الوجهُ في الاكتفاء بالتسبيحات الأربع

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما هو وجه تعيُّن الاكتفاء بالتسبيحات الأربع مرَّة واحدة في الركعتين الأخيرتين رغم اختلاف الروايات في صور التسبيح وعدد المرَّات؟

 

الجواب:

الاكتفاء بالتسبيحات الأربع مرَّة واحدة هو ما يتبنَّاه الكثيرُ من الفقهاء بل قيل إنَّه الأشهر من الأقوال بل نُسب ذلك للمشهور(1)، وقد نصَّت عليه صحيحة زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (ع): مَا يُجْزِئُ مِنَ الْقَوْلِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأَخِيرَتَيْنِ؟ قَالَ: "أَنْ تَقُولَ سُبْحَانَ اللَّه، والْحَمْدُ لِلَّه، ولَا إِلَه إِلَّا اللَّه، واللَّه أَكْبَرُ، وتُكَبِّرُ وتَرْكَعُ"(2).

 

فهي صريحة في إجزاء هذا المقدار من التسبيحات، وعليه فالمتعيَّن حملُ ما دلَّ على الزيادة عن هذا المقدار على الندب، وحملُ الصُوَر الأخرى لو تمَّت سنداً ودلالةً على التخيير بينها وبين الكيفيَّة المذكورة في صحيحة زرارة.

 

اختلاف الكيفيَّات محمول على إجزاء كلٍّ منها:

وتفصيل ذلك: هو أنَّ عمدة الروايات المعتبرة التي تصدَّت لبيان ما هو الذكر الواجب في الركعتين الأخيرتين يُمكن تصنيفها إلى أربع طوائف مضافاً إلى الطائفة التي منها صحيحة زرارة المتقدِّمة:

 

الطائفة الأولى: دلَّت على كفاية ثلاث تسبيحات وهي قول: الحمدُ للَّه، وسبحان اللَّه، واللَّهُ أكبر، وقد نصَّت على ذلك صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) قال: إذا قمتَ في الركعتين الأخيرتين لا تقرأ فيهما، فقل: الحمد للَّه، وسبحان، اللَّه واللَّه أكبر"(3).

 

فهذه الصحيحة صريحة في إجزاء هذه الصورة، وهذا المقدار من التسبيحات، فهي من حيثُ الصورة مختلفة في التقديم والتأخير عن الصورة التي اشتملت عليها صحيحة زرارة، وهي من حيثُ المقدار قد اقتصرت على ثلاث تسبيحات في حين أنَّ صحيحة زرارة قد اشتملتْ على أربع تسبيحات.

 

ومقتضى الإطلاق في هذه الصحيحة -وكون الإمام (ع) في مقام بيان الوظيفة المقرَّرة في الركعتين الأخيرتين- هو التعيين، أي أنَّه لا يُجزي من التسبيح في الركعتين الأخيرتين إلا هذه الكيفيَّة، فيكون مقتضى الجمع العرفي بينها وبين صحيحة زرارة هو التخيير، وذلك برفع اليد عن الإطلاق المقتضي للتعيين في كلٍّ من الطائفتين.

 

فلأنَّ مقتضى الإطلاق في صحيحة زرارة هو أنَّ على المصلِّي في الركعتين الأخيرتين أنْ يقول: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلّا اللَّه، واللَّه أكبر، سواءً قال غيرها أو لم يقل وهو معنى التعيين. ولأنَّ مقتضى إطلاق صحيحة الحلبي هو أنَّ على المصلِّي في الركعتين الأخيرتين أنْ يقول: الحمد للَّه، وسبحان، اللَّه واللَّه أكبر سواءً قال غير ذلك أو لم يقل.

 

فإطلاق كلا الروايتين يقتضي تعيين الكيفيَّة المذكورة فيها، فيكون التعارض بينهما بالإطلاق، ولهذا يكون مقتضى الجمع العرفي هو رفع اليد عن الإطلاق في كلٍّ من الروايتين، فتكون النتيجة هي أنَّه لا يصحُّ للمصلِّي أنْ يأتي بغير الكيفيَّة الأولى إلا أنْ يأتي بالثانية، ولا يصحُّ له أنْ يأتي بغير الثانية إلا أنْ يأتي بالأولى، ومعنى ذلك هو تقييد كلٍّ من الروايتين بالأخرى وهو معنى التخيير بين الكيفيتين.

 

الطائفة الثانية: دلَّت على كفاية التسبيح والتحميد والاستغفار، ومقتضى ذلك أنْ يقول مثلاً: سبحان الله، والحمد لله، وأستغفر الله، وقد نصَّت على ذلك صحيحة عبيد بن زرارة قال: سألتُ أبا عبد اللَّه (عليه السلام) عن الركعتين الأخيرتين من الظهر، قال: "تُسبّح، وتحمد اللَّه، وتستغفر لذنبك، وإنْ شئت فاتحة الكتاب فإنَّها تحميدٌ ودعاء"(4).

 

فهذه الصحيحة ظاهرة في إجزاء التسبيح والتحميد والاستغفار بل لا يبعد ظهورها في كفاية التحميد والاستغفار كما هو مقتضى قوله: "وإن شئتَ فاتحة الكتاب فإنَّها تحميدٌ ودعاء" فإنَّ ظاهر هذه الفقرة هو أنَّه إنَّما صحَّ الاجتزاء بفاتحة الكتاب باعتبار اشتمالها على التحميد والدعاء فيكون ذلك مقتضياً لكفايتهما.

 

وكيف كان فمقتضى إطلاق هذه الصحيحة هو التعيين، فيكون مقتضى الجمع بينها وبين صحيحة زرارة المتقدمة وصحيحة الحلبي هو التخيير، فتكون النتيجة هي إجزاء كلٍّ من الصور الثلاث.

 

 

الطائفة الثالثة: دلَّت على كفاية التسبيح والتهليل والتكبير والدعاء، وقد نصَّت على ذلك صحيحة أخرى لزُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: "عَشْرُ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مِنَ الظُّهْرِ ورَكْعَتَانِ مِنَ الْعَصْرِ ورَكْعَتَا الصُّبْحِ ورَكْعَتَا الْمَغْرِبِ ورَكْعَتَا الْعِشَاءِ الآخِرَةِ لَا يَجُوزُ الْوَهْمُ فِيهِنَّ ومَنْ وَهَمَ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ اسْتِقْبَالاً وهِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّه عَزَّ وجَلَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقُرْآنِ وفَوَّضَ إِلَى مُحَمَّدٍ (ص) فَزَادَ النَّبِيُّ (ص) فِي الصَّلَاةِ سَبْعَ رَكَعَاتٍ، وهِيَ سُنَّةٌ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ إِنَّمَا هُوَ تَسْبِيحٌ وتَهْلِيلٌ وتَكْبِيرٌ ودُعَاءٌ، فَالْوَهْمُ إِنَّمَا يَكُونُ فِيهِنَّ .."(5).

 

 فهذه الصحيحة مختلفة عن صحيحة زرارة الأولى من حيث عدم اشتمالها على التحميد، وهي كذلك مختلفة عنها من حيث اشتمالها على الأمر بالدعاء.

 

وهي مختلفة عن صحيحة الحلبي من حيثُ التقديم والتأخير، ومختلفة عنها من جهة عدم اشتمال صحيحة الحلبي على التهليل والدعاء.

 

وكذلك هي تختلفُ عن صحيحة عبيد بن زرارة من حيثُ اشتمالها على التكبير والتهليل، فإنَّ صحيحة عبيد بن زرارة خالية من الأمر بذلك، وكذلك فإنَّ صحيحة عبيد عيَّنت الدعاء في الاستغفار دون غيره.

 

ومقتضى إطلاق صحيحة زرارة الثانية هو التعيين، فيكون مقتضى الجمع بينها وبين الطوائف الأخرى هو التخيير بين الكيفيَّة التي اشتملت عليها صحيحة زرارة والكيفيَّات التي اشتملت عليها الطوائف الأخرى.

 

الطائفة الرابعة: دلَّت على أنَّ الوظيفة المقرَّرة في الركعتين الأخيرتين هو تكرار التسبيحات الأربع ثلاثاً نصَّت على ذلك الرواية التي أوردها ابن إدريس في أول السرائر نقلا من كتاب حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) "أنه قال: لا تقرأنّ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئاً إماماً كنتَ أو غير إمام، قال قلت: فما أقول فيهما؟ قال: إذا كنت إماماً أو وحدك فقل: سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إلَه إلّا اللَّه واللَّه أكبر ثلاث مرات ثم تكبّر وتركع"(6).

 

ومقتضى هذه الرواية -لو تمَّت سنداً- هو تعيُّن تكرار التسبيحات الأربع -الواردة في صحيحة زرارة الأولى- ثلاث مرَّات، فيكون مقتضى الجمع العرفي بين هذه الرواية وبين صحيحة زرارة الأولى هو حمل الأمر بالتكرار على الاستحباب، إذ لا يصحُّ البناء على التخيير بين الأقل والأكثر مع اتِّحاد صورة الأقل مع صورة الأكثر.

 

هذا وقد أورد الشيخ الصدوق في الفقيه -ذات الرواية ظاهراً- بسندٍ صحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: "لا تقرأن في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئا إماما كنت أو غير إمام، قال: قلت فما أقول فيها؟ قال: إن كنت إماما أو وحدك فقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله "ثلاث مرات تكمله تسع تسبيحات ثم تكبر وتركع"(7).

 

وهي تختلف عن رواية ابن ادريس من جهة أنَّ التسبيحات التي يعتبر تكرارها ثلاث تسبيحات فيكون المجموع تسع تسبيحات وأما رواية ابن إدريس فالتسبيحات أربع فيكون المجموع اثني عشر تسبيحة وحيث أنَّ رواية ابن إدريس بحكم المرسلة فليس عندنا ما يمكن الاستناد إليه لإثبات اعتبار الاثني عشر تسبيحة ومع قطع النظر عن السند فإنَّه بعد استظهار اتِّحاد الروايتين يقع الشك فيما هو الصادر عن الإمام (ع) هل هو اعتبار تكرار التسبيحات الثلاث أو اعتبار تكرار التسبيحات الأربع، فالقدر المحرز هو الأمر بتكرار التسبيحات الثلاث، ولعلَّ ما يرجِّح رواية الصدوق أنَّ ابن إدريس نفسه قد أورد الرواية عن زرارة في المستطرفات بعين ما أورده الشيخ الصدوق(8).

 

ومع عدم القبول باتحاد الروايتين وبنينا على صدور كلٍّ منهما فالجمع العرفي بينهما يقتضي البناء على استحباب تكرار التكبير.

 

وكيف كان فبناءً على أنَّ الأمر بالتسبيحات التسع هو الصادر فإنَّ مقتضى الجمع بين رواية الصدوق والروايات الأخرى هو كفاية الاجتزاء بأيِّ كيفيَّة من الكيفيَّات التي نصَّت عليها الروايات المتقدِّمة، وبناءً على أنَّ الصادر هو التسبيحات الاثني عشر فإنَّ مقتضى الجمع العرفي هو حمل تكرار التسبيحات الأربع على الاستحباب.

 

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه هو صحَّة الاجتزاء بأيِّ كيفيَّة من الكيفيَّات التي نصَّت عليها الروايات المتقدِّمة -كما أفاد السيد الخوئي (رحمه الله)-(9) وإنْ كان الأحوط هو اعتماد التسبيحات الأربع وأحوط منه ضم الاستغفار وأحوط من كلِّ الإتيان بالتسبيحات الأربع ثلاث مرات مع ضمِّ الاستغفار.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

18 / ذو القعدة / 1443ه

18 / يونيو / 2022م

-------------------------

1- جواهر الكلام -النجفي- ج10 / ص34.

2- الكافي -الكليني- ج3 / ص319، وسائل الشيعة الحر العاملي- ج6 / ص109.

3- الاستبصار -الطوسي- ج1 / ص322، وسائل الشيعة الحر العاملي- ج6/ .

4- الاستبصار -الطوسي- ج1/ ص322، وسائل الشيعة الحر العاملي- ج6 / ص108.

5- الكافي -الكليني- ج3/ ص273، وسائل الشيعة الحر العاملي- ج6 / ص109.

6- السرائر -ابن إدريس- ج1 / ص219، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص166.

7- من لا يحضره الفقيه- الصدوق- ج1 / ص392، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص166.

8- مستطرفات السرائر -ابن إدريس- ص130، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص166.

9- المستند في شرح العرة الوثقى -السيد الخوئي- ج14 / ص468.