حديثٌ حول التوقيع الشريف *

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

الحديثُ حول التوقيع الشريف الصادر عن الإمام الحجَّة (ع) من طريق السفير الرابع والذي أعلنَ فيه الإمام(ع) عن انقضاء عصر الغيبة الصغرى بموت السفيرِ الرابع الشيخِ عليِّ بن محمَّد السمري رحمه اللهُ تعالى. وقبل قراءة التوقيع الشريف يحسنُ بنا الإيضاح لأمورٍ أربعة:

 

أساس الفرق بين الغَيبتين الصغرى والكبرى:

الأمر الأول: أساسُ الفرق بين الغَيبتين الصغرى والكبرى هو أنَّ الإمام المهدي (ع) في ظرف الغَيبة الصغرى كان يتَّصل بشيعته بواسطة نوَّابه وسفرائه، فكان الشيعةُ يرفعون أسئلتهم وحوائجهم للإمام (ع) مِن طريق نوَّابه، فتخرجُ إليهم الأجوبةُ من طريق النوَّاب، فلم يكن الإمامُ (ع) في عصر الغيبة الصغرى منقطعًا عن شيعته انقطاعًا تامًّا بل كان بينه وبينهم اتِّصالٌ ولكن بالواسطة، وبعد وقوع الغيبةِ الكبرى أصبح انقطاعُ الشيعة عن الإمام (ع) تامًّا، فلم تعُد لهم واسطة يتَّصلون من طريقِها بالإمام (ع) ولذلك وُصفت هذه الغيبة في بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) بالغيبة التامَّة ([1]) وذلك لانقطاع جميع وسائل الاتِّصال بين الشيعة وبين الإمام (ع) فصارَ عليهم أنْ يرجعوا في مختلفِ شؤونهم الدينيَّة إلى الفقهاء العدول.

 

فالإمامُ (ع) في الغَيبتين لم يكن يظهرُ لشيعته ولكنَّه في ظرف الغيبة الصغرى كان يتَّصل بهم عن طريق نوَّابه فذلك هو الفارق بين الغيبتين، ولهذ كانت الغيبة الصغرى تمهيدًا للغيبة التامَّة والتي انقطع فيها الإمام (ع) عن شيعته انقطاعًا تامًّا، وهذا هو ما يُميِّز الغيبة الكبرى عن الغيبة الأولى المعبَّر عنها بالصغرى.

 

وهذا الذي ذكرناه قد نصَّ عليه الأعلام، فمِن ذلك ما أفاده أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعماني البغدادي المعروف بأبي زينب النعماني المتوفى سنة 360 ه قال في كتاب الغيبة:

".. فأمَّا الغيبة الأولى فهي الغيبة التي كانت السفراء فيها بين الإمام (عليه السلام) وبين الخلق قيامًا منصوبين ظاهرين موجودي الأشخاص والأعيان، يخرج على أيديهم غوامض العلم، وعويص الحكم، والأجوبة عن كلِّ ما كان يُسأل عنه من المعضلات والمشكلات، وهي الغيبة القصيرة التي انقضت أيامُها وتصرَّمت مدَّتُها، والغيبة الثانية هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط للأمر الذي يُريده الله تعالى، والتدبير الذي يُمضيه في الخلق، ولوقوع التمحيص والامتحان والبلبلة والغربلة والتصفية على مَن يدَّعي هذا الأمر، كما قال الله عزَّ وجل: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾.."([2]).

 

ومن ذلك: ما أفاده الشيخ المفيد في الإرشاد قال: "والقائم بالحقِّ، المنتظر لدولة الإيمان، وله قبل قيامه غيبتان، إحداهما أطول من الأخرى، كما جاءت بذلك الأخبار، فأمَّا القصرى منهما فمنذ وقتِ مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة. وأمَّا الطولى فهي بعد الأولى، وفي آخرها يقوم بالسيف"([3]).

 

ومن ذلك: ما أورده الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بسنده عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه صاحب كتاب كامل الزيارات وهو شيخ المفيد والغضائري وغيرهما من أعلام الطائفة تُوفي سنة 368ه قال: ".. لأنَّ عندنا أنَّ كلَّ من ادَّعى الأمر بعد السمري رحمه الله فهو كافرٌ منمِّس ضالٌّ مضلٌّ، وبالله التوفيق"([4]).

 

أقول: ومعنى قوله: كافر هو أنَّه على حدِّ الكفر بالله العظيم، ومعنى قوله: منمِّس هو أنَّه محتال ومخادِع أي أنَّه منافق.

 

 امتدَّ عصرُ الغيبة الصغرى تسعًا وستين سنة:

الأمر الثاني: امتدَّ عصرُ الغيبة الصغرى تسعًا وستين سنة، بدأتْ باستشهاد الإمام العسكري (ع) سنة مائتين وستين للهجرة وانتهت بوفاة الشيخ عليِّ بن محمَّد السمري سنة ثلاثمائة وتسعة وعشرين للهجرة، وقد تعاقب على تحمُّل أعباء النيابة والسفارة أربعةٌ من أعلام وعظماء الشيعة المُجمَع على جلالة قدرِهم وعلوِّ منزلتهم، وكان تولِّيهم لشؤون النيابة والسفارة قد ثبت لهم بالنصِّ الصريح من الإمام العسكري (ع) والإمام المهدي (ع) فكان أولُ السفراء الشيخ أبا عمرو عثمان بن سعيد العمري المعروف بالسمَّان، وقد امتدَّت نيابتُه للإمام (ع) قرابةَ الخمس سنوات، وبعد وفاته صدر النصُّ بتعيين ابنه أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري، والذي ظلَّ يحملُ أعباء النيابة قرابة الأربعين سنة إلى أنْ تُوفي في آخر جمادى الآخرة من سنة أربع أو خمس وثلاثمائة، فقام مقامَه أبو القاسم الحسينُ بن روح النوبختي بنصٍّ من أبي جعفر محمد بن عثمان، وبقي قرابة العشرين سنة إلى أنْ تُوفي في شعبان سنة ستٍّ وعشرين وثلاثمائة، فقام مقامه أبو الحسن عليُّ بن محمد السمري بنصِّ أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي، وتُوفي بعد خمس أو أربع سنوات من تولِّيه شأن النيابة في النصف من شعبان سنة ثلاثمائة وتسعٍ وعشرين، وقيل سنة ثلاثمائة وثمان وعشرين، وبوفاته انقطعت النيابة الخاصَّة وانقضى عصرُ الغيبة الصغرى ووقعت الغيبة التامَّة المعبَّر عنها بالغيبة الكبرى.

 

تثبتُ النيابة بالنصِّ الصريح:

الأمر الثالث: كان تعيين النائب للإمام المهدي (ع) في عصر الغيبة الصغرى يتمَّ -كما ذكرنا- بواسطة النصِّ الصريح عليه مِن قِبل الإمام (ع) فكان تعيينُ السفير الأول قد تمَّ النصُّ عليه من قِبل الإمام العسكري (ع) ثم إنَّ السفير الأول أخبر أنَّ الإمام المهدي (ع) قد نصَّ على أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري، وهكذا فإنَّ أبا جعفر العمري أخبر عن الإمام(ع) أنَّه نصَّ على أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي من بعده، ثم إنَّ أبا القاسم أخبر عن أنَّ الإمام (ع) قد نصَّ على الشيخ عليِّ بن محمد السمري من بعده ورغم أنَّ ذلك كان كافيًا للتثبُّت من دعوى أنَّ التعيين قد تمَّ من طريق الإمام (ع) إلا أنَّه ورغم ذلك كان يُصاحب النصَّ بالتعيين أماراتٌ قطعيَّة تُفضي لليقين بكونه المعيَّن من قبل الإمام (ع) فكانت تظهرُ على يديه الكرامات وكان يُخبِرُ عن الإمام(ع) بالعديد من المُغيَّبات التي تقع بعد حينٍ كفلقِ الصبح بالنحو الذي أخبر به عن الإمام(ع)([5]).

 

يقول الشيخ الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج: ولم يقم أحدٌ منهم بذلك إلا بنصٍّ عليه مِن قِبَل صاحب الأمر عليه السلام، ونصْبِ صاحبه الذي تقدَّم عليه، ولم تقبل الشيعةُ قولهم إلا بعد ظهور آيةٍ معجزة تظهر على يد كلِّ واحدٍ منهم مِن قِبَل صاحب الأمر عليه السلام، تدلُّ على صدق مقالتهم، وصحَّة بابيَّتهم"([6]).

 

المراد من مصطلح التوقيع:

الأمر الرابع: مصطلح التوقيع الشريف يُطلق غالبًا على الجوابات المكتوبة والبينات الصادرة عن الإمام المهدي (ع) والتي تصلُ إلى الشيعة عن طريق أحد سفرائه، فقد كانت تُرفع من قِبَل الشيعة إلى الإمام (ع) عن طريق السفراء الكثيرُ من الأسئلة في مختلف الشؤون الدينيَّة والحياتية، فكان الإمام (ع) يُجيبُ عليها كتابيًّا ويتمُّ إيصالها لأصحابها من طريق السفراء، وكذلك كانت تصدرُ عن الإمام (ع) ابتداءً بياناتٌ وتوجيهاتٌ وتوصياتٌ وإرشاداتٌ عامَّة أو خاصَّة، هذه البيانات والجوابات المكتوبة التي تصلُ الشيعة من طريق السفراء يُعبَّر عنها بالتوقيعات.

 

ومنشأُ التعبير عنها بالتوقيعات هو أنَّها كانت مختومةً وموقَّعة بخاتمِه الشريف، فكان مِن هذه التوقيعات التوقيع الشريف الذي صدر عن الإمام (ع) عن طريق سفيره الرابع والذي اشتمل على الإعلان عن انقضاء أمدِ الغيبة الصغرى بموت السفير الرابع.

 

نصُّ التوقيع الذي خرج على يد السمري:

فقد أوردَ الشيخُ الصدوق (رحمه الله) في كتابه كمال الدين قال: حدَّثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المكتِّب قال: كنتُ بمدينة السلام -بغداد- في السنة التي تُوفي فيها الشيخ عليُّ بن محمد السمري -قدَّس الله روحَه- فحضرتُه قبل وفاته بأيَّام فأخرج إلى الناس توقيعًا نسختُه: "بسم الله الرحمن الرحيم يا عليَّ بن محمد السمري أعظمَ اللهُ أجرَ إخوانك فيك، فإنَّك ميِّتٌ ما بينك وبين ستة أيام فاجمعْ أمرَك ولا تُوصِ إلى أحدٍ يقومُ مقامَك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبةُ التامَّة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله عزَّ وجل، وذلك بعد طول الأمَد وقسوةِ القلوب، وامتلاءِ الأرض جورا، وسيأتي شيعتي مَن يدَّعي المشاهدةَ، ألا فمَن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحةِ فهو كاذب مفتر -كذَّاب مفترٍ-، ولا حول ولا قوَّةَ إلا بالله العليِّ العظيم".

 

قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمَّا كان اليومُ السادس عُدنا إليه وهو يجودُ بنفسه، فقيل له: مَن وصيُّك مِن بعدك؟ فقال: لله أمرٌ هو بالغُه، ومضى رضي اللهُ عنه، فهذا آخرُ كلامٍ سُمع منه".

 

سند التوقيع ومصادره:

أورد هذا التوقيع -مضافًا للشيخ الصدوق- الشيخ أبو جعفر الطوسي (رحمه الله) في كتاب الغيبة بسندٍ معتبر، وكذلك أورده الشيخ الطبرسي في الاحتجاج وفي كتابه إعلام الورى، وأورده قطبُ الدين الراوندي في الخرائج، وطريق الشيخ الصدوق للتوقيع معتبرٌ فإنَّه يرويه بواسطةٍ واحدة وهو أبو محمد الحسن -الحسين- بن أحمد المكتِّب وهو من مشايخه الذين ترحَّم عليهم وترضَّى عليهم في كتابه كمال الدين وغيره من كتبه([7]).

 

تقريبُ الاستدلال بالتوقيع الشريف:

والاستدلال بالتوقيع الشريف على انقطاع النيابة بوقوع الغيبة الكبرى في فقرتين:

 

الفقرة الأولى: قوله (ع): "ولا تُوصِ إلى أحدٍ يقومُ مقامَك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبةُ التامَّة"

ومعنى هذه الفقرة أنَّ المقدار من الاتِّصال الذي كان متاحًا في عصر الغيبة الصغرى قد انتهى، فأصبحت الغيبة تامَّة، فهذه الفقرة تُبيِّن أنَّ من خصائص الغيبة التامَّة بل إنَّ أهم خصائصِها هو انقطاع النيابة الخاصَّة، لذلك علَّل الإمام (ع) نهيه عن الإيصاء: "ولا تُوصِ إلى أحدٍ يقومُ مقامَك" علَّله بقولَه: "فقد وقعتْ الغيبةُ التامَّة"، ومفاد ذلك أنَّ علَّة انقطاع النيابة وعلَّة النهي عن الإيصاء هو وقوع الغيبة التامة، ومقتضاه أنَّ واقع الغيبة التامَّة ولازمها هو انقطاع النيابة الخاصَّة، وأكَّد الإمام (ع) ذلك بقوله: "فلا ظهور" بمعنى أنَّه لا ظهور ولو بمقدار ظهوره الذي كان في عصر الغيبة الصغرى والذي كان يظهرُ فيه لنوَّابه، فقوله (ع): "فلا ظهور" والحال أنَّه لم يكن ظاهرًا في عصر الغيبة الصغرى لا معنى له إلا أنَّه ليس له ظهور حتى بالمستوى الذي كان يظهرُ فيه لنوَّابه وسفرائه.

 

الفقرة الثانية: قوله (ع): "وسيأتي شيعتي مَن يدَّعي المشاهدةَ، ألا فمَن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحةِ فهو كاذب مفترٍ -كذَّابٌ مفترٍ-".

 

ودلالة هذه الفقرة على انقطاع النيابة الخاصَّة بيِّنة وواضحة، فإنَّ الإمام (ع) وصَمَ كلَّ من يدَّعي المشاهدة في عصر الغيبة الكبرى قبل خروج السفياني والصيحة بالكذب والافتراء، ومعنى الافتراء هو تعمُّد الكذب.

 

والظاهر بقرينة السياق -وكون الإمام (ع) بصدد الإعلان عن انقطاع النيابة الخاصَّة- أنَّ المراد من ادِّعاء المشاهدة هو ادَّعاء الاتِّصال بالإمام المهدي (ع) وادِّعاء تلقِّي الأوامر والإرشادات منه لتبليغها، ويؤكِّد ذلك قوله (ع): "وسيأتي شيعتي مَن يدَّعي المشاهدةَ" يعني أنَّ هؤلاء الأدعياء يأتون إلى عامَّة الشيعة أو إلى جماعةٍ منهم يدَّعون أنَّهم مكلَّفون من قِبَله بحمل أوامر وتوصياتٍ منه (ع) إليهم وإلا فإنَّ مَن رأى الإمام (ع) فقضى له حاجةً أو أغاثه ونجَّاه من محنةٍ أو وعظه بموعظةٍ خاصَّة فإنَّه لا معنى لأنْ يأتي الشيعة فإنَّه غيرُ مكلَّفٍ بشيء.

 

فالمستظهَر من قوله: "وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة" هو أنَّه سيأتي الشيعةَ من يدَّعي أنَّه مكلَّف من الإمام (ع) بإيصال أمرٍ ما إليهم يعني يهمُّه أنْ يقتنع الشعية بدعواه، فهذا هو الذي أفاد الإمام (ع) بأنَّه كذَّاب مفترٍ.

 

فإذن هذه الفقرة تدلُّ على أنَّ كلَّ من ادَّعى الاتِّصال بالإمام (ع) في عصر الغيبة وادَّعى تلقِّي الأوامر منه وادَّعى أنَّه مكلَّفٌ بإيصال وتبليغ هذه الأوامر لشيعته فهو كذَّاب مفترٍ، فهذه الفقرة من التوقيع، تنفي ما هو أوسع مِن دعوى النيابة الخاصَّة، فهي تنفي دعوى المشاهدة التي تحملُ تكليفًا بأمرٍ ما من الإمام(ع) لشيعته.

 

فمفاد هذه الفقرة أنَّ كلَّ مَن جاء مدَّعيًا أنَّه مكلَّفٌ من الإمام(ع) بإيصال أمرٍ ما إلى الشيعة أو إلى جماعةٍ منهم فهو كذَّاب مفترٍ. فحتى لو لم يدَّع السفارة والنيابة والبابيَّة واقتصرت دعواه على أنَّه مكلَّفٌ من الإمام (ع) بإيصال بعض التعاليم والأوامر والارشادات إليهم فهو كذابٌ مفترٍ.

 

امتداد الغيبة التامَّة إلى خروج السفياني والصيحة:

ثم أفاد التوقيعُ الشريف أنَّ الاتِّصال بالإمام (ع) منقطعٌ طوال عصر الغيبة الكبرى والتي سيطول أمدُها وأنَّه من ادَّعى الاتِّصال بالنحو الذي ذكرناه قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذَّابٌ مفترٍ. ومعنى ذلك أنَّ الاتِّصال منقطعٌ إلى زمن الظهور المبارك، إذ أنَّ خروج السفياني واستيلاءه على الشام وخسفَ جيشه في البيداء سيكون في سنة الظهور، وكذلك فإنَّ الصيحة ستكون -بحسب ما أفادته الروايات- في شهر رمضان في ذات السنة التي يخرجُ فيها الإمام (ع) فإنَّ الصيحة تقعُ في الثالث والعشرين من شهر رمضان -كما في أكثر الروايات- ويظهرُ الإمام (ع) في شهر محرم الحرام من ذات السنة.

 

الصيحة في السماء توقيتُها ومدلولها:

والصيحة في السماء علامةٌ بيِّنة لا تخفى على أحد، فقد أفادت الروايات المستفيضة أنَّها نداءٌ باسم القائم واسم أبيه، وتبشيرٌ بظهوره، ويكون ذلك النداء بصوت جبرئيل، يسمعُه كلُّ أحد في مشارق الأرض ومغاربها، ويفهم مدلوله.

 

فمِن الروايات في ذلك ما رواه الشيخ الطوسي في الغيبة بسندٍ صحيح عن محمد بن مسلم قال: "ينادي منادٍ من السماء باِسم القائم (ع)، فيُسمِع ما بين المشرق إلى المغرب، فلا يبقى راقدٌ إلا قام، ولا قائمٌ إلا قعد، ولا قاعدٌ إلا قام على رجليه من ذلك الصوت، وهو صوت جبرئيل الروح الأمين"([8]).

 

ومنها: ما رواه الشيخ النعماني بسنده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال: "قلتُ له: جعلتُ فداك، متى خروج القائم (ع)؟ فقال: يا أبا محمد، إنَّا أهل بيت لا نوقِّت.. إلى أنْ قال: ولا يخرجُ القائم حتى يُنادَى باِسمِه من جوف السماء في ليلة ثلاثٍ وعشرين في شهر رمضان ليلة جمعة. قلتُ: بم يُنادى؟ قال (ع): باِسمِه واسم أبيه، ألا إنَّ فلانَ بن فلان قائمُ آل محمد فاسمعوا له وأطيعوه، فلا يبقى شيءٌ مِن خلق الله فيه الروح إلا يسمعُ الصيحة، فتُوقِظ النائمَ ويخرج إلى صحن داره، وتخرجُ العذراء من خدرها، ويخرجُ القائم ممَّا يسمع، وهي صيحة جبرئيل (ع)"([9]).

 

وعليه فادِّعاء الاتِّصال بالإمام المهدي(ع) بالمعنى الذي ذكرناه قبل هاتين العلامتين البينتين يكون مدَّعيه كذابٌ مفترٍ

 

رواياتٌ أخرى دلَّت على انقطاع النيابة بموت السمري:

ثم إنَّ انقطاع النيابة ووسائل الاتصال بالإمام المهدي (ع) لا يقتصر دليلُه على التوقيع الشريف فقد نصَّت الكثيرُ من الروايات على انقضاء النيابة بموت السفير الرابع، فمِن ذلك ما حدَّث به الشيخ الطوسي بسندٍ صحيح في كتاب الغيبة عن شيخه الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد وشيخه الحسين بن عبيد الله الغضائري عن أبي عبد الله محمد بن أحمد الصفواني وهو من مشايخ الكليني -قال: أوصى الشيخ أبو القاسم رضي الله عنه إلى أبي الحسن عليِّ بن محمد السمري رضي اللهُ عنه، فقام بما كان إلى أبي القاسم، فلمَّا حضرتْه الوفاة حضرت الشيعةُ عنده وسألتْه عن الموكَّل بعده ولمَن يقوم مقامه، فلم يُظهِرْ شيئًا من ذلك، وذكر أنَّه لم يُؤمَر بأنْ يوصِي إلى أحدٍ بعده في هذا الشأن"([10])

 

دلالة تصنيف الغَيبة إلى غيبتين:

على أنَّ تصنيف الروايات المتواترة ([11]) غيبة الإمام (ع) إلى غيبتين صغرى وكبرى لا معنى له سوى أنَّ الذي يُميِّز الغيبة الصغرى عن الكبرى هو أنَّ الغيبة الصغرى كان الامام (ع) في ظرفها متَّصلًا بشيعته من طريق نوَّابه وإلا فلم يكن للإمام ظهورٌ في كلا الغَيبتين، ولم يظهَرْ لشيعته بعد الغيبة الصغرى ثم غاب عنهم، فلولا هذا الفارق وهو انقطاع النيابة والاتِّصال بانتهاء الغيبة الصغرى لم يكن معنى لتصنيف الغيبة إلى صغرى وكبرى، فغيبته بمعنى عدم ظهوره للناس واحدة وممتدَّة من حين شهادة والده الإمام العسكري (ع) فالذي ميَّز الغيبة الصغرى عن الكبرى هو أنَّه كان متصلًا بشيعته من طريق نوابه في ظرف الغيبة الصغرى وهذا الاتصال قد انقطع بوقوع الغيبة الكبرى.

 

تصريحُ الروايات بالانقطاع التام في عصر الغيبة الكبرى:

هذا مضافًا إلى تصريح الروايات بأنَّ الإمام (ع) يكون في ظرف الغيبة الكبرى منقطعًا حتى عن خواصِّ شيعته، فمِن ذلك ما رواه الشيخ النعماني في الغيبة بسنده عن المفضَّل بن عمر قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنَّ لصاحب هذا الامر غيبتين إحداهما تطولُ حتى يقول بعضُهم: مات، ويقول بعضُهم: قُتل، ويقول بعضهم: ذهب، حتى لا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفرٌ يسير، لا يطَّلع على موضعِه أحدٌ من وليٍّ ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره"([12]). يعني خادمه الذي يقوم على خدمته.

 

ومنها ما رواه النعماني في الغيبة بسنده محمد بن مسلم الثقفي، عن الباقر أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه سمعَه يقول: "إنَّ للقائم غيبتين يُقال له في أحدهما: هلك، ولا يُدرى في أيِّ وادٍ سلك"([13]).

 

وهنا أودُّ الإشارة إلى أنَّه لولم تنقطع النيابة الخاصَّة أو ما يُساوقها وبُني على إمكان وقوعِها في زمن الغيبة الكبرى لأدَّى ذلك إلى طمس معالم الدين والمسخ لأصوله وثوابته وشعائره، فإنَّ مثل هذا الموقع الخطير وقداسته في نفوس الناس يُغري أصحاب المآرب فيتَّخذون منه مدخلًا لتمرير مآربهم ومشاريعهم، فإنَّ الاطلاع على أدبيَّات ورؤى ومتبنَّيات أدعياء النيابة والبابيَّة على امتداد تاريخ الغيبة الكبرى يكشفُ عن أنَّه لو تمَّ البناء على إمكانية وقوع النيابة الخاصَّة في عصر الغيبة الكبرى لانطمست -بما كانوا يُروِّجون له- الكثير من معالم الدين وثوابته ولساد الهرج والمرج، فإنَّه ما أيسر أنْ يتمكَّن هؤلاء -بالحيَل والتمويهات- من اقناع البسطاء من عامَّة الناس بدعوى اتِّصالهم بالإمام (ع) وأنَّهم إنَّما يُبلِّغون عنه فيُعتمد قولهم، وبذلك يتمُّ الانصراف تدريجًا عن ثوابت الدين ويختلط الحقُّ بالباطل ويسود الهرج والمرج في فهم الدين، ولذلك كان موقف الإمام(ع) حازمًا وصارمًا في تكذيب ولعن مدَّعي هذا الموقع في عصر الغيبة الكبرى وتبعه على ذلك أعلام الشيعة وفقهائهم منذ بدايات الغيبة الكبرى وإلى يومنا هذا.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

17 / شعبان / 1443ه

20 / مارس / 2022م


* محاضرة ألقيت في مأتم السنابس 

[1]- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص433، الغيبة -الشيخ الطوسي- ص394، 395.

[2]- الغيبة -الشيخ النعماني- ص178، ولاحظ أيضًا الغيبة -الشيخ الطوسي- ص61، الغيبة -الشيخ النعماني- ص164.

[3]- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص340.

[4]- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص412.

[5]- لاحظ كتاب الغيبة -الشيخ الطوسي- ص353-396.

[6]- الاحتجاج -الشيخ الطبرسي- ج2 / ص297.

[7]- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص516، الغيبة -الشيخ الطوسي- ص395، الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص297، إعلام الورى بأعلام الهدى -الطبرسي- ج2 / ص260، الخرائج والجرائح -قطب الدين الراوندي- ج3 / ص1129، الثاقب في المناقب- ابن حمزة الطوسي- ص603.

[8]- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص454.

[9]- الغيبة -الشيخ النعماني- ص302.

[10]- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص394.

[11]- الكافي -الكليني- ج1 / باب الغيبة ح12، 19، 20، 339، 340، كمال الدين وتمام النعمة -الصدوق- ص323، كفاية الأثر- الخزاز القمي- ص150، الغيبة -النعماني- ص175، 176، 177، 178، 179، 181، الغيبة -الطوسي- ص 162، 163 وغيرها كثير.

[12]- الغيبة -الشيخ النعماني- ص176.

[13]- الغيبة -الشيخ النعماني- ص178، الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص340.