوعة زرارة والتي افترضت تساوي الخبرين المتعارضين من حيث إنَّ كلاً منهما مشهوران وموافقان أو مخالفان للعامة، ومِن حيث تساوي الراويين في العدالة والوثاقة فقال الإمام الباقر(ع) -بحسب الرواية-: "اذنْ فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك ما خالف الاحتياط"(17).

فالرواية وإنْ كانت ظاهرة في تعيُّن الترجيح بالاحتياط ولكنَّها ضعيفة السند لكونها مرسلةً فقد أوردها ابن أبي جمهور الاحسائي في كتابه عوالي اللآلي دون سند، فهي ضعيفةٌ لكونها مرسلة ولعدم ثبوت وثاقة الراوي بل إنَّ الشيخ يوسف (رحمه الله) نفسه قد طعن في الراوي وفي كتابه رغم أنَّ دأبه عدم الطعن السند(18).

وأمَّا الترجيح بالمتأخِّر زماناً فلم يرد نصٌّ يقتضي اعتبار التأخُّر من مرجِّحات باب التعارض، وأمَّا ما ورد في بعض الروايات من الأمر بالأخذ بالمتأخر فهو مختصٌ بزمن الحضور حيث يراعي الإمام في اجاباته مقتضيات التقية كونه الأعرف بمقتضياتها، فقد يُجيب المكلَّف عن مسألةٍ بجواب ثم بعد زمنٍ يُجيبه بجوابٍ آخر، فإما أن يكون الجواب الأول هو المناسب للتقية فجوابه بعد زمنٍ بالواقع معناه أنَّ مقتضى التقية قد انتفى فعلى المكلَّف العمل بالواقع، وأما أن يكون الجواب الثاني المتأخِّر هو المناسب للتقية فكذلك يجب على المكلَّف العمل بالمتأخِّر لأنَّ جواب الإمام (ع) بالتقية معناه أن ظرف الجواب يقتضي التقية فالعمل بالمتأخِّر في زمن الحضور هو المتعيِّن دائماً.

ويتَّضح ذلك من ملاحظة مثل رواية أَبِي عَمْرٍو الْكِنَانِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): يَا أَبَا عَمْرٍو أرَأَيْتَكَ لَوْ حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ أَوْ أَفْتَيْتُكَ بِفُتْيَا ثُمَّ جِئْتَنِي بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلْتَنِي عَنْه فَأَخْبَرْتُكَ بِخِلَافِ مَا كُنْتُ أَخْبَرْتُكَ أَوْ أَفْتَيْتُكَ بِخِلَافِ ذَلِكَ بِأَيِّهِمَا كُنْتَ تَأْخُذُ قُلْتُ بِأَحْدَثِهِمَا وأَدَعُ الآخَرَ فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتَ يَا أَبَا عَمْرٍو أَبَى اللَّه إِلَّا أَنْ يُعْبَدَ سِرّاً أَمَا واللَّه لَئِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ إِنَّه لَخَيْرٌ لِي ولَكُمْ وأَبَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ لَنَا ولَكُمْ فِي دِينِه إِلَّا التَّقِيَّةَ (19).

وكذلك رواية الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): إِذَا جَاءَ حَدِيثٌ عَنْ أَوَّلِكُمْ وحَدِيثٌ عَنْ آخِرِكُمْ بِأَيِّهِمَا نَأْخُذُ فَقَالَ خُذُوا بِه حَتَّى يَبْلُغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ فَإِنْ بَلَغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ فَخُذُوا بِقَوْلِه قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) إِنَّا واللَّه لَا نُدْخِلُكُمْ إِلَّا فِيمَا يَسَعُكُمْ وفِي حَدِيثٍ آخَرَ خُذُوا بِالأَحْدَثِ"(20).

فمفروض الروايتين هو زمن الحضور وأنَّ كلاً من الخبرين المتعارضين معلوم الصدور عن الإمام (ع) وأنَّ منشأ الأمر بالأخذ بالمتأخِّر هو أنَّ الإمام (ع) أعرف بمقتضيات الوقت والتقية فيكون الأخذ بالمتأخِّر هو المتعيِّن دائماً، وهذا لا ينطبق على ما نحن عليه الآن -كما أفاد السيد الخوئي-(21) فنحن لا نعلم بصدور الخبرين المتعارضين فلعلَّهما غير صادرين وعلى فرض صدورهما فإننا لا نعلم أيَّهما الصادر لبيان الحكم الواقعي، فإنَّ وظيفتنا هي العمل بالحكم الواقعي الذي قد يكون هو المتقدِّم وقد يكون هو المتأخر، لذلك نحتاج إلى مرجِّح آخر غير التقدُّم والتأخر، وهذا بخلاف المعاصر للمعصوم (ع) فإنَّ عليه العمل بالمتأخِّر سواءً كان هو الحكم الواقعي أو هو الحكم المناسب لمقتضى التقية، وذلك لأنَّ المتأخِّر لو كان هو الصادر تقية فإنَّه يتعيَّن العمل به لتشخيص المعصوم(ع) أن ذلك هو المناسب لمقتضيات الوقت.

وبتعبير آخر: إنَّ الخبر المتأخِّر قد لا يكون هو الصادر لبيان الحكم الواقعي والحال أنَّ وظيفتنا هي تحرِّي الحكم الواقعي للعمل به وذلك لأنَّ الصادر تقيةً كان بسبب الملاحظة لمقتضيات الوقت وليس الغرض من صدوره العمل به مطلقاً كما هو واضح، فالغرض من مرجِّحات باب التعارض هو تحرِّي الخبر الصادر لبيان الحكم الواقعي، والتأخُّر والتقدُّم لا يصلحان للكشف عن ذلك لأنَّ الصادر تقيةً قد يكون هو المتقدِّم وقد يكون هو المتأخِّر، فليس المتقدِّم هو الصادر تقية دائماً بل ولا غالباً، ولهذا لا يكون التأخُّر صالحاً للكشف ولو بمستوى الظن عن أنّ المتأخِّر هو الصادر لبيان الحكم الواقعي. 

وهذا الذي ذكرناه أفاد صاحب الحدائف (رحمه الله) ما يقرب منه في المقدمة السادسة من كتاب الحدائق(22).

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّه لم يثبت شيءٌ مما أفاده لإثبات ترجيح روايات عدم الهدم، على أنَّ استبعاده حمل روايات عدم الهدم على التقية ليس في محلِّه فإنَّ البناء على عدم الهدم كان رأياً سائداً بين فقهاء العامَّة إن لم يكن هو الأشهر، فقد نُسب إلى مالك، والشافعي، وأبي سليمان وأصحابهم، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وزفر، وسفيان الثوري، والحسن بن حي. ومحمد بن الحسن، ونسبوه كذلك إلى عليٍّ (عليه السلام) وعمر، وأبي هريرة، وأُبي بن كعب، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمرو بن العاص ونفرٌ من الصحابة(23).

وكيف كان فعمدةُ البناء على هدم النكاح مِن آخر للطلقة والطلقتين هو إعراض المشهور عن روايات عدم الهدم حتى لا تكاد تجد عاملاً(24) بها رغم صحَّة أسناد عددٍ منها، وبذلك تسقط عن الحجيَّة وتكون معارضتها لروايات الهدم من تعارض اللاحجَّة مع الحجَّة.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

8 / شعبان / 1443ه

12 / مارس / 2022م

--------------------------------

1- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج25 / ص333، جواهر الكلام -الشيخ محمد النجفي- ج32 / ص163.

2- الخلاف -الشيخ الطوسي- ج4 / ص488.

3- الكافي -الكليني- ج6 / ص77، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج22 / ص125.

4- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج8 / ص31، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج22 / ص126. 

5- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج22 / ص129.

6- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج22 / ص125.

7- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج22 / ص128.

8- الكافي -الكليني- ج 5 / ص426، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج22 / ص126.

9- الكافي -الكليني- ج5 / ص426، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج22 / ص127.

10- تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج8 / ص32، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج22 / ص127.

11- تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج8/ ص32.

12- الحدائق الناظرة -الشيخ يوسف البحراني- ج25 / ص338.

13- الحدائق الناظرة -الشيخ يوسف البحراني- ج25 / ص338.

14- الحدائق الناظرة -الشيخ يوسف البحراني- ج25 / ص338، 341.

15- سورة البقرة / 230.

16- الكافي- الكليني- ج1 / ص67.

17- مستدرك الوسائل -النوري- ج17 / ص303.

18- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج1 / ص99.

19- الكافي -الكليني- ج2 / 218، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 16 / ص206.

20- الكافي -الكليني- ج1 / 67، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 27 / ص109.

21 -مصباح الأصول -السيد الخوئي- ج2 / ص501.

22- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج1 / ص105.

23- الخلاف -الطوسي- ج4 / ص489، بدائع الصنائع -أبو بكر الكاشاني- ج3 / ص127، المحلَّى -ابن حزم- ج10 / ص250.

24 -جواهر الكلام -الشيخ محمد حسن النجفي- ج32 / ص163.