بولُ الخيل والبغال والحمير

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

بول الخيل والبغال والحمير هل هو محكوم بالطهارة كما هو حكم بول الإبل والبقر والغنم أو هو محكوم بالنجاسة؟

الجواب:

أمَّا بول الإبل والبقر والغنم فالحكم بطهارته إجماعيٌّ، وقد نصَّت على ذلك رواياتٌ مستفيضة وفيها ما هو معتبر سنداً.

منها: موثقة عن عمار، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: كلُّ ما أُكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه"(1).

فإنَّ القدر المتيقن ممَّا يؤكل لحمُه من الحيوانات هي الأنعام الثلاثة، والظاهر من قوله: "بما يخرج منه" هو مثل البول والروث وقد نفى الإمام(ع) البأس عنه، ونفي البأس عن مثل البول والروث بمناسبات الحكم والموضوع ظاهرٌ في الطهارة.

ومنها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قال أبو عبد الله ( عليه السلام ): ".. فأمَّا الشاة وكلُّ ما يُؤكل لحمُه فلا بأس ببوله"(2).

فإنَّ نفي البأس عن بوله ظاهرٌ بمناسبات الحكم والموضوع في الطهارة .

ومنها: صحيحة زُرَارَةَ أَنَّهُمَا (ع) قَالا: "لَا تَغْسِلْ ثَوْبَكَ مِنْ بَوْلِ شَيْءٍ يُؤْكَلُ لَحْمُه"(3).

فإنَّ النهي عن غسل الثوب من بول ما لا يُؤكل لحمه ظاهرٌ في الإرشاد إلى عدم النجاسة، لبداهة عدم إرادة الحرمة أو الكراهة لغسل الثوب من أثر البول، فمفاد النهي هو أنَّه يجوز للمكلَّف أنْ لا يغسل ثوبه من أثر بول ما لا يُؤكل لحمه، ومقتضى ذلك هو عدم تنجُّسها بالإصابة، ثم إنَّ القدر المتيقَّن ممَّا لا يُؤكل لحمه هي الأنعام الثلاثة الإبل والبقر والغنم.

وأمَّا بول الخيل والبغال والحمير فالمشهور بين الفقهاء شهرةً عظيمة هو الحكم بطهارته أيضاً بل لم يُنسب القول بنجاسته لأحدٍ من المتقدِّمين إلا إلى الشيخ الطوسي في النهاية(4) وابن الجنيد، وذهب من متأخِّري المتأخرين إلى القول بالنجاسة المقدس الأردبيلي(5) وصاحب الحدائق (رحمه الله) وآخرون(6).

مستند القائلين بالنجاسة:

ومستند القائلين بالنجاسة هو ما يظهرُ من عددٍ من الروايات المعتبرة:

منها: صحيحة الحلبي قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن أبوال الخيل والبغال؟ فقال: اغسل ما أصابك منه"(7).

وظاهر الأمر بغسل موضع الإصابة من أثر البول هو الارشاد إلى نجاسته كما هو مقتضى الفهم العرفي.

ومنها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل يمسُّه بعضُ أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال: يغسل بول الحمار والفرس والبغل، فامَّا الشاة وكلُّ ما يُؤكل لحمُه فلا بأس ببوله"(8).

وهذه الصحيحة أظهر من سابقتها لتصدِّيها للتفصيل بين بول الدواب الثلاث وبين بول الشاة وشبهها مما تعارف أكلُ لحمه، فلو كان الأمر بالغسل عن بول الدواب الثلاث للتنزُّه لكان المناسب الأمر بالتنزُّه عن بول مثل الشاة أيضاً كما أنَّ نفي البأس عن بول مثل الشاة ظاهرٌ أو مشعرٌ بوجود البأس في بول الدواب الثلاث وذلك لأنَّ الإمام (ع) كان بصدد التفصيل، وعلى أيِّ تقدير فإنَّ الأمر بالغسل المُستفاد من الجملة الفعليَّة المسوقة للإنشاء ظاهرٌ عرفاً في الإرشاد للنجاسة.

ومنها: صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع)عَنْ أَلْبَانِ الإِبِلِ والْغَنَمِ والْبَقَرِ وأَبْوَالِهَا ولُحُومِهَا فَقَالَ: لَا تَوَضَّأْ مِنْه إِنْ أَصَابَكَ مِنْه شَيْءٌ أَوْ ثَوْباً لَكَ فَلَا تَغْسِلْه إِلَّا أَنْ تَتَنَظَّفَ، قَالَ: وسَأَلْتُه عَنْ أَبْوَالِ الدَّوَابِّ والْبِغَالِ والْحَمِيرِ؟ فَقَالَ: اغْسِلْه فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ مَكَانَه فَاغْسِلِ الثَّوْبَ كُلَّه وإِنْ شَكَكْتَ فَانْضِحْه"(9).

فالأمر بالغسل من أثر أبوال الدواب ظاهر في الإرشاد للنجاسة ويشتدُّ ظهور الرواية في ذلك بقرينة التفصيل كما في الرواية التي سبقتها، بل هي أظهر منها نظراً للأمر بغسل الثوب كلَّه في فرض العلم بالإصابة والجهل بموضعها.

ومنها: موثقة سماعة قال: "سألتُه عن بول السنور والكلب والحمار والفرس؟ قال: كأبوال الانسان"(10).

ولعلَّ هذه الرواية هي أظهر الروايات حيث أفادت أنَّ بول الحمار والفرس كبول الإنسان الذي لا ريب في نجاسته.

والروايات فيما يظهر منه نجاسة أبوال الدواب الثلاثة مستفيضة إلا أنَّه ورد في مقابل ذلك ما يظهر منه الحكم بطهارة أبوال الدواب الثلاث والعمدة فيما يقتضي ذلك روايتان:

الرواية الأولى: صحيحة أَبِي الأَعَزِّ النَّخَّاسِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): "إِنِّي أُعَالِجُ الدَّوَابَّ فَرُبَّمَا خَرَجْتُ بِاللَّيْلِ وقَدْ بَالَتْ ورَاثَتْ فَيَضْرِبُ أَحَدُهَا بِرِجْلِه أَوْ يَدِه فَيَنْضِحُ عَلَى ثِيَابِي فَأُصْبِحُ فَأَرَى أَثَرَه فِيه فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ"(11).

فهذه الرواية مقتضية لطهارة أبوال وأرواث الدواب، فقد أفاد السائل أنَّ ثيابه قد أصابها شيء من أبوال وأرواث الدواب وأنَّه قد تبيَّن أثرها على ثيابه ورغم ذلك أجابه الإمام (ع) بأنَّه لا يترتَّب عليه من ذلك شيء، فالرواية شديدة الظهور في طهارة أبوال الدواب، وليس في سندها إشكال إلا من جهة النخَّاس، حيث لم يرد فيه توثيق خاص إلا أنَّه حيث كان من مشايخ ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى فإنَّ ذلك يقتضي البناء على وثاقته، إذ أنَّهما لا يرويان ولا يُرسلان إلا عن ثقة فالرواية لذلك صحيحة السند.

الرواية الثانية: موثقة المعلَّى بن خنيس وعبد الله بن أبي يعفور قالا: كنَّا في جنازة وقدَّامنا حمار فبال فجاءت الريحُ ببولِه حتى صكَّتْ وجوهَنا وثيابَّنا فدخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام) فأخبرناه فقال: ليس عليكم بأس"(12).

واقتضاء هذه الرواية لطهارة بول الحمار كسابقتها فرغم احراز اصابة أجسادهم وثيابهم لشيءٍ من بول الحمار إلا أنَّه ورغم ذلك نفى الإمام (ع) أنْ يكون عليهم بأس من ذلك، فهم من ذلك في سعة، فلا يلزمهم غسل أثره وموضع الإصابة من أجسادهم وثيابهم، ولهم بمقتضى ذلك الصلاة في ثيابهم واستعمالها فيما يُعتبر فيه الطهارة، فالرواية واضحة في الحكم بطهارة بول الحمار، وليس في سندها إشكال إلا من جهة الحكَم بن مسكين وهو من مشايخ ابن أبي عمير فهي لذلك صحيحة السند.

ما يقتضيه الجمع العرفي بين الطائفتين:

وعليه فمقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين من الروايات هو تعيُّن حمل الأمر بالغسل في الطائفة الأولى على الاستحباب أو التنزُّه، وذلك لأنَّ الطائفة الثانية صريحة في طهارة أبوال الدواب أو لا أقلَّ من أنَّها أظهر من الطائفة الأولى، فتكون بذلك قرينة على عدم إرادة الطائفة الأولى للإرشاد إلى النجاسة، فالأمر بالغسل من أثر بول الدواب وإنْ كان ظاهراً بدوا في الإرشاد إلى النجاسة إلا أنَّه يتعيَّن رفع اليد عن هذا الظهور وحملُه على غير إرادة الإرشاد إلى النجاسة بقرينة الطائفة الثانية، فالطائفة الثانية نظراً لصراحتها أو أظهريتها تكون بمثابة الكاشف عن المراد الجدي لمدلول الطائفة الأولى، وأنَّ المراد منها هو ما يُناسب مقتضى الطائفة الثانية.

نعم هذا الجمع بين الطائفتين إنَّما يناسب الروايات الآمرة بغسل أثر أبوال الدواب، وأمَّا مثل موثقة سماعة والتي أفادت أنَّ بول الدواب كبول الإنسان فهي لا تقلُّ في ظهورها في النجاسة عن مستوى ظهور الطائفة الثانية في الطهارة، فالتعارض بين موثقة سماعة والطائفة الثانية مستحكم ولذلك يتعيَّن الرجوع إلى مرجِّحات باب التعارض وذلك لعدم إمكان الجمع العرفي بين الموثَّقة وبين الطائفة الثانية.

فلو تمَّ ذلك فإنَّ مقتضى مرجِّحات باب التعارض هو البناء على الطهارة أيضاً وذلك بحمل مثل موثَّقة سماعة على التقية، إذ أنَّ مبنى جمهور العامَّة هو الحكم بالنجاسة، فالطائفةُ الثانية القاضية بطهارة أبوال الدواب هي المخالفة لما عليه العامَّة فيكون الترجيح بجانبها، كما هو مقتضى أدلة مرجِّحات باب التعارض.

قرينة أخرى على عدم إرادة الإرشاد إلى النجاسة:

ولو قُطع النظر عن كلِّ ذلك وتمَّ البناء على ضعف روايتي الطائفة الثانية -كما هو مبني السيد الخوئي(13)- فإنَّه ورغم ذلك يتعيَّن حملُ روايات الأمر بالغسل في الطائفة الأولى على الاستحباب والتنزُّه، وحمل ما لا يمكن حمله على ذلك -مثل موثقة سماعة- على الصدور تقيةً، وذلك لأنَّ هذه المسألة من المسائل التي كان يعمُّ الابتلاء بها في عصر النصِّ وإلى عهدٍ قريب، فالدواب الثلاث كانت هي الوسيلة المعتمدة لدى عامة الناس في حضرهم وسفرهم وفي تنقلاتهم البعيدة والقريبة، ولا تكاد تجد أحداً منهم وإلا ولديه منها صنف يتوسَّل بها في قضاء حوائجه اليوميَّة وعلى مدار الساعة، ولا ريب أنَّها كانت تبول وتروث دون تحفُّظ في أسواقهم ودورهم وعلى أبواب منازلهم ومواضع جلوسهم، ويصيب شيء من ذلك أجسادهم وثيابهم وفرشهم، فلو كانت أبوال هذه الدواب نجسة لكان الحكم بنجاستها من الواضحات لِما يترتَّب على ذلك من آثار شرعيَّة كلزوم تطهير مواضع الإصابة للصلاة وسائر ما يُعتبر فيه الطهارة، فكيف خفيَ ذلك على عامَّة المتشرعة حتى لا تكاد تجد أحداً من المتقدِّمين وكذلك المتأخرين إلا ما ندر يبني على نجاستها، إنَّ ذلك وحده كافٍ للمنع من استظهار إرادة النجاسة وتعيُّن حمل ما ورد من الأمر بغسل ما أصابته أبوال الدواب على الاستحباب والتنزُّه أو حمل مثل موثقة سماعة على التقيَّة.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

30 / شوال / 1443ه

31 / مايو / 2022م

---------------------------

1- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج3 / ص409.

2- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج3 / ص409.

3- الكافي -الكليني- ج3 / ص57، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج3 / ص407.

4- النهاية في مجرد الفقه والفتاوى -الطوسي- ص51. 

5- مجمع الفائدة والبرهان -الأردبيلي- ج1 / ص301.

6- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج5 / ص21. 

7- الاستبصار -الطوسي- ج1 / ص178، وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج3 / ص409.

8- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج1 / ص266، وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج3 / ص409.

9- الكافي -الكليني- ج3 / ص57، وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج3 / ص403.

10- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج1 / ص422، وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج3 / ص406.

11- الكافي -الكليني- ج3 / ص58، وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج3 / ص407.

12- الاستبصار -الطوسي- ج1 / ص180، وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج3 / ص410.

13- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج2 / ص383.