الحداد الواجب على المعتدَّة عدَّة الوفاة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

المعروف بين الفقهاء وجوب الحداد على المرأة المتوفَّى عنها زوجُها مدَّة العدة، فما هو المراد من الحداد الذي يجب على المعتدَّة عدَّة الوفاة الالتزام به؟

الجواب:

القدر المتيقَّن ممَّا يجبُ على المعتدَّة ومستندُه:

القدر المتيقَّن ممَّا يجبُ على المعتدَّة عدَّة الوفاة أنْ تُحِدَّ به على زوجها هو ترك التزيُّن بما يُتزيَّن به عرفاً كاستعمال الكحل والطيب والأصباغ والخضاب ولبس الحُليِّ والثياب الملوَّنة التي تُعدُّ بنظر العرف من الزينة، فذلك هو المتفاهم عرفاً من عنوان الحداد المأخوذ في الروايات وهو المنصوص عليه بعنوانه أو بما يتضمَّنه، فمِن ذلك:

معتبرة ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُ عَنِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَقَالَ: "لَا تَكْتَحِلُ لِلزِّينَةِ، ولَا تَطَيَّبُ، ولَا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً، ولَا تَبِيتُ عَنْ بَيْتِهَا وتَقْضِي الْحُقُوقَ وتَمْتَشِطُ بِغِسْلَةٍ"(1)

ومنه: معتبرة أَبِي الْعَبَّاسِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَالَ: لَا تَكْتَحِلُ لِلزِّينَةِ ولَا تَطَيَّبُ ولَا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً ولَا تَخْرُجُ نَهَاراً ولَا تَبِيتُ عَنْ بَيْتِهَا قُلْتُ: أرَأَيْتَ إِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى حَقٍّ كَيْفَ تَصْنَعُ ؟ قَالَ: تَخْرُجُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ وتَرْجِعُ عِشَاءً"(2)

ومنه: معتبرة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا أيَصْلُحُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ أَوْ تَعُودَ مَرِيضاً قَالَ: نَعَمْ تَخْرُجُ فِي سَبِيلِ اللَّه، ولَا تَكْتَحِلُ ولَا تَطَيَّب"(3)

ومنه: معتبرة زُرَارَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَطَيَّبَ ولَا تَزَيَّنَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وعَشَرَةُ أَيَّامٍ"(4)

ومنه : معتبرة أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُه عَنِ الْمَرْأَةِ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وتَكُونُ فِي عِدَّتِهَا أتَخْرُجُ فِي حَقٍّ ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ نِسَاءِ النَّبِيِّ (ص) سَأَلَتْه فَقَالَتْ: إِنَّ فُلَانَةَ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَتَخْرُجُ فِي حَقٍّ يَنُوبُهَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّه (ص): أُفٍّ لَكُنَّ، قَدْ كُنْتُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُبْعَثَ فِيكُنَّ وأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْكُنَّ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَخَذَتْ بَعْرَةً فَرَمَتْ بِهَا خَلْفَ ظَهْرِهَا ثُمَّ قَالَتْ لَا أَمْتَشِطُ ولَا أَكْتَحِلُ ولَا أَخْتَضِبُ حَوْلاً كَامِلاً، وإِنَّمَا أَمَرْتُكُنَّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وعَشْراً ثُمَّ لَا تَصْبِرْنَ، لَا تَمْتَشِطُ ولَا تَكْتَحِلُ ولَا تَخْتَضِبُ ولَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا نَهَاراً ولَا تَبِيتُ عَنْ بَيْتِهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه فَكَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَهَا حَقٌّ؟ فَقَالَ: تَخْرُجُ بَعْدَ زَوَالِ اللَّيْلِ وتَرْجِعُ عِنْدَ الْمَسَاءِ فَتَكُونُ لَمْ تَبِتْ عَنْ بَيْتِهَا قُلْتُ لَه: فَتَحُجُّ قَالَ: نَعَمْ"(5) 

ومنه: رواية زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: إِنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا يَعْنِي وهُوَ غَائِبٌ فَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِه فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وعَشْراً لأَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تُحِدَّ عَلَيْه فِي الْمَوْتِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْراً فَتُمْسِكَ عَنِ الْكُحْلِ والطِّيبِ والأَصْبَاغِ"(6)

ومنه: رواية عَبْدِ اللَّه بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أتَخْرُجُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا وأُمِّهَا مِنْ بَيْتِهَا إِنْ شَاءَتْ فَتَعْتَدُّ؟ فَقَالَ: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا اعْتَدَّتْ وإِنْ شَاءَتِ اعْتَدَّتْ فِي أَهْلِهَا، ولَا تَكْتَحِلُ ولَا تَلْبَسُ حُلِيّاً"(7)

حدود النهي عن الاكتحال:

هذه هي بعض الروايات التي تصدَّت لبيان ما تُحِدُّ به المرأة على زوجِها حال اعتدادها منه عدَّة الوفاة، فقد نصَّت هذه الروايات على الكحل والطيب والأصباغ والخضاب والحُلي والثياب المصبوغة، نعم قيَّدت معتبرة ابن أبي يعفور وكذلك معتبرة أبي العباس النهي عن الاكتحال بما إذا كان للزينة، وذلك وإنْ لم يكن له مفهوم يقتضي تقييد الروايات التي أطلقت النهي عن استعمال الكحل إلا أنَّ المستظهَر عرفاً من النهي عن الكحل هو النهي عن التزيُّن به أو قل إنَّ المستظهَر من النهي عن استعمال الكُحل هو ما يُعدُّ استعمالُه من الزينة، فالإطلاق غيرُ منعقدٍ من أول الأمر، ولذلك لا تكون الروايات ظاهرةً في النهي عن استعمال الكحل للعلاج مثلاً إذا لم يُعتبر من التزيُّن عرفاً، وأمَّا مع اعتباره عرفاً من التزيُّن فإنَّه يكون مشمولاً للنهي وإنْ كان لغرض العلاج ، إذ أنَّ التزيُن ليس من الأفعال القصديَّة، نعم يسوغُ استعماله للعلاج في فرض الاضطرار .  

النهي عن الامتشاط بغِسلة:

 هذا وقد نهت معتبرة أبي بصير عن الامتشاط لكنَّ معتبرة ابن أبي يعفور قيَّدت النهي عنه بغِسلة بكسر الغين: "وتَمْتَشِطُ بِغِسْلَةٍ" والمرادُ من الغِسْلة كما في لسان العرب: هو ما تجعله المرأَة في شعرها عند الامتشاط، والغِسْلة: الطيب يقال : غِسْلةٌ مُطَرّاة، ولا تقل غَسْلة، وقيل: هو آسٌ يُطَرَّى بأَفاوِيه من الطيب يُمْتَشط به"(8)  

وفي كتاب المخصص لابن سيدة قال: " والغِسْلة ما يُغْسَل به الرأسُ من خِطْمِيٍّ ونحوه"(9) 

وفي القاموس المحيط للفيروز آبادي قال: "والغسلة بالكسر: الطيب وما تجعله المرأة في شعرها عند الامتشاط، وما يغسل به الرأس من خطمي ونحوه كالغسل بالكسر وورق الآس"(10)

وعليه فهل يتعيَّن تقييد معتبرة أبي بصير بما ورد في معتبرة ابن أبي يعفور من النهي عن الامتشاط بغِسلة؟

والجواب أنَّه لا تصلحُ للتقييد، إذ لا تنافيَ بين النهي عن الامتشاط بغِسلة والنهي عن الامتشاط مطلقاً إلا أنَّه لا ظهور لمعتبرة أبي بصير في الإطلاق بل المستظهر منها أنَّ المنهيَّ عنه فيها هو الامتشاط المُنافي للحداد والذي يُعدُّ عرفاً من التزيُّن، فكونُ الرواية بصدد بيان ما به يتحقَّق الحداد يكون بنفسِه قرينةً على عدم إرادة الإطلاق وأنَّ المنهيَّ عنه إنَّما هو الامتشاط المعدُّ عرفاً من التزيُّن، وأما مجرد التسريحِ للشعر وترجيلِه إذا لم يكن بالكيفيَّة التي يُتزيَّن بها فإنَّه لا ظهور لمعتبرة أبي بصير في النهي عنه، نعم الامتشاط بالكيفيَّة التي تُعدُّ من التزيُّن عرفاً تكون مشمولةً للنهي وإنْ لم يكن الامتشاط بغِسلة أو بغيره من أنواع الطيب.  

حكم الخروج من البيت في ظرف العدَّة:

ثم إنَّه هل يحرم على المعتدَّة عدَّة الوفاة الخروج من بيتها مدَّة العدَّة إلا للحج أو لأداء حقٍّ ويكون ذلك نهاراً ؟

مقتضى ظاهر عددٍ من الروايات المتقدِّمة ذلك إلا أنَّ ثمة رواياتٍ أخرى دلَّت على جواز الخروج مطلقاً، فمن ذلك موثقة ابْنِ بُكَيْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الَّتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا أتَحُجُّ قَالَ: نَعَمْ وتَخْرُجُ وتَنْتَقِلُ مِنْ مَنْزِلٍ إِلَى مَنْزِل" (11)

وعليه فمقتضى الجمع – كما أفاد صاحب الجواهر واستظهره من كلمات الأصحاب(12)- بين الموثقة والروايات السابقة هو البناء على كراهة الخروج في ظرف العدَّة إلا للحجِّ أو في سبيل الله كفعل بعض الطاعات أو لأداء حقِّ فإنَّ الكراهة تنتفي في هذا الفروض، وفيما عداها يكون الخروجُ مكروهاً وليس محرَّماً.

وكذلك تنتفي الكراهة في فرض الخروج لقضاء الحاجة وإنْ لم تبلغْ حدَّ الضرورة كما هو مقتضى الإطلاق في صحيحة محمد بن الحسن الصفار كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام " في امرأةٍ مات عنها زوجُها وهي في عدَّةٍ منه، وهي محتاجةٌ لا تجدُ مَن يُنفق عليها، وهي تعملُ للناس هل يجوز لها أنْ تخرجَ وتعملَ وتبيتَ عن منزلها للعمل والحاجةِ في عدَّتها ؟ قال: فوقع عليه السلام لا بأس بذلك إنْ شاء الله "(13)

فإنَّ الحاجة للعمل تصدقُ حتى لو لم تصل حدَّ الضرورة خلافاً لما أفاده صاحب الحدائق(14)- ، فنفي البأس عن الخروج والمبيت لمجرَّد الحاجة نصٌّ في الجواز وظاهرٌ في انتفاء الكراهة بمقتضى الجمع بين الصحيحة والروايات السابقة التي نهتْ عن الخروج في ظرف العدَّة

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

7 ديسمبر 2022م

12 جمادى 1444ه

------------------------------

1-الكافي – الكليني- ج6/ 116.

2- الكافي – الكليني- ج6/ 116

3- الكافي – الكليني- ج6/ 117

4-الكافي – الكليني- ج6/ 117.

5- الكافي – الكليني- ج6/ 117.

6-  الكافي – الكليني- ج6/ 112.

7-الكافي – الكليني- ج6/ 116.

8-لسان العرب – ابن منظور- ج11/ 494.

9-المخصص – ابن سيدة- ج5/ 180.

10-القاموس المحيط – الفيروز آبادي- ج4/ 24.

11-الكافي – الكليني- ج6/ 116.

12- جواهر الكلام - الشيخ حسن النجفي- ج32/ 279.

13-من لا يحضره الفقيه – الصدوق- ج3/ 508. وسائل الشيعة – الحر العاملي- ج22/  246.

14-الحدائق الناضرة- الشيخ يوسف البحراني- ج25/ 471.