الهادي(ع): "الحسدُ ماحقُ الحسنات"

 

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربِّ العالمين أَهْلَ الكِبْرِياءِ وَالجُودِ، يا مَنْ لايُكَيَّفُ بِكَيْفٍ وَلايُؤَيَّنُ بِأَيْنٍ، يا مُحْتَجِباً عَنْ كُلِّ عَيْنٍ، يا دَيْمُومُ يا قَيُّومُ وَعالِمَ كُلِّ مَعْلُومٍ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَعَلى عِبادِكَ المُنْتَجَبِينَ، وَبارِكْ لَنا فِي شَهْرِنا هذا المُرَجَّبِ المُكَرَّمِ وَما بَعْدَهُ مِنَ الاَشْهُرِ الحُرُمِ وَأَسْبِغْ عَلَيْنا فِيهِ النِّعَمَ، وَأَجْزِلْ لَنا فِيهِ القِسَمَ، وَأَبْرِزْ لَنا فِيهِ القَسَمَ بِاسْمِكَ الأعْظَمِ الأعْظَمِ الأَجَلِّ الأَكْرَمِ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.

 

يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(1) حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليها، والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوَّدوا وتأهبوا قبل أن تُبعثوا.

 

أعظم اللهُ أجورَكم بذكرى استشهاد أبي الحسن الإمام عليِّ بن محمدٍ التقيِّ الهاديِّ صفيِّ الله ونجيبِه وحجَّتِه على خلقِه الذي اجتباه من عباده، واختاره دليلاً على دينِه وهادياً إلى مرضاته.

 

وأستثمر هذه المناسبة الجليلة لأقفَ معكم على واحدٍ من غُرر حِكمِه المأثورةِ عنه قال (ع) فيما أُثرَ عنه: "الحسدُ ماحقُ الحسنات، والزهْوُ جالبُ المَقْتِ، والعُجْبُ صارفٌ عن طلبِ العلم داعٍ إلى التخبّط في الجهل، والبخلُ أذمُّ الأخلاقِ، والطمَعُ سجيّةٌ سيّئة"(2).

 

الروايةُ الشريفة متصدِّيةٌ في معظمِ فقراتِها لبيانِ بعضِ الآثارِ السيئةِ والممقوتة المترتِّبةِ عن عددٍ من الصفاتِ والخصالِ الذميمة، وهي الحسدُ، والزهْوُ، والعجبُ، والبخل، والطمعُ. فقد أفاد(ع) أنَّ الحسدَ يمحقُ الحسنات، والزهوَ يجلبُ المَقت، والعجبَ بالنفسِ يصرفُ عن طلبِ العلم، ويبعثُ على التخبٌّط في الجهل، والبُخلَ طبيعةٌ مذمومة يستهجنُها الأسوياء، والطمَعَ سجية تعودُ بالسوءِ والوبالِ على واجدِها. 

 

أنجعُ وسائلِ العلاج للأمراض النفسانيَّة:

فالوسيلةٌ التي اعتمدَها الإمامُ (ع) –بحسب الرواية– في معالجةِ الابتلاء بهذه الصفات هي مِن أنجع وسائلِ العلاج لهذه الأمراض النفسانيَّة، فإنَّ النفسَ إذا استحضرتْ العاقبةَ الممقوتة المترتِّبة عن صفةٍ أو سجيَّةٍ من السجايا فإنَّ ذلك قد يدفعُها للعمل على التخلُّص منها حذراً من الوقوع في تلك العاقبةِ الممقوتة.

 

كما أنَّ من طبيعة الخصال النفسانية السيئة أنَّها تكونُ متناغمةً مع النفسِ وتبدو وكأنَّها الوسيلةُ لحماية الأغراض الشخصية، وذلك هو ما يُوجبُ الغفلةَ عن التبعاتِ الممقوتة المترتِّبة عنها، ويمنعُ من الرغبة في التخلُّص من هذه الخصال بل قد يبعثُ على الرغبة في التحفظ عليها لكونها الوسيلةَ -في وهم النفس- لحماية الأغراض الشخصية، ولذلك فإنَّ العمل على استحضار الآثار والعواقب الوخيمة والممقوتة للسجايا والصفات السيئة هو الطريقُ المُفضي ليقظةِ النفس وانتفاءِ رغبتها في التحفُّظ على هذه الخصال بل إنَّ استحضارَ الآثار الممقوتة يُسهمُ في النفورِ من هذه الخصال، وهو ما قد يدفعُ للعمل على التخلُّص منها، ولعلَّه لذلك تصدى الإمام (ع) للإشارة إلى الآثار والتبعات الممقوتة للخصال التي ذكرها.

 

بدأ الإمامُ (ع) بالحسد وهو مِن أسوأ الأدواءِ والأمراض النفسانيَّة كما أفاد أميرُ المؤمنين (ع) أنَّ: "الحسدَ شرُّ الأمراض"(3) فهو من أشدِّها فتكاً بالإنسان، وهو في ذاتِ الوقت من أشدِّ الأمراض فتكاً بدينِ الإنسان.

 

الحسدُ من أشدِّ الأمراض فتكاً بالإنسان:

أمَّا أنَّها من أشدَّ الأمراضِ النفسيَّة فتكاً بالإنسان نفسِه فلأنَّ المُبتلى بداءِ الحسد يُزعجُه شديداً أنَّ يرى محسودَه يرفُلُ في خيرٍ أو ينعَمُ بعافيه، فإذا كثر مَن يحسدُهم كما هي طبيعة المُبتلى بهذا الداء فإنَّه لا يكادُ يشعرُ بالراحة، إذ لا يتَّفقُ أنْ يقع كلُّ محسوديه في الضنَكِ والبلاءِ الذي يرجوه لهم، لذلك فهو لو شعرَ بشيءٍ من الراحة لوقوعِ أحدِ محسوديه في بلاءٍ فإنَّ سائرَ محسوديه ما زالوا في عافيةٍ من البلاء لهذا يظلُّ يشعرُ بالحُزن والضيقِ لأنَّ محسوديه ينعمون بالخير الذي يتمنَّى زوالَه عنهم بل إنَّ محسودَه الذي وقع في بلاءٍ قد يتعافى منه، لذلك فالحاسدُ في ترقُّبٍ وتحسُّب فلعلَّ محسودَه يتعافى من بلائه، لذلك فهو لا ينعَمُ براحةٍ أبداً، فهو دائمُ الحُزنِ والتوتُّر، لا يكادُ لا يخرجُ من همِّ حتى يقعَ في غمٍّ، فهو يتقلَّبُ من غيظٍ إلى حسرةٍ، ومن حسرةٍ إلى ترقُّب ومنه إلى كمَدٍ جاثم يقضُّ مضجعَه ويُعكِّرُ صفوَ معيشتِه، ولهذا ورد عن الإمام الصادق (ع) أنَّه قال: "لا راحةَ لحسود"(4) وليس "لحسودٍ لذَّة"(5) فإذا حظيَ بنعمةٍ نغَّص الابتهاجَ بها شعورُه أنَّ محسودَه ينعمُ بمثلِها، وهذا هو مؤدَّى ما ورد عن أميرِ المؤمنين (ع): أنَّ "الحسدَ مطيةُ التعَب" و"الحسودُ كثيرُ الحسرات"(6) و"الحسدُ يُنشئ الكمَد"(7).

 

ويقولُ أميرُ المؤمنين (ع) كما هو المأثور عنه: "ما رأيتُ ظالماً أشبهَ بمظلومٍ من الحاسد، نفَسٌ دائمٌ، وقلبٌ هائم، وحزنٌ لازم"(8) فهو ظالمٌ لأنَّه متعدٍّ يعملُ على إيقاع محسودِه في الأذى والضرر ولكنَّه أشبهُ بالمظلوم لأنَّ ما يُصيبُه جرَّاءَ حسدِه أسوأُ من الأذى الذي يُصيبُ محسودَه، فقد يكونُ محسودُه في غفلةٍ ممَّا يُدبِّرُ له، فهو في راحة، وقد لا يتمكَّنُ من النيلِ من محسودِه، وقد يُصيبًه بأذىً يتعافى منه، وأمَّا هو أعني الحاسدَ فهو مشغولُ القلبِ، دائمُ الحزن، يشعرُ بالغيظِ والحسرةِ، ويكادُ الكمَدُ يفتكُ به، ولهذا ورد عن الإمام الصادق (ع) أنَّ: الحاسدَ مُضرٌّ بنفسِه قبل أنْ يضرَّ بالمحسود"(9) وأُثِرَ عن أمير المؤمنين (ع) أنَّه قال: "لله درُّ الحسد ما أعدلَه! بدأ بصاحبِه فقتلَه"(10) ففي الوقتِ الذي يسعى الحاسدُ للإضرار بمحسودِه فإنَّه يكون سبباً لإيقاع نفسِه في ضررٍ أشد، وهذا هو معنى ما أفاده الإمامُ عليٌّ (ع): "الحسدُ لا يجلبُ إلا مضرَّةً وغيظاً يُوهنُ قلبَك ويُمرِضُ جسمَك"(11).

 

الحسدُ مِن أشدِّ الأمراض فتكاً بدين الإنسان:

وأمَّا أنَّ الحسدَ من أشدِّ الأمراض فتكاً بدين الإنسانِ فلأنَّه يدفعُ المبتلى به إلى اجتراحِ كبائر الذنوب فيدفعُه إلى أنْ يمتهنَ محسودَه ويتنقصَه ويحتقرَه ويسخرَ منه أو يتملَّقَه في محضرِه ويغتابَه ويُذيعَ أسرارَه في غيبته، ويكشفَ للناسِ عن معايبه فإنْ لم يجد له عيباً يصلحُ كشفُه لإرواء غليلِه افترى عليه عيباً للإيقاعِ به والهدمِ لمروءتِه، ويدفعُه حسدُه إلى أنْ يُوغرَ صدورَ الناس على محسودِه، ويُعجبُه أنْ تفسدَ علاقتُه بأهلِه وذوي قرابتِه وأصدقائِه وأنْ يضعفَ قدرُه ومقامُه بين الناس وأنْ يُخفِق في مساعيه في تحصيل رزقِه وسائرِ مصالحِه، ولذلك فهو يعملُ على كلِّ ذلك بالكذبِ والبهتانِ والغيبةِ والنميمةِ والمكرِ والخديعةِ والاحتيال.

 

الحاسدُ ساخطٌ على قضاءِ الله متمرِّدٌ على أوامره:

ثم إنَّ الحاسدَ ساخطٌ على قضاءِ الله تعالى وقدرِه وتأبى نفسُه الإذعانَ للحقِّ إذا كان في جانب محسودِه بل يدفعُه حسدُه إلى إنكار أمرِ الله تعالى أو التمرُّدِ عليه ومجاوزتِه إذا كان قد وجد في أمرِ الله تعالى ما يُعلي من شأنِ محسوده، ولهذا تمرَّد إبليسُ على أمر الله تعالى فلم يمتثل تكليفه بالسجود لآدم (ع) لا لعدم إيمانه بربوبيَّة الله جلَّ وعلا بل لأنَّه وجدَ في الامتثال لأمرِ الله ما يُعلي من شأنِ محسودِه وذلك هو ما قاده إلى التمرُّدِ على الله تعالى والتحدِّي لإرادتِه.

 

والحسدُ هو أبرزُ الأسباب التي دفعت ذوي الوجاهات إلى المعاندة لدعوات الأنبياء قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾(12) وهو الذي دفع الكثيرَ من اليهود وعامَّةَ أهلِ الكتاب إلى عدم الإقرار بنبوَّةِ النبيِّ الكريم (ص) رغم تبيُّن الحقِ وسطوعِه قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾(13) وهذا الداءُ هو أحدُ أبرزِ أسباب الانحراف الذي مُنيت به هذه الأمة فتنكَّرت لوصية رسول الله (ص) واستفرغت وسعَها في إقصاء أهل بيته (ع) عن المحلِّ الذي أحلَّهم اللهُ تعالى فيه.

 

يقول أَبُو عَبْدِ اللَّه الصادق (ع) كما في صحيحة أبي الصباح الكناني: نَحْنُ قَوْمٌ فَرَضَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ طَاعَتَنَا .. ونَحْنُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، ونَحْنُ الْمَحْسُودُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِه﴾(14).

 

الحسدُ يستأصلُ دينَ الإنسانِ مِن منابتِه:

فالحسدُ إذن هو من أشدِّ الأمراض النفسية فتكاً بدين الإنسان، ولعلَّه لذلك قال رسول الله (ص) فيما روي عنه: "ألا! إنَّه قد دبَّ إليكم داءُ الأمم مِن قبلكم وهو الحسد، ليس بحالقِ الشعر، لكنَّه حالقُ الدين"(15) فالحَلْقُ يستأصلُ الشعر من منابتِه كذلك هو الحسدُ فإنَّه يستأصلُ دينَ الإنسان من منابته، فمنابتُ التديُّنِ هي الورعُ والتقوى ومكارمُ الأخلاق كالرفقِ والشفقةِ والرأفةِ والرحمةِ والحكمةِ والحلمِ وسَعةِ الصدرِ، فإذا انطوى القلبُ على داءِ الحسد استأصلَ كلَّ هذه السجايا من جذورِها فلا يحجزُه ورعٌ عن ارتكابِ العظائم في حقِّ محسودِه ولا تمنعُه تقوى من التجاوزِ لحدودِ الله إذا وجد أنَّ التجاوزَ لحدود الله تعالى هو الطريقُ المفضي لإيقاع الضررِ بمحسودِه، ولا يعبأُ بمقتضيات الحكمة، ولا تأخذُه في محسوده شفَقة، ولذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين(ع) أنَّ: "الحسودَ سريعُ الوثبة بطيئ العطفة"(16) فهو لاستحكام الحسدِ من قلبه يُبادِرُ إلى فعلِ كلِّ ما فيه إساءةٌ لمحسوده دون أنْ يتأمَّل في عاقبةَ ما يفعلُ، ودون أنْ يعبأَ بمقتضياتِ الحكمة والتعقُّل، فاستيلاءُ الحسدِ على قبله يُفقدُه صوابَه، وكذلك فإنَّ المُبتلى بالحسد لا تأخذُه رأفةٌ وشفَقةٌ على محسودِه فهو يُوغِل في ظلمِه والبغي عليه دون أنْ ينتابَه شعورٌ بالعطف عليه، وكذلك فهو يبتهجُ ويُظهِرُ الشماتةَ والارتياح حين يقعُ محسودَه في مصيبة.

 

معنى المحقِ لغةً:

وهذا هو المراد ظاهراً من قول الإمام الهادي (ع) إنَّ "الحسدَ ماحقُ الحسنات" فالمحقُ بمعنى الاستئصالِ والإفناءِ والمحوِ والإهلاكِ والإزالةِ والإبطالِ وما يقربُ من هذه المعاني، وأصله إفناءُ الشيء ومحوُه تدريجاً، فمعنى قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾(17) هو أنَّه تعالى يُهلك المال المتحصَّل من الربا ويُذهِبُ ببركته، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾(18) هو أنَّه يستأصلُهم ويمحو أثرَهم.

 

محقُ الحسناتِ محقٌ لأسبابها:

وعليه فمعنى قول الإمام الهادي (ع) إنَّ: "الحسد ماحقُ الحسنات" هو أنَّه يمحو الحسناتِ ويستأصلُها، ومعنى محقِه للحسنات هو أنَّه يمحقُ ويستأصلُ أسبابَها أي أنَّه يمحقُ الأسبابَ والدوافعَ التي تبعثُ على فعل الأفعال الحسنة، فأسبابُ الأفعالِ الحسنة هي مثل التقوى الورعِ ومكارمِ الأخلاق كالرفقِ والشفقةِ والرأفةِ والرحمةِ والحكمةِ والحلمِ وسَعةِ الصدر، فهذه هي منابتُ الدين الباعثةُ على فعل الحسنات، فمعنى محقِ الحسد للحسنات هو أنَّه يمحقُ منابتَ الحسنات وأسبابَها أي أنَّه يمحقُ الدين ويستأصلُه من قلبِ الحاسد، وبذلك يكون مفادُ الروايةِ المأثورة عن الإمام الهادي (ع) مساوقاً لمفاد الحديثِ المرويِّ عن النبيِّ الكريم (ص) من أنَّ الحسدَ حالقٌ للدين.

 

فليس معنى مَحقِ الحسدِ للحسنات هو أنَّه يمحو المثوبة المتحصَّلة من فعلِ الطاعات كما هو المستظهَرُ بدواً، فإنَّ مقتضى هذا الفهم للرواية هو أنَّ الحسدَ يُحبطُ الطاعات وهذا غيرُ مرادٍ ظاهراً، إذ أنَّ المعصيةَ لا تُحبط الطاعة كما عليه مذهبُ الإمامية فالمتعيَّن أنَّ المراد من مَحقِ الحسدِ للحسنات هو أنَّه يمحقُ الأسباب الباعثة على فعلِ الحسنات والطاعات، فهو يمحقُ التقوى والورعَ والرأفةَ والحلمَ من قلب الحاسد أي أنَّه يمحقُ الإيمانَ الصادق من قلبِ الرجل، لذلك لا يكون ثمة ما يبعثُه على فعلِ الحسنات، وهذا المعنى هو المناسب لما ورد عن الإمام الباقر (ع) من: "إنَّ الحسد ليأكلُ الإيمانَ كما تأكلُ النارُ الحطبَ"(19) فهو يأكلُ الإيمانَ الباعثَ على فعل الحسنات، فإذا خلا القلبُ من الإيمانِ الصادق صار موطناً للأمراض والأخلاقِ المرذولة.

 

محقُ الحسد للحسنات يعني محق أثرها:

ويُحتمل أنَّ المراد من مِحقِ الحسدِ للحسناتِ هو أنَّه يمحقُ أثرَها، فالأثرُ المنتظَر من فعل الحسنات هو رضوانُ الله تعالى ورحمتُه وغفرانُه وكرامتُه المفضيةُ لدخول الجنة، والأثرُ المنتظَرُ من فعل الحسنات في الدنيا هو توفيقُ الله والكفايةُ من خِذلانِه وحسنُ الخاتمة، فمفاد الرواية بناءً على ذلك هو أنَّ الحسد يمنع من أنْ تؤثِّر الحسنات والطاعات آثارَها، فقد يأتي الحاسدُ بالفرائض والطاعاتِ والحسنات ولكنَّها لا تُنتجُ رضوانَ اللهِ ومغفرتَه ورحمتَه، فالحاسدُ مهما فعل من الحسناتِ فإنَّه لن يحظى برضوان الله تعالى وغفرانِه ولن يحظى بتوفيقِ الله ولن تكون عاقبتُهُ إلى خير. فهذا هو معنى أنَّ الحسد ماحقُ الحسنات.

 

يمحق الحسنات يعني يمنع من الانتفاع بها:

ويُحتمل أنَّ المراد من محق الحسد للحسنات هو أنَّ الحسد لعظيم ما يترتَّب عليه من آثام فإنَّه يمنعُ من الانتفاع بالحسنات في استحقاق الدخول للجنة، فكأنَّ الحسنات التي كان يفعلُها الحاسدُ قد ذهبت هباءً منثورا لأنَّها لم تنفع في تحصيله للغايةِ القصوى مِن فعل الحسنات وهي دخول الجنَّة. فالآثام وإنْ لم تكن محبِطةً للطاعات ولكنَّها قد تحولُ بعد الموازنة بينها وبين الطاعات من تأثير الطاعات أثرَها في الاستحقاق لدخول الجنَّة كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾(20) فالظلمُ ومنه الحسد يكون بمثابةِ الماحي للإيمان وللطاعات والحسنات لأنَّه يمنعُ من تأثيرها أثرَها وهو الأمنُ من العذاب والدخول للجنَّة.

 

إشكالٌ وجواب:

ثم إنَّ هنا أمراً تجدرُ الإشارةُ إليه وهو أنَّه قد يُقال إنَّ الحسد من أفعال القلب ومن المعلوم أنَّ الإنسان لا يُحاسَبُ ولا يُؤثم على ما يجولُ في قلبه من خواطر، ولذلك ورد في الحديث النبويِّ الشريف أنَّه "رفع عن أمتي تسعة" وعدَّ منها الحسد(21).

 

والجواب أنَّ الحسدَ الذي أفادت الروايات أنَّه ماحقُ الحسنات وأنَّه حالقٌ للدين وأنَّه يأكلُ الإيمانَ ويأكلُ الحسنات كما تأكل النارُ الحطب، الحسد المراد من هذه الروايات هو الذي يقودُ واجدَه للإضرار بمحسودِه وظلمِه والبغيِ عليه، وأما الحسد الذي لا يتعدَّى خطرات القلب فهو معفوٌّ عنه بحسب حديث الرفع ولذلك ورد عن الرسول (ص): "وإذا حسدتَ فلا تبغ"(22) يعني إذا انتابك شعور بالحسد فلا تسترسل معه واحذر أنْ تظلم محسودَك وتبغي عليه، فالإثم المترتِّب عن الحسد يكون بالبغي على المحسود والإضرار به بمثل غيبته أو تنقصِه أو المكرِ به أو الإنكارِ لفضله أو الحيلولة دون تمكينه من حقِّه وما أشبه ذلك من الشرور التي يكون باعثها الحسد، ولعله لذلك أمرت الآية من سورة الفلق بالاستعاذة من شرِّ الحاسد وليس من الحسد ذاتِه قال تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾(23) فالاستعاذة من الحاسد باعتبار ما يترتَّب على حسده من شرور يجترحُها في حقِّ المحسود.

 

أكتفي بهذا المقدار رعاية للوقت

اللهمَّ على محمد وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ / مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ / وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ / وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ / وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾(24).

 

 والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

4 من رجب المرجَّب 1444هـ - الموافق 27 يناير 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

-----------------------------------------

1- سورة الحشر / 18.

2- بحار الأنوار -المجلسي- ج69 / ص199.

3-عيون الحكم والمواعظ -الواسطي- ص39.

4- بحار الأنوار -المجلسي- ج70 / ص252.

5- الخصال -الصدوق- ص271.

6- مستدرك الوسائل -النوري- ج12 / ص22.

7- جامع أحاديث الشيعة -البروجردي- ج13 / ص553.

8- مستدرك الوسائل -النوري- ج12 / ص17.

9- كشف الريبة عن أحكام الغيبة -الشهيد اثاني- ص53.

10- بحار الأنوار -المجلسي- ج70 / ص241.

11- مستدرك الوسائل -النوري- ج12 / ص17.

12- سورة النساء / 54.

13- سورة البقرة / 109.

14- الكافي -الكليني- ج1 / ص186.

15- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج15 / ص368.

16- بحار الأنوار -المجلسي- ج70 / ص256.

17- سورة البقرة / 276.

18- سورة آل عمران / 141.

19- الكافي -الكليني- ج3 / ص306.

20- سورة الأنعام / 82.

21- الخصال -الصدوق- ص417، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج15 / ص369.

22- تحف العقول -ابن شعبة الحراني- ص50.

23- سورة الفلق / 5.

24- سورة الفلق / 1-5.