الكراهة المعتبرة في الخُلْع

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد

 

المسألة:

هل يُعتبر في كراهة الزوجة المصحِّحة للخلع وأخذ الفدية أنْ تُصرِّح الزوجة لزوجها أنَّها لن تودِّيَ له حقوقه وستعمد إلى فعل ما يُغيظه أو يكفي الإحراز لكراهتها الموجبة للخشية من عدم أدائها لحقوقه له وإنْ لم تُصرِّح له بذلك؟ وهل يُعتبر في الكراهة أنْ تكون ذاتيَّة أو يكفي أنْ تكون الكراهة عارضة؟

 

الجواب:

المنسوب للشيخ الطوسي (رحمه الله) وغيره من المتقدِّمين هو عدم صحَّة الخُلع بمجرَّد الكراهة القلبيَّة وأنَّه يُعتبرُ مضافاً إلى الكراهة القلبية أنْ تُسمع زوجَها الكلام المنصوص عليه في الروايات كأنْ تقولُ له: "لا أبرُّ لك قسَماً ولا أُطيعُ لك أمراً ولا أغتسلُ لك من جنابة" ونُسب لابن إدريس دعوى الإجماع على ذلك(1).

 

مستند ما نُسب لمشهور المتقدِّمين:

ومستند ذلك هو ما يظهرُ من عددٍ من الروايات كصحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: الْمُخْتَلِعَةُ الَّتِي تَقُولُ لِزَوْجِهَا اخْلَعْنِي وأَنَا أُعْطِيكَ مَا أَخَذْتُ مِنْكَ، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَه أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئاً حَتَّى تَقُولَ واللَّه لَا أُبِرُّ لَكَ قَسَماً ولَا أُطِيعُ لَكَ أَمْراً ولآَذَنَنَّ فِي بَيْتِكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ ولأُوطِئَنَّ فِرَاشَكَ غَيْرَكَ، فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَهَا حَلَّ لَه مَا أَخَذَ مِنْهَا .."(2).

 

ومن ذلك أيضاً صحيحة أَبِي الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: إِذَا خَلَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَه فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وهُوَ خَاطِبٌ مِنَ الْخُطَّابِ، ولَا يَحِلُّ لَه أَنْ يَخْلَعَهَا حَتَّى تَكُونَ هِيَ الَّتِي تَطْلُبُ ذَلِكَ مِنْه مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضِرَّ بِهَا، وحَتَّى تَقُولَ لَا أُبِرُّ لَكَ قَسَماً ولَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ ولأُدْخِلَنَّ بَيْتَكَ مَنْ تَكْرَه ولأُوطِئَنَّ فِرَاشَكَ ولَا أُقِيمُ حُدُودَ اللَّه فَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْهَا فَقَدْ طَابَ لَه مَا أَخَذَ مِنْهَا"(3).

 

ومنها: صحيحة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: لَا يَحِلُّ خُلْعُهَا حَتَّى تَقُولَ لِزَوْجِهَا واللَّه لَا أُبِرُّ لَكَ قَسَماً ولَا أُطِيعُ لَكَ أَمْراً ولَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ ولأُوطِئَنَّ فِرَاشَكَ ولآَذَنَنَّ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ، وقَدْ كَانَ النَّاسُ يُرَخِّصُونَ فِيمَا دُونَ هَذَا، فَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ لِزَوْجِهَا حَلَّ لَه مَا أَخَذَ مِنْهَا .."(4).

 

ومنها: موثقة سَمَاعَةَ قَالَ: سَأَلْتُه عَنِ الْمُخْتَلِعَةِ فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَخْلَعَهَا حَتَّى تَقُولَ لَا أُبِرُّ لَكَ قَسَماً ولَا أُقِيمُ حُدُودَ اللَّه فِيكَ ولَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ ولأُوطِئَنَّ فِرَاشَكَ ولأُدْخِلَنَّ بَيْتَكَ مَنْ تَكْرَه مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْلَمَ هَذَا ولَا يَتَكَلَّمُونَهُمْ وتَكُونُ هِيَ الَّتِي تَقُولُ ذَلِكَ فَإِذَا هِيَ اخْتَلَعَتْ فَهِيَ بَائِنٌ ولَه أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهَا مَا قَدَرَ عَلَيْه .."(5).

 

وروايات أخرى قريبة من مضمون هذه الروايات التي ظاهرها اعتبار المواجهة لزوجها بهذا الكلام المنصوص عليه في الروايات وإلا لم تصح مخالعتها وأخذ الفدية من أموالها.

 

الوجه فيما عليه المتأخرون:

إلا أنَّه في مقابل ما نُسب للشيخ والمتقدِّمين من اعتبار تلفُّظ الزوجة بالكلام المنصوص عليه في الروايات ذهب المتأخِّرون(6) إلى عدم اعتبار أكثر من الكراهة البالغة حدَّا يُخشى معه أن يحملها على التجاوز لحدود الله وحقوقِ الزوج الواجبة، وأما الروايات المذكورة التي استند إليها المتقدِّمون فهي محمولة على اعتبار بلوغ الكراهة هذه المرتبة وأنَّه لا تصحُّ مخالعة الزوجة ما لم يكن ثمة ما يكشفُ عن بلوغ الكراهة لهذه المرتبة، فالمدارُ على المُنكشَف وهو الكراهة وليس الكاشف وهي الألفاظ المذكورة وإنَّما تمَّ النصُّ على الألفاظ المذكورة باعتبار أنَّها الوسيلة المتعارفة للكشف عن هذه المرتبة من الكراهة، ولذلك تصحُّ المخالعة لو انكشفت الكراهةُ من طريقٍ آخر غير الألفاظ المذكورة مثل الفعل، ويُؤيِّد ذلك أنَّ الآية -والتي هي الأصل في مشروعيَّة الخُلع- لم تشترط في صحَّة الأخذ للفدية أكثر من الخشية من التجاوز لحدود الله، فذلك هو المستظهَر من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾(7).

 

فظاهر الآية هو أنَّ المسوِّغ لأخذ الفدية والقبول بالبذل هو الخشية من التجاوز لحدود الله والتي لا تتَّفق من المؤمنة في هذا الفرض إلا عند الكراهة الشديدة، ولم تتصدَّ الآية لاعتبار ما يكشفُه عنها وهو ما يُعبِّر عن أنَّ المُعتبر هو واقع الكراهة بقطع النظر عن طريق الوقوف عليها والتثبت من تحقُّقها.

 

وكذلك يُمكن تأييد عدم اعتبار الألفاظ المنصوصة -كما أفاد صاحب الجواهر- بما ورد في صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: "إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا جُمْلَةَ لَا أُطِيعُ لَكَ أَمْراً مُفَسَّراً أَوْ غَيْرَ مُفَسَّرٍ حَلَّ لَه مَا أَخَذَ مِنْهَا ولَيْسَ لَه عَلَيْهَا رَجْعَةٌ"(8).

 

فإنَّ الواضح من الصحيحة كفاية قولها: "لَا أُطِيعُ لَكَ أَمْراً" وهو ما ينافي دعوى اعتبار التلفُّظ بالكلام المنصوص في الروايات السابقة فتكون هذه الصحيحة قرينة على أنَّه لا موضوعية ولا خصوصية للألفاظ المنصوصة وأنَّ المُعتبر هو المنكشَف دون طبيعة الكاشف وهذا هو المستظهَر من قوله (ع): "مُفَسَّراً أَوْ غَيْرَ مُفَسَّرٍ" يعني سواءً أردفت قولها "لَا أُطِيعُ لَكَ أَمْراً" بالكلام الذي نصَّت عليه الروايات الأخرى أو لم تُردفه بشيءٍ فيكفي في صحَّة الخلع وحليَّة الفدية ما يكشف عنه قولها: "لَا أُطِيعُ لَكَ أَمْراً" والذي من المستبعَد أن تكون لهذه الجملة أيضاً خصوصية فإنَّ العرف يفهمُ من سَوق الرواية اعتبار ما تكشفُ عنه هذه الجملة من الكراهة دون أنْ تكون لهذه الجملة خصوصيَّة.

 

نعم تأكيد الروايات على أنْ تقول كذا وكذا باعتبار أنَّ الكاشف غالباً عن الكراهة -والتي هي من فعل النفس- يكون بالكلام، وأما الفعل فهو وإن كان يكشف عن الكراهة ولكنَّ كشفه عن الكراهة معناه أنَّ الزوجة قد باشرت التجاوز لحدود الله والحال أنَّه لا يُعتبر في صحَّة الخلع أنْ تباشر الزوجة التعدِّي والتجاوز لحدود الله بل يكفي العزم أو الخشية، فلعلَّة لذلك تكرر في الروايات اعتبار تلفظها بهذه الألفاظ الكاشفة عن الكراهة والعزم أو الخشية من التعدِّي والتجاوز لحدود الله تعالى.

 

كفاية مطلق الكراهة الأعم من الذاتيَّة والعارضة:

وأمَّا أنَّه هل يُعتبر في الكراهة المصحِّحة للخلع أنْ تكون ذاتيَّة أو يكفي أنْ تكون عارضة، والمقصود من الكراهة الذاتية هي الكراهة الناشئة خصوصيات في الزوج كقُبح صورته أو اشتماله على عاهةٍ في جسده أو سوءٍ في خلقه أو كان فقيراً معدماً أو غير ذلك من الخصوصيَّات الراجعة إلى ذات الزوج.

 

وأمَّا الكراهة العارضة فهي الناشئة عن أفعال مباحة قام بها الزوج ولكنَّها ممقوتة لدى الزوجة كما لو تزوَّج عليها أو كان يُكثر من السفر أو من استضافة الناس في بيتِه أو كان يقتصر معها على الحقوق الواجبة ويترك الحقوق المستحبَّة، فالكراهة الناشئة عن ذلك وشبهه يُعبر عنها بالكراهة العارضة.

 

والظاهر أنَّه لم يذهب أحدٌ إلى التفصيل بين الكراهة الذاتية والكراهة العارضة إلا ما نسبه صاحبُ الحدائق(9) إلى بعض علماء البحرين ممَّن عاصرهم فإنَّ سيرتهم -كما أفاد- جارية على عدم القبول بإيقاع الخُلع إلا بعد التثبُّت من عدم كون الكراهة عارضة وأنَّها كراهة ذاتيَّة.

 

إلا أنَّ هذا التفصيل لم يقم عليه دليل بل الدليل على خلافة فإنَّ إطلاقات الأدلَّة قاضية بأنَّ المُعتبر في صحَّة الخُلع هو محضُ الكراهة الموجبة للخشية من التعدِّي لحدود الله تعالى بقطع النظر عن كون الكراهة ذاتية أو عارضة. وهذا هو المستظهَر من كلمات الأصحاب كما أفاد صاحب الحدائق(10) بل عدَّ صاحب الجواهر القول بالتفصيل من الغرائب الذي لا يساعد عليه كتابٌ ولا سنةٌ ولا فتاوى الأصحاب(11)..

 

نعم لو كانت الكراهة ناشئة عن إيذاء الزوج لزوجته بمثل الشتم أو التوهين أو الضرب فكرهته لذلك وبذلت له لتتخلَّص منه فإنَّه لا يجوز له أخذ البذل، ولو خالعها بناءً على ذلك دون أن يُتبعه بطلاق فهو باطل لعدم شمول إطلاق أدلَّة مشروعية الخلع لمثل هذا الفرض.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

7 / رجب الأصب / 1444ه

30 / يناير / 2023م

---------------------------------

1- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج33 / ص41، الحدائق -الشيخ يوسف البحراني- ج25 / ص598.

2-الكافي -الكليني- ج6 / ص140.

3-الكافي -الكليني- ج6 / ص140.

4- الكافي -الكليني- ج6 / ص140.

5- الكافي -الكليني- ج6 / ص140.

6- الحدائق -الشيخ يوسف البحراني- ج25 / ص598، جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج33 / ص43. 

7- سورة البقرة / 229.

8-الكافي -الكليني- ج6 / ص141.

9-الحدائق -الشيخ يوسف البحراني- ج25 / ص576.

10-الحدائق -الشيخ يوسف البحراني- ج25 / ص577. 

11- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج33 / ص44.