رميُ المُحصَنات حدُّه وآثارُه

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي لَيْسَتْ فِي أَوَّلِيَّتِه نِهَايَةٌ، ولَا لآِخِرِيَّتِه حَدٌّ ولَا غَايَةٌ، الَّذِي لَمْ يَسْبِقْه وَقْتٌ ولَمْ يَتَقَدَّمْه زَمَانٌ، ولَا يَتَعَاوَرُه زِيَادَةٌ ولَا نُقْصَانٌ، الَّذِي بَطَنَ مِنْ خَفِيَّاتِ الأُمُورِ، وظَهَرَ فِي الْعُقُولِ بِمَا يُرَى فِي خَلْقِه مِنْ عَلَامَاتِ التَّدْبِيرِ، الَّذِي سُئِلَتِ الأَنْبِيَاءُ عَنْه فَلَمْ تَصِفْه بِحَدٍّ ولَا بِبَعْضٍ، بَلْ وَصَفَتْه بِفِعَالِه، ودَلَّتْ عَلَيْه بِآيَاتِه، الَّذِي نَأَى مِنَ الْخَلْقِ فَلَا شَيْءَ كَمِثْلِه، الَّذِي خَلَقَ خَلْقَه لِعِبَادَتِه وأَقْدَرَهُمْ عَلَى طَاعَتِه، وقَطَعَ عُذْرَهُمْ بِالْحُجَجِ، فَعَنْ بَيِّنَةٍ هَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وبِمَنِّه نَجَا مَنْ نَجَا، ولِلَّه الْفَضْلُ مُبْدِئاً ومُعِيداً، نَحْمَدُه بِجَمِيعِ مَحَامِدِه كُلِّهَا، عَلَى جَمِيعِ نَعْمَائِه كُلِّهَا، ونَسْتَهْدِيه لِمَرَاشِدِ أُمُورِنَا، ونَعُوذُ بِه مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، ونَسْتَغْفِرُه لِلذُّنُوبِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنَّا، ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وأَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه بَعَثَه بِالْحَقِّ نَبِيّاً، دَالاًّ عَلَيْه وهَادِياً إِلَيْه، فَهَدَى بِه مِنَ الضَّلَالَةِ واسْتَنْقَذَنَا بِه مِنَ الْجَهَالَةِ.

 

أُوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى اللهِ، واعلموا أنَّ منَ الحزمِ أنْ تتقوا الله. وإنَّ من العصمةِ ألا تَغترُّوا باللهِ. عبادَ الله إنَّ أنصحَ الناسِ لنفسِه أطوعُهم لربِّه، وأغشَّهم لنفسِه أعصاهُم لَه. عبادَ الله إنَّه مَن يُطعِ اللهَ يأمنْ ويستبشرْ، ومن يعصِه يَخِبْ ويندمْ ولا يسلمْ، عبادَ الله سلوا اللهَ اليقينَ، فإنَّ اليقينَ رأسُ الدينِ وارغبوا إليه في العافيةِ، فإنَّ أعظمَ النعمةِ العافيةُ، فاغتنموها للدنيا والآخرةِ، وارغبوا إليه في التوفيقِ، فإنَّه أُسٌّ وثيقٌ.

 

 يقول الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾(1).

 

الآيةُ المباركةُ من سورة النور متصدِّيةٌ للنهيِّ المشدَّدِ عن قذفِ المُحصناتِ بالفجور، فقد توعَّدت المجترحَ لهذه المُوبِقةِ باللَّعنِ في الدنيا واللَّعنِ في الآخرة، وتوعَّدته بعذابٍ وصفته بالعظيم، وأفادتْ أنَّه لا يسعُ المجترِح لهذا الذنبِ أن يُنكرَ يومَ القيامة اقترافَه له، فلو أنكر أو حدَّث نفسه بالإنكار فسوفَ يُشهدُ اللهُ تعالى عليه لسانَه ويديه ورجليه، كلُّ ذلك للتعبير عن خطورة هذا الذنبِ وعظيمِ مقتِ الله تعالى له.

 

عقوبةُ القذف ذاتها عقوبةُ الإيذاء لله وللرسول (ص):

واللافتُ أنَّ اللهَ جلَّ وعلا قد ساوى في الوعيد باللَّعن في الدنيا والآخرة بين مَن يُؤذي اللهَ ورسولَه (ص) وبين مَن يرمي المُحصنات، ففي سورة الأحزاب يقولُ الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾(2) وفي ذلك مؤشِّرٌ بيِّنٌ على شدَّةِ المقتِ الإلهي لجريرة القذفِ للمحصنات، إذ أنَّ الإيذاء لله تعالى ورسولِه (ص) من أقبحِ الظلم وأعظمِ الكبائر، فإذا ساوى اللهُ تعالى بين عقوبتِه وعقوبةِ القذف للمُحصنات كشفَ ذلك عن مرتبةِ هذا الذنب وأنَّه يقعُ في رتبة الذنوبِ المعبَّرِ عنها بأكبرِ الكبائر.

 

قذفَ مُحصنةٍ يُحبِطُ عبادةَ مائةِ سنة:

ومِن ذلك نفهمُ مفادَ الحديثِ الشريف المرويِّ عن الرسولِ الكريم (ص) أنَّ: "قذفَ مُحصنةٍ يُحبِطُ عبادةَ مائةِ سنة"(3).

 

أي أنَّه لو تمَّتْ الموازنة بين العقوبةِ المترتِّبة على قذفِ مُحصنةٍ واحدةٍ وبين الثواب المترتِّبِ عن عبادةِ مائة سنة لرجُحت كفَّةُ العقوبة، فعبادةُ مائةِ سنة لا تشفعُ في درءِ عقوبةِ قذفِ محصنةٍ واحدة، فالمعصيةُ لا تُحبِطُ الطاعة كما هو الصحيح عندنا -نحن الإماميَّة-، ولكنَّ الطاعةَ قد لا تُجدي في تكفير المعصيةِ حينما تكونُ المعصيةُ أبلغَ وأشدَّ خطراً من أثرِ الطاعة.

 

إذن فرميُ المحصنات الذي قد نتساهلُ في شأنِه فنُطلقُه لمجرَّد الظنِّ والحدسِ بل قد نُطلقه لأدنى شبهة، هذا السلوك المَشين يكون سبباً بمقتضى الآيةِ الشريفة لاستحقاق اللَّعنِ والطردِ من رحمةِ الله تعالى في الدنيا والآخرة، ولا تُجدي معه عبادةٌ ولو امتدتْ لمائةِ سنة بمقتضى الحديثِ الشريف.

 

حدُّ القذف للمُحصنات:

هذا وقد تصدَّت آيةٌ أُخرى من سورة النور أيضاً لبيان ما يترتَّبُ على رمي المُحصنات من جزاءٍ في الدنيا قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(4).

 

فجزاءُ مَن يقذفُ محصنةً بحسب الآيةِ الشريفة هو أنْ يُجلدَ بالسياط ثمانينَ جلدة، ثم لا تُقبلُ له شهادةٌ أبداً في شأنٍ من الشؤون خطيرٍ أو حقير، وبذلك يكونُ منبوذاً ومحكوماً بالكذبِ في كلِّ ما يُخبرُ عنه، والعقوبةُ الثالثة هي تصنيفُه في زمرة الفاسقين إلى أنْ يموت إلا أنْ يتداركَه اللهُ تعالى برحمتِه فيصدقُ في توبتِه كما قال تعالى في ذيل هذه الآية: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(5). وتوبتُه المصحِّحة لقبول شهادتِه وخروجِه عن زمرة الفاسقين لا تتحقَّق إلا بتكذيبِ نفسِه فيما كان قد افتراه كما وردَ ذلك عن أبي عبد الله (ع) في معتبرة سماعة حيثُ سألَه عن قولِه تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُو﴾ كيف تُعرفُ توبتُهم؟ فقال (ع): "يُكذِّبُ نفسَه على رؤوس الناس حتى يُضربَ، ويَستغفرُ ربَّه، فإذا فعل ذلك فقد ظهرت توبتُه"(6).

 

وهنا تجدرُ الاشارة إلى عددٍ من الأمور يتَّضح بها مفادُ الآية المباركة من سورة النور:

 

تحديد المراد من المُحصنات:

الأمر الأول: هو أنَّ المراد من المُحصنات في الآية المباركة هو العفيفات من النساء سواءً كنَّ متزوِّجاتٍ أو كنَّ من غير ذوات الأزواج، فإنَّ كلمة الإحصان والمُحصنات في القرآن الكريم استُعملت في معانٍ أربعة منها المتزوِّجات، ومنها المسلمات في مقابل الكافرات، ومنها الحرائر في مقابل الإماء، ومنها العفيفاتُ من النساء سواءً كنَّ متزوِّجات أو كنَّ من غير ذوات الأزواج، وهذا المعنى هو المراد من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ فالمراد من المُحصنات في هذه الآية هو ذاتُه المراد من المحصنات في قولِه تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾(7) فالمُحصنة التي يسوغُ نكاحاها إنَّما هي غير المتزوجة، وكذلك هو المرادُ من قوله تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾(8) فمعنى الإحصان هو العفَّة فهي مُحصنة ولم تكن متزوِّجة.

 

ومن ذلك يتَّضح أنَّ حدَّ القذف يثبتُ على كلِّ مَن قذفَ امرأةً بالفجور سواءً كانت هذه المرأةُ متزوِّجة أو كانت غير متزوِّجة، وسواءً كانت كبيرةً أو صغيرةً، فكلُّ هؤلاء يدخلنَ تحت عنوان المُحصنات.

 

قذف مطلق المسلم موجب للحدِّ: 

الأمر الثاني: إنَّ حدَّ القذف لا يختصُّ برمي المحصنةِ بالفجور بل يثبت هذا الحدُّ على كلِّ من رمى مسلماً بالفجور سواءً كان رجلاً أو امرأة، ويُؤيِّد ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(9) فإنَّ المستظهَر من الآية أنَّ المراد من عذاب الدنيا في الآية هو الحدُّ المقرَّر، على أنَّ مما يُستدلُّ به على استحقاق مَن قذف مسلماً بالفجور للحدِّ -مضافاً للتسالم بين الفقهاء- الكثيرُ من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع)، منها ما ورد في معتبرة بكير عن أحدهما ( ع ) أنَّه قال: "مَن افترى على مسلمٍ ضُرب ثمانين"(10).

 

النهي عن قذف غير المسلم:

بل ورد النهيُ عن قذفِ مَن ليس على دين الإسلام، فمِن ذلك ما ورد في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ع): "أنّه نهى عن قذف مَن كان على غير الاسلام إلاّ أنْ تكون قد اطلعتَ على ذلك منه"(11).

 

ومَّما ورد في ذلك معتبرة أَبِي الْحَسَنِ الْحَذَّاءِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَسَأَلَنِي رَجُلٌ مَا فَعَلَ غَرِيمُكَ؟ قُلْتُ: ذَاكَ ابْنُ الْفَاعِلَةِ فَنَظَرَ إِلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) نَظَراً شَدِيداً قَالَ: فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّه مَجُوسِيٌّ أُمُّه أُخْتُه فَقَالَ: أولَيْسَ ذَلِكَ فِي دِينِهِمْ نِكَاحاً".(12) فالإمام (ع) قد استنكر على أبي الحسن الحذاء نسبته الفجور إلى والدة المجوسي رغم أنَّ المجوسي وأمَّه كافران.

 

ويُؤيد الحرمة لقذف الكافر أيضاً ما ورد في مرسلة يونُس ( رحمه الله) عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: "كلُّ بالغٍ من ذكرٍ أم أنثى افترى على صغيرٍ أو كبيرٍ أو ذكرٍ أو أنثى أو مسلمٍ أو كافرٍ أو حرٍّ أو مملوكٍ فعليه حدُّ الفِرية، وعلى غير البالغ حدُّ الأدب"(13) أي أنَّه يُعزَّر فيُضرَبُ دون الحدِّ.

 

الحدُّ يثبت بالقذف بمطلق الفاحشة:

الأمر الثالث: إنَّ حدَّ القذف لا يثبتُ برمي المسلم رجلٍ أو امرأة بالزنا وحسب بل يثبتُ برميه بمُطلق الفاحشة، ويُؤيِّد ذلك قولُه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(14) فالرميُ بمُطلق الفاحشة موجبٌ لاستحقاق العذاب في الدنيا والآخرة، والرمي بالفاحشة أوسعُ من الزنا كما يقتضي ذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ / إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾(15). فالآيةُ قد أطلقت لفظ الفاحشة على ما كان يقترفُه قومُ لوط (ع)، وعليه فحدُّ القذف يثبتُ بالرمي بمُطلق الفاحشة الأعم من الزنا كما نصَّت على ذلك الرواياتُ الواردة عن أهل البيت (ع) كرواية عَبَّادٍ الْبَصْرِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (ع) قَالَ: إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَقَالَ إِنَّكَ لَتَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ .. قَالَ (ع): "يُجْلَدُ حَدَّ الْقَاذِفِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً"(16).

 

حكمُ مَن قذف جماعة دون تسميتهم:

بل إنَّ حدَّ القذف يثبتُ على مَن قذفَ جماعةً دون أنْ يُسمِّي كلَّ واحدٍ منهم باسمه كما لو قال لجماعةٍ يا أبناء الفاعلة أو وصفهم جميعاً بالزناة، ويدلُّ على ذلك عددٌ من الروايات المعتبرة مثل معتبرة الحسن العطار قال: قلتُ: لأبي عبد الله (ع): رجلٌ قذفَ قوماً، قال: بكلمة واحدة؟ قلتُ: نعم، قال: "يُضرب حدَّاً واحداً، فإنْ فَرّقَ بينهم في القذف ضُربَ لكلِّ واحدٍ منهم حدّاً"(17).

 

وورد في صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (ع) قال: سألتُه عن رجلٍ افترى على قوم جماعة، قال: "إنْ أتوا به مجتمعين ضُرب حدّاً واحداً وإنْ أتوا به متفرِّقين ضُرب لكلٍّ منهم حدّاً"(18).

 

وورد في موثقة سماعة عن أبي عبد الله (ع) قال: "قضى أميرُ المؤمنين (ع) في رجلٍ افترى على نفرٍ جميعاً فجلده حدّاً واحداً"(19). لأنَّهم -ظاهراً- طالبوا بحقِّهم مجتمعين.

 

الفرية بغير الفاحشة توجبُ التعزير:

الأمر الرابع: إنَّ حرمة الفِرية على المؤمن لا تختصُّ برميه بالفاحشة فحتى لو رماه بما دون الفاحشة أو عرَّض به دون أنْ يُصرِّحَ فإنَّه يكون قد ارتكب إثماً واجترح معصيةً كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾(20).فهو مستحقٌّ للإثم بل ومستحقٌّ للعقوبة في الدنيا، نعم لا يثبتُ عليه بذلك حدُّ القذف ولكنَّه يُعزَّرُ بما دون الحدِّ، وقد نصَّت على ذلك رواياتٌ مستفيضةٌ عن أهل البيت (ع):

 

منها: صحيحة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّه قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ رَجُلٍ سَبَّ رَجُلاً بِغَيْرِ قَذْفٍ يُعَرِّضُ بِه هَلْ يُجْلَدُ؟ قَالَ عَلَيْه تَعْزِيرٌ"(21). أي أنَّه يؤدَّبُ بما دون الحدِّ، وهذا هو معنى التعزير.

 

ومنها: ما ورد في رواية النُّعْمَانِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه الصادق (ع) عَنْ رَجُلٍ قَالَ لآِخَرَ يَا فَاسِقُ قَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْه ويُعَزَّرُ"(22). وكذلك لو قال له: أنت خبيث أو أنت خنزير فإنَّه يكون بذلك مستحقَّاً للتعزير كما في رواية جرَّاح المدائني عن أبي عبد الله (ع) (23).

 

"إذا اتَّهم المؤمنُ أخاه انماث الإيمانُ مِن قلبِه ..":

وأختم الحديثَ بالتذكير بما رُوي عن الإمام الصادق (ع) قال: "إذا اتَّهم المؤمنُ أخاه انماث الإيمانُ مِن قلبِه كما ينماثُ الملحُ في الماء"(24).

 

أي أنَّه إذا اتَّهم المؤمنُ أخاه عرَّض إيمانه للتلاشى والزوال، فإنَّ الملحَ إذا سلطتَ عليه الماءَ تبدَّدتْ أجزاؤه وذرَّاته حتى ينمحي أثرُها بعد أنْ كان له كيانٌ مستقل قابلٌ للرؤية واللَّمس، فهو يُصبحُ بعد تسليط الماءِ عليه غائباً بعد أن كان مشهوداً، ثم إنَّ الإمام (ع) -بحسب الرواية- أفاد بأنَّ الايمانَ ينماثُ من قلبِ المؤمنِ ولم يقل في قلبِه، فالملحُ عندما تضعُه في كوزِ الماء فإنه يذوب في الماء فتخفى صورتُه ولكنَّ أثرَه يظلُّ باقياً، وأمَّا إذا سلطتَ الماء على الملح الكائن في إناء مسطحٍ أو مثقوب فإنَّه يذوبُ أولاً ويتبدَّدُ ثم يتلاشى، فلا يبقى له من أثرٍ يُذكر، وهذه هي الصورة التي أراد الإمام (ع) التنظيرَ بها، فاتَّهامُ المؤمن لأخيه يُنتجُ زوالَ الإيمان مِن القلب، فهو يذوبُ أولاً ثم يتبدَّدُ ويتبعثرُ ثم يتسرَّبُ من القلب كما يتسرَّبُ الملحُ من الإناء المثقوبِ بفعل الماء، فيخلو القلبُ من الايمان، والإيمانُ حياةُ القلوب، فإذا خلا منه القلبُ أصبح ميتاً، وحينذاك فلينتظرِ الشقاءَ وسوءَ العاقبة.

 

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾.

 

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

22 من ربيع الثاني 1444هـ - الموافق 18 نوفمبر 2022م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

--------------------------------------

1- سورة النور / 23.

2- سورة الأحزاب / 57.

3- مستدرك الوسائل -النوري- ج18 / ص90.

4- سورة النور / 4.

5- سورة النور / 4.

6- الكافي -الكليني- ج7 / ص241.

7- سورة النساء / 25.

8- سورة التحريم / 12.

9- سورة النور / 19.

10- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 28 / ص182.

11- الكافي -الكليني- ج7 / 240.

12- الكافي- الكليني- ج7 / 240.

13- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 28 / ص186.

14- سورة النور / 19.

15- سورة الأعراف / 80، 81.

16- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 28 / ص177.

17- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 28 / ص192.

18-وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 28 / ص192.

19- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 28 / ص193.

20- سورة الأحزاب / 58.

21- الكافي -الكليني- ج7 / ص240.

22-الكافي -الكليني- ج7 / ص242.

23- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج28 / ص203.

24- الكافي -الكليني- ج2 / ص361.

25- سورة الكوثر / 1-3.