اعتبار القيام في الإقامة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل القيام شرطُ في الإقامة؟

 

الجواب:

المشهور بين الفقهاء هو أنَّ القيام ليس شرطاً في الإقامة وإنَّما هو مستحبٌّ فيها، بمعنى أنَّ القيام في الإقامة شرطُ كمالٍ وليس شرطَ صحَّة، فالإقامةُ عن قيامٍ أكملُ وأفضل إلا أنَّه ليس مُعتبراً في مشروعيتها وصحَّتها، فمن جاء بالإقامة دون قيامٍ فقد امتثل الأمر بالإقامة إلا أنَّه لم يأتِ بأكمل أفرادها، لأنَّ أكملَ أفرادها -بمقتضى الأمر بالقيام في الإقامة- هي الإقامة عن قيام، فالقيام مطلوبٌ في مطلوب، فالإقامةُ مطلوبةٌ في نفسها سواءً كانت عن قيام أو عن غير قيام، والقيامُ حال الإقامة مطلوبٌ آخر، وهذا هو معنى حمل الأمر بالقيام حال الإقامة على تعدُّد المطلوب.

 

هذا ما ذهبَ إليه مشهور الفقهاء رضوان الله عليهم، وفي مقابل مذهب المشهور ذهبَ عددٌ من الفقهاء إلى أنَّ القيام شرطٌ في الإقامة بمعنى أنَّ مَن جاء بالإقامة دون قيامٍ فإنَّه لم يمتثل الأمرَ بالإقامة، لأنَّ الإقامة المأمورَ بها هو الحصَّةُ الخاصَّة وهي الإقامةُ عن قيام.

 

مستند اعتبار القيام في الإقامة:

ومستندُ القائلين باعتبار القيام في الإقامة هو الروايات الواردة عن أهل البيت (ع):

 

منها: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال: "لا بأس للمسافرِ أنْ يؤذِّن وهو راكب، ويُقيم وهو على الأرض قائم"(1).

 

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم قال: "قلتُ لأبي عبد الله (ع) يؤذِّن الرجلُ وهو قاعد؟ قال: نعم، ولا يُقيم إلا وهو قائم"(2).

 

ومنها: موثَّقة أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (ع) "لا بأس أنْ تؤذِّن راكباً أو ماشياً أو على غير وضوء، ولا تُقِم وأنت راكب أو جالس إلا من علَّة أو تكون في أرضٍ ملصَّة"(3) أي ذات لصوص.

 

فهذه الروايات وكذلك غيرها ظاهرةٌ في الأمر بالقيام حال الإقامة، وليس في البين ما يُعارضُها، إذ لا تُوجد ولا رواية واحدة معتبرة أو ضعيفة -كما أفاد السيد الخوئي-(4) تنفي الأمرَ عن القيام حال الإقامة أو تُرخِّص في تركِه، لذلك فالمتعيَّن هو البناء على اعتبار القيام في الإقامة لظهور الأمر في الإرشاد إلى الشرطية كما هو الشأن في المركبات، ولأنَّ ذلك هو مقتضى إحراز أنَّ الأمر بالقيام في الإقامة ليس واجباً تكليفيَّاً فيتعيَّن أنَّه واجبٌ شَرْطي.

 

منشأ بناء المشهور على استحباب القيام في الإقامة:

هذا ولكن منشأ بناء المشهور على استحباب القيام في الإقامة وعدم اعتبار ذلك شرطاً في صحَّتها هو إطلاقات الأمر بالإقامة، فإنَّ مقتضاها هو أنَّ الإقامة مأمورٌ بها مطلقاً سواءً جيء بها عن قيام أو عن غير قيام، فالإقامةُ عن غير قيام مأمورٌ بها بمقتضي إطلاق الأمر بالإقامة، ومقتضى الأمر بها حتى دون قيام هو مشروعيتها وصحَّة الإتيان بها دون قيام.

 

وأمَّا الروايات التي أمرت بالقيام حال الإقامة فلا تصلحُ لتقييد إطلاقات الأمر بالإقامة، وذلك لأنَّ قاعدة حمل المطلق على المقيَّد غير جاريةٍ في باب المستحبَّات كما هو محرَّرٌ في الأصول، نعم لو جاء الأمر بالقيام في تمام نصوص الأمر بالإقامة لكان ذلك مقتضياً للبناء على أنَّ المأمور به ابتداءً هو حصَّة خاصَّة من الإقامة وهي الإقامة عن قيام إلا أنَّ الأمرَ ليس كذلك، فثمة أمرٌ بالإقامة، وثمة أمرٌ آخر بالإقامة عن قيام، لذلك يتعيَّن حملُ الأمر بالإقامة عن قيام على تعدُّد المطلوب وليس على تقييد الأمر المطلق بالإقامة على الأمر بالإقامة عن قيام لأنَّ قاعدة حمل المطلق المنفصل على المقيَّد لا تجري في باب المستحبَّات.

 

جواب السيد الخوئي:

وأجاب السيد الخوئي (رحمه الله) عن ذلك بأنَّ ما انتُصر به للمشهور يتمُّ في مثل صحيحة عبد الله بن سنان: "ويُقيم وهو على الأرض قائم" الظاهرة في الأمر بالقيام حال الإقامة فيُحمل على تعدُّد المطلوب، ولا يصلحُ لتقييد إطلاقات الأمر بالإقامة إلا أنَّ ذلك لا يتمُّ في مثل صحيحة محمد بن مسلم: "ولا يُقيم إلا وهو قائم" وكذلك في مثل موثقة أبي بصير: "ولا تُقِم وأنت راكب أو جالس" الظاهرتان في النهي عن الإقامة عن غير قيام، والنهي في المقام لا يُراد به الحرمة التكليفية قطعاً فيتعيَّن حمله على الحرمة التشريعيَّة بمعنى أنَّ الإقامة دون قيام ليس مأموراً بها، فلا تكون مشروعة، ومقتضى ذلك أنَّ المأمور به هو حصَّة خاصَّة من الإقامة وهي الإقامة عن قيام، وهذا هو معنى اشتراط القيام في الإقامة وأنَّه واجبٌ شَرْطي.

 

وبتعبير آخر: إنَّ حمل المطلق على المقيَّد وإنْ لم يكن جارياً في باب المستحبات إلا أنَّ ذلك في فرض عدم ظهور الخطاب بالمقيَّد في الحرمة التشريعيَّة، وحيث إنَّ الخطاب بالمقيَّد في المقام ظاهرٌ في الحرمة التشريعيَّة، نظراً لظهور النهي عن الإقامة دون قيامٍ في ذلك بعد الإقرار بعدم إرادة الحرمة التكليفيَّة لذلك يتعيَّن حملُ إطلاقات الأمر بالإقامة على الإقامة المقترنة بالقيام وأنَّ الإقامة دون قيام ليس مأموراً بها.

 

اعتبار الطهارة في الإقامة:

وينسحبُ الأمر على الإقامة دون طهارة فإنَّ عدداً من الروايات نهتْ عن الإقامة دون طهارة لذلك يتعيَّن حمل إطلاقات الأمر بالإقامة على الإقامة المقترنة بالطهارة بذات التقريب المتقدِّم.

 

ولعلَّ ممَّا يؤيد اعتبار الطهارة في الإقامة -كما أفاد السيد الخوئي-(5) ما ورد في صحيحة عليِّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال: سألتُه عن الرجل يُؤذِّن أو يُقيم وهو على غير وضوء، أيُجزيه ذلك؟ قال: أمَّا الأذان فلا بأس، وأما الإقامة فلا يُقيم إلا على وضوء، قلتُ: أقام وهو على غير وضوء أيصلِّي بإقامته؟ قال: لا"(6).

 

فإنَّه بعد نهي الإمام (ع) عن الإقامة دون طهارة سأله عليُّ بن جعفر عمَّا لو: "أقام وهو على غير وضوء أيصلِّي بإقامته" فأجابه الإمام بقوله: "لا" ومقتضى ذلك هو أنَّ الإقامة دون طهارة بمنزلة العدم لذلك نهى الإمام (ع) عن الاجتزاء بها.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

10 / ربيع الأول / 1444ه

7 / أكتوبر / 2022م

-----------------------------------

1- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج5 / ص402.

2- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج5 / ص402.

3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج5 / ص403.

4- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج13 / ص350.

5- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج13 / ص343.

6- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج5 / ص393.